فضيحة أنطاليا.. لماذا أصبحت أكبر أزمات الحكم المحلي في تركيا؟

"ما يجري اليوم ليس مجرد محاسبة جنائية، بل اختباراً لمتانة البنية الأخلاقية والسياسية للحكم المحلي في تركيا"
تتصدر قضية الفساد الدائرة في بلدية أنطاليا، التابعة لأكبر أحزاب المعارضة التركية، المشهد السياسي بالبلاد، وذلك بعدما تحولت من شكوى فردية قد تبدو روتينية إلى واحدة من أكبر الأزمات التي تواجه الحكم المحلي في البلاد خلال السنوات الأخيرة.
في هذا الصدد يوضح الكاتب التركي "نديم شينير" في مقال نشره بصحيفة “حرييت” التركية، أنه في القضية تتشابك اتهامات تتعلق بالرشوة، استغلال النفوذ، وإساءة استخدام الموارد العامة، وصولا إلى مزاعم شراء منازل وسيارات وساعات فاخرة بأموال غير مشروعة.
ورغم أن القضاء لم يصدر أحكاماً نهائية بعد، فإنّ القضية بما تحمله من شهادات وتسريبات قد فتحت نقاشاً حساساً حول طبيعة الحكم المحلي في تركيا، وموقع حزب الشعب الجمهوري، وطريقة تفاعله مع الاتهامات.

شكوى مقاول
وعن الشرارة الأولى للقضية يقول الكاتب: إنها اندلعت مع إفادة المقاول يوسف ياد أوغلو الذي تعامل مع بلدية أنطاليا الكبرى منذ عام 2019، حيث كشف في أقواله أنه تعرّض لضغوط و ابتزازات مالية من مصطفى جوكهان بوجاك، نجل رئيس البلدية محيي الدين بوجاك.
وكانت بداية الأمر تبدو كخلاف معتاد بين المقاول والبلدية حول المستحقات المتأخرة، إلا أن التفاصيل التي سردها ياد أوغلو قادت إلى فتح تحقيقات أوسع.
وذلك بعدما تحدث عن إجباره على تقديم مبالغ مالية ضخمة تحت ذرائع مختلفة. فقد أشار إلى أنه دفع ما يقارب 8.5 ملايين ليرة (200 ألف دولار) لاستخدامها في الحملة الانتخابية، وإلى أنه أُجبر لاحقاً على شراء منزل تبلغ قيمته نحو 30 مليون ليرة (700 ألف دولار) لزوجة أحد المسؤولين.
ومع تعمّق التحقيق، ظهرت شهادات أخرى تحدثت عن فرض ما يشبه “التبرعات الإلزامية” لمؤسسة كونيالتي للثقافة والسياحة والتعليم مقابل إصدار تراخيص الإعمار.
وهو ما أوحى بوجود آلية ممنهجة لتحويل الأموال عبر قنوات تبدو قانونية ولكنها أدّت، بحسب الشهادات، دوراً في تمرير رشا تحت غطاء العمل الخيري.
كما كشفت إفادات إضافية عن عمليات تحويل للأموال عبر مكاتب صرافة بطرق تهدف إلى إخفاء مصادرها، مما أضفى على القضية بعداً مالياً أكثر تعقيداً.
ومع تتابع الشهادات وتوسع التحقيقات يوماً بعد يوم، أخذت القضية بعداً أكبر من المتوقع، إذ تحولت في غضون أسابيع إلى عملية واسعة شملت عشرات الأشخاص.
فقد بلغ عدد الموقوفين في هذه المرحلة سبعة وثمانين شخصاً، وهو رقم يعكس حجم التشابكات داخل هذه الشبكة، خصوصاً بعد أن تبين أن من بين الموقوفين مسؤولين كباراً في البلدية، ورجال أعمال بارزين.
إلى جانب أفراد من عائلات بعض أصحاب المناصب، ما جعل القضية تنتقل من كونها شكوى فردية إلى ملف فساد واسع النطاق ينال مستويات إدارية وسياسية متعددة داخل المدينة.
شبكة فساد
وبحسب الكاتب التركي، تكشف الشهادات المتداولة، على الرغم من أنها لم تُثبت قضائياً بعد، عن ظهور نمط متكرر سبق أن برز في قضايا فساد مشابهة داخل تركيا.
حيث توحي هذه الإفادات بوجود آليات غير رسمية تتحكم في عمل بعض البلديات، وتعيد تشكيل العلاقة بين الإدارة المحلية والقطاع الخاص.
ففي صميم هذه الآلية يبدو أن شبكات مناقصات البلدية لا تُدار وفق معايير التنافسية البحتة، بل تُستخدم كأداة لتوجيه المشاريع نحو شركات معينة مقابل ما يُقدَّم في صورة “تبرعات” أو مدفوعات غير رسمية يُقصد بها شراء النفوذ أو التسهيلات.
وتتعمق الصورة أكثر مع دور المؤسسات شبه المدنية، مثل الجمعيات والوقفيات، الذي كانت تلعبه في نقل الأموال. حيث تظهر الشهادات أن بعضها تحوّل إلى قنوات مالية تُفرض عليها تبرعات تأخذ شكلاً قانونياً، لكنها تؤدي عملياً وظيفة الرشوة المقنّعة.
وفي موازاة ذلك، تتقاطع الحياة الشخصية لبعض المسؤولين مع القرارات الإدارية؛ إذ تُمنح امتيازات مثل المنازل والسيارات، أو تُفتح الأبواب لوظائف ومزايا خاصة لأشخاص تربطهم علاقات شخصية بصناع القرار، ما يخلط بين المجالين العام والخاص ويقوّض أسس الحوكمة السليمة.
بالإضافة إلى ذلك، تبرز الشهادات صورة أخرى لا تقل خطورة عمّا سبق، وهي استخدام وسائل غير قانونية لتسوية النزاعات التجارية؛ إذ تحدث بعض المقاولين عن تعرضهم لضغوط مباشرة من قبل مسؤولين أو مقربين منهم، وذلك في تجاوز واضح لمبدأ الفصل بين السلطة الإدارية والمصالح الفردية.
وإذا صحت هذه الأنماط، فإنها لا تعكس مجرد تصرفات فردية، بل تشير إلى وجود مشكلات بنيوية في منظومة الرقابة داخل البلديات، وإلى ثقافة حكم محلية تسمح بتداخل المصالح الشخصية مع الواجبات الرسمية، دون وجود آليات ردع فعالة.
وبذلك يصبح الفساد ناتجاً عن خلل منهجي لا عن أخطاء معزولة. وهو ما يجعل معالجة القضية تتجاوز البعد القضائي لتصبح تحدياً مؤسسياً يمسّ بنية الحكم المحلي نفسها.

رواية المؤامرة
ويشير الكاتب التركي إلى أنه منذ اللحظة الأولى لتصاعد الأزمة، تبنّى حزب الشعب الجمهوري خطاباً يعد ما يجري “عملية سياسية” تستهدف البلديات التي يديرها.
لكنّ هذا السرد بدا أقل تماسكاً مع ظهور اعترافات رسمية، ومع انتشار أخبار تتحدث عن مصادرات عديدة؛ منها سيارة أودي وساعة رولكس وممتلكات عقارية مرتبطة بمسؤولين وعائلاتهم.
فخطاب "المؤامرة" في مثل هذه الحالات يواجه معضلة واضحة؛ فمن جهة يحتاج الحزب إلى الدفاع عن كوادره للحفاظ على تماسكه الداخلي وصورته أمام جمهوره، ومن جهة أخرى فإن التعالي على الحقائق المتداولة إعلامياً وقضائياً يعمّق الشكوك ويجعل الحزب يبدو وكأنه غير قادر على التعامل مع الأزمة بشفافية.
بذلك فإنّ هذا التوتر يضع قيادة الحزب بين ضغوط قواعده وامتداداته الإدارية من ناحية، وضغوط الرأي العام والخصوم السياسيين من ناحية أخرى.
ومن المرجح أن تستمر القضية في التوسع قضائياً، خصوصاً في ظل وجود شهادات كثيرة ضمن آلية "الندم الفعّال"، والتي عادة ما تمثل نقطة انطلاق لسلسلة من التحقيقات المتتابعة.
أمّا على المستوى السياسي، فسيكون لهذه القضية تأثير واضح على صورة حزب الشعب الجمهوري، وذلك ليس فقط في أنطاليا بل في مدن أخرى يديرها. نظراً لأن الثقة في البلديات تلعب دوراً مركزياً في التصويت للحزب على المستوى المحلي.
وبغض النظر عن النتيجة القضائية النهائية لهذه القضية، فإنها تطرح سؤالاً أكبر: كيف يمكن للنظام المحلي في تركيا أن يصمد أمام هذه الاختبارات دون إصلاح جذري في أساليب الإدارة والرقابة؟
فإن ما يجري اليوم ليس مجرد محاسبة جنائية، بل اختبار لمتانة البنية الأخلاقية والسياسية للحكم المحلي في البلاد، يختم الكاتب التركي.














