"يوروفايتر".. كيف تمثل خطوة في مسار تركيا نحو الاكتفاء الدفاعي الذاتي؟

"تركيا في خضم مرحلة انتقالية عسكرية وصناعية"
بفضل قوته المتزايدة وأساطيله من الطائرات المسيّرة، احتل الجيش التركي المرتبة التاسعة عالميا في تصنيف القوة النارية العالمية لعام 2025، كما جاءت قواته الجوية في المرتبة نفسها.
ومؤسسة القوة النارية العالمية تُعد واحدة من أبرز المبادرات البحثية المستقلة التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، وتركّز على تحليل القدرات العسكرية للدول عبر العالم.
وبحسب القائمين عليها، فإن المؤسسة لا ترتبط بأي جهة رسمية أو عسكرية، وتعمل بصورة مستقلة تماما.
ونشرت صحيفة "يني شفق" التركية مقالا للكاتب يحيى بوستان ذكر فيه أن "هذا المؤشر قد أصبح مرجعا مهما لتقدير القدرات العسكرية للدول، رغم أن منهجيته كثيرا ما تثير النقاش بسبب تنوع المعايير المستخدمة فيه، وعدم وضوح مدى دقته في بعض الجوانب النوعية، مثل الخبرة القتالية أو الانتشار الجيوسياسي".
تطور القدرات
وقال الكاتب التركي: إنه "في تقرير عام 2025 احتلت تركيا المرتبة التاسعة ضمن قائمة أقوى جيوش العالم، وذلك بحسب تصنيف القوة النارية العالمية، في حين جاءت الولايات المتحدة وروسيا والصين في المراتب الثلاث الأولى على التوالي".
ورأى أن "هذا الترتيب ليس مفاجئا في حد ذاته؛ إذ تعكس المراتب الأولى التفوق التقليدي للدول ذات القدرات الاقتصادية والعسكرية العملاقة، لكن المثير للاهتمام هو تمكن الجيش التركي من الحفاظ على موقعه ضمن العشر الأوائل، في ظل منافسة شرسة من جيوش كبرى أوروبية وآسيوية".
وتابع: “يعتمد مؤشر القوة النارية على أكثر من 60 معيارا لتقييم قوة الجيوش؛ حيث تشمل عدد الجنود النظاميين والاحتياطيين، وحجم المعدات العسكرية من دبابات وطائرات وسفن وغواصات".
وأيضا "الميزانية الدفاعية السنوية، مع القدرات اللوجستية، والبنية التحتية، والتكنولوجيا العسكرية، إضافة للعوامل الجغرافية مثل الوصول إلى الممرات البحرية أو الموارد الطبيعية".
ومع ذلك، فإن "التقرير لا يوضح دائما مدى احتساب الخبرة القتالية الفعلية ضمن التقييم، وهي نقطة مهمة لصالح تركيا، فباستثناء الولايات المتحدة وروسيا، لا تمتلك أي من الدول التسع الأولى خبرة ميدانية طويلة في القتال الحديث كما تمتلكها القوات المسلحة التركية".
فقد خاضت القوات المسلحة التركية خلال العقدين الأخيرين عمليات قتالية متعددة داخل وخارج الحدود، من مكافحة الإرهاب في جنوب شرق البلاد إلى التدخلات العسكرية المباشرة في سوريا والعراق وليبيا.
مرورا بالدعم العسكري لأذربيجان في حرب قره باغ الثانية، والمشاركة النشطة في مهام حفظ السلام والتعاون العسكري في إفريقيا وشرق المتوسط.
وقال بوستان: إن "هذه الخبرة القتالية، إلى جانب الانتشار الجيوسياسي الواسع للقواعد والمراكز العسكرية التركية في الخارج، جعلت من تركيا قوة إقليمية فاعلة ذات امتداد عسكري دولي".
وأضاف أن "أنقرة تمتلك اليوم قواعد ونقاط انتشار في مناطق إستراتيجية مثل قطر، والصومال، والعراق، وسوريا، وشمال قبرص، وأذربيجان، وليبيا، فضلا عن شبكة من التعاونات العسكرية مع دول البلقان وإفريقيا".
وهذا الانتشار لا يعزز فقط من قدرة تركيا على حماية مصالحها، بل يمنحها ميزة إضافية في موازين الردع الإقليمي مقارنة بدول تفتقر إلى هذا الحضور الخارجي.

مرحلة انتقالية
أما على صعيد القوة الجوية، فقد أظهر تقرير القوة النارية العالمية أن سلاح الجو التركي يحتل المرتبة التاسعة عالميا عام 2025، متقدما على العديد من القوى الإقليمية والدولية.
وجاءت إسرائيل في المرتبة 16 واليونان في المرتبة 19، "ما يعكس تفوق أنقرة الواضح في المنطقة من حيث القدرة الجوية الشاملة".
ويرجع ذلك جزئيا إلى امتلاك تركيا واحدة من أقوى وأحدث أساطيل الطائرات المسيّرة المسلحة في العالم؛ إذ أصبحت هذه الطائرات عنصرا أساسيا في العقيدة العسكرية التركية.
فقد غيّرت طائرات "بيرقدار تي بي 2" و"أقنجي" و"قزل إلما" معادلات القوة في عدد من النزاعات التي شاركت فيها أنقرة وحلفاؤها، وأثبتت فعالية غير مسبوقة في الميدان، لدرجة أن عدة دول باتت تسعى لشراء هذه النماذج، أو عقد شراكات إنتاج مشترك مع الصناعات الدفاعية التركية.
غير أن امتلاك أسطول قوي من المسيّرات لا يلغي الحاجة إلى مقاتلات مأهولة متعددة المهام ذات قدرات تفوق جوي عالية، فالمسيرات رغم تطورها ما زالت محدودة في المدى والحمولة والسرعة مقارنة بالطائرات المقاتلة التقليدية.
من هنا يأتي الجدل حول استمرار تركيا في السعي لشراء طائرات “يوروفايتر تايفون” وF-16 وربما F-35، رغم تقدمها الكبير في مجال التصنيع المحلي. وفق بوستان.
واستطرد: “في الواقع، إن النقاش لا يدور حول الحاضر بل حول المستقبل القريب، فتركيا اليوم في خِضَمّ مرحلة انتقالية عسكرية وصناعية تهدف إلى التحول من الاعتماد على الخارج إلى الاعتماد الكامل على الإنتاج المحلي في التسليح”.
ويقف في صميم هذه الإستراتيجية مشروع الطائرة المقاتلة الوطنية "قَان"، التي تمثّل الجيل الخامس من المقاتلات الحديثة.
ورغم أن العمل على إنتاجها يسير وفق جدول زمني محدد، إلا أن دخولها الخدمة التشغيلية الكاملة يحتاج إلى سنوات من التجارب والتدريبات والتعديلات التقنية.
إلى جانب ذلك، هناك مشروع الطائرة المقاتلة غير المأهولة "قزل إلما"، التي يُتوقع أن تنضم إلى الخدمة عام 2026، لتجعل من سلاح الجو التركي واحدا من القوات القليلة في العالم التي تشغّل أنظمة مأهولة وغير مأهولة بتنسيق إلكتروني متكامل.
ومع اكتمال مشروع "القبة الفولاذية"، وهو نظام الدفاع الجوي التركي متعدد الطبقات، ستكتمل منظومة الدفاع الجوي الوطني، مانحة تركيا استقلالية أكبر عن المنظومات الغربية، يؤكد الكاتب بوستان.
واستدرك: “لكن حتى اكتمال هذه المشاريع، لا يمكن ترك فجوة في قدرات الردع الجوية؛ فالقوات الجوية التركية تحتاج إلى الحفاظ على أسطول حديث جاهز لأي سيناريو، ولهذا تسعى أنقرة إلى تحديث طائراتها الحالية وتعويض النقص المحتمل عبر صفقات شراء جديدة”.
وتابع: “لهذا السبب تحديدا، فإن مسألة اقتناء مقاتلات يوروفايتر تايفون التي تُعد من بين أفضل المقاتلات الأوروبية متعددة المهام، تعود إلى الواجهة من جديد”.

احتياجات وتوقعات
وذكر الكاتب أن "الأسابيع الأخيرة شهدت تطورات دبلوماسية مهمة في هذا الملف، فخلال زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الخليج، طُرحت مسألة شراء طائرات يوروفايتر من قطر وسلطنة عُمان، بينما زار رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أنقرة في توقيت متزامن تقريبا، ومن المقرر أن يزور المستشار الألماني فريدريش ميرتس تركيا أيضا".
ولفت إلى أن "هذه التحركات أثارت تساؤلات حول ما إذا كانت هناك صفقة ثلاثية أو متعددة الأطراف قيد التشكيل، وما هو الدور الحقيقي لكل دولة فيها".
ووفقا للمعلومات المتوافرة فإن زيارة المستشار الألماني لا ترتبط مباشرة بملف يوروفايتر؛ إذ إن الألمان لم يشاركوا فعليا في المفاوضات الجارية بين أنقرة ولندن، رغم كونهم أحد الشركاء الأربعة في الكونسورتيوم الذي يُنتج الطائرة إلى جانب بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا.
وقال بوستان: إن "المفاوضات الفعلية تمت مع الجانب البريطاني، وتهدف تركيا من خلالها إلى الحصول على النسخة الأحدث والأكثر تطورا من الطائرة (ترانش 3)”.
وبناء على التحليل الأولي للاحتياجات، تسعى تركيا إلى شراء 20 طائرة في المرحلة الأولى، على أن يُرفع العدد لاحقا إلى 40 طائرة في حال توفرت الظروف المناسبة.
وتشير التقديرات إلى أن تسليم 20 طائرة من بريطانيا مؤكدة، ومن المتوقع أن تتسلّمها أنقرة خلال ثلاث سنوات.
غير أن عملية التسليم تواجه تأخيرا محتملا بسبب ازدحام خط الإنتاج بطلبيات سابقة من سلاحي الجو البريطاني والقطري.
ولهذا برزت فكرة شراء طائرات جاهزة من قطر وعُمان من أجل تقليص فترة الانتظار.
وتمتلك قطر أسطولا من مقاتلات يوروفايتر يفوق احتياجاتها التشغيلية، فهي لا تستخدمه بكامل قدراته، ما يجعلها منفتحة على فكرة البيع.
وتشير التسريبات إلى أن العدد المحتمل هو 12 طائرة جاهزة بالكامل من الطراز الأحدث (ترانش 3)، والتي لا تحتاج لأي تحديث.
وبعد وصول هذه الطائرات إلى تركيا، سيبدأ برنامج تدريب مكثف للطيارين الأتراك، بحيث تصبح جاهزة للمهام القتالية خلال نحو 18 شهرا.
أما سلطنة عمان، فهي أيضا طرف محتمل في الصفقة، لكن طائراتها ستحتاج إلى تحديثات تقنية قبل دخولها الخدمة التركية.
وبذلك، تبدو الصفقة في طور التبلور على ثلاث مراحل، شراء 20 طائرة جديدة من بريطانيا، و12 من قطر، و12 من سلطنة عُمان، ليصل العدد الإجمالي إلى 44 طائرة يوروفايتر تايفون.
وعلى إثر هذه التطورات فقد أكد وزير الدفاع التركي يشار جولر هذه الأرقام في تصريحاته الأخيرة، موضحا أن المفاوضات وصلت إلى مرحلة متقدمة.
وأشار الكاتب إلى أن" هذا التوجه يعكس إستراتيجية تركية شاملة ومتوازنة، تقوم على الجمع بين الاحتياج الفوري للحفاظ على الردع الجوي والاستعداد الطويل المدى للاكتفاء الذاتي في التسليح".
وأكد أن “أنقرة تدرك أن التحولات الجيوسياسية السريعة في الشرق الأوسط وشرق المتوسط تتطلب بقاء سلاحها الجوي في حالة جاهزية قصوى، ريثما تُكمل مشاريعها الوطنية الكبرى”.
واستطرد: “من خلال توزيع مشترياتها بين دول متعددة كالمملكة المتحدة وقطر وعُمان، فإنها لا تحقق فقط تنويعا في مصادر التوريد، بل ترسخ أيضا شبكة تحالفات سياسية وعسكرية مرنة تعزز موقعها الإقليمي والدولي”.
وختم الكاتب التركي مقاله قائلا: “لا يمكن النظر إلى صفقة يوروفايتر بصفتها مجرد عملية شراء عسكرية، بل هي جزء من رؤية أوسع لتحديث البنية الإستراتيجية التركية، وذلك تمهيدا لمرحلة جديدة تكون فيها تركيا من القوى الجوية الأكثر استقلالية وتطورا في العالم”.















