هل يعيد تحرير بارا رسم خريطة الإمداد العسكري بين الخرطوم ودارفور؟

"المعطيات الحالية تؤشر إلى أن الحرب باتت في مراحلها النهائية"
في عامها الثالث، تستمر الحرب السودانية في الاشتعال من ولاية إلى أخرى، تلتهم المدن والقرى، وتعيد رسم حدود النفوذ بين الجيش ومليشيا “الدعم السريع” المتمردة المدعومة إماراتيا.
وفي الغرب، حيث تتقاطع طرق كردفان ودارفور، اشتدت المعارك لتصبح المدن الصغيرة بمثابة عقد إستراتيجية تحدد مصير الحرب الكبرى.
ومن بين هذه المدن “بارا” التي تحولت في 11 سبتمبر/ أيلول 2025 من ساحة مواجهة دامية إلى عنوان لانتصار نوعي أعاد للجيش زمام المبادرة، وأسقط في المقابل عددا من أبرز قادة "الدعم السريع" الذين راهنوا على السيطرة عليها.
أهمية بارا
وخلال الأشهر الأخيرة اشتد القتال على أكثر من محور، لكن الأنظار بقيت شاخصة نحو الغرب؛ حيث تدور أعتى المعارك في ولايتي كردفان ودارفور.
في هذا المشهد المعقد، برزت مدينة بارا الصغيرة كنموذج لمعركة مدن شديدة الأهمية رغم صغر حجمها، لتتحول إلى محطة فاصلة بعد أن استعادها الجيش في واحدة من عملياته الحاسمة في تلك المنطقة.
الجيش السوداني الذي يخوض حرب استنزاف طويلة، يدرك أن الانتصارات الجزئية في المدن والبلدات الصغيرة تشكل نقاط ارتكاز لا غنى عنها في مسار الحرب الكبرى.
استعادة بارا لم تكن مجرد معركة ميدانية، بل خطوة إستراتيجية أعادت رسم خطوط الإمداد وفتحت الطريق نحو شمال دارفور؛ حيث يحاول الجيش فك الحصار المضروب على مدينة الفاشر، عاصمة الإقليم وأهم معاقل الصمود أمام الدعم السريع.
وتقع مدينة بارا على بعد نحو 40 كيلومترا فقط من مدينة الأبيض، حاضرة شمال كردفان، وتشكل نقطة التقاء حيوية بين ولايات السودان المختلفة.
وهي أيضا عقدة أساسية في طريق الصادرات القومي الذي يربط الغرب بالوسط والشمال والشرق.
ولسنوات، كانت بارا أقرب نقطة يسيطر عليها "الدعم السريع" باتجاه الخرطوم، ما جعلها مصدر تهديد دائم للعاصمة ومركز ارتكاز لهجماتهم.
وتعني السيطرة عليها عمليا، تأمين مدينة الأبيض وقطع الطريق أمام أي محاولة للتقدم نحو عاصمة البلاد الخرطوم عبر هذا المحور.
"تدمير 449"
وبحسب صحيفة “التغيير” المحلية في 16 سبتمبر، فإن تحرير بارا جاء في لحظة حساسة، إذ تزامن مع تكثيف الدعم السريع ضغوطه لإسقاط الفاشر والسيطرة على عاصمة دارفور.
وهنا تكمن أهمية الانتصار؛ فبينما يحاول المتمردون ترسيخ نفوذهم في دارفور، يعمل الجيش على شق الطريق عبر كردفان والصحراء وصولا إلى قلب الإقليم.
ووفق مصادر عسكرية للصحيفة، فإن انتصار بارا، جعل الجيش يستعد لشن هجوم واسع النطاق من محورين رئيسين، داخل دارفور، في محاولة لتغيير موازين القوى على الأرض، وفك حصار الفاشر.
وقد ظلت مدينة بارا لوقت طويل بمثابة مركز ارتكاز رئيس للدعم السريع في ولاية شمال كردفان، ومقرا لحشود كبيرة مارست ضغطا خانقا على مدينة الأبيض، وذلك قبل أن يتمكن الجيش من فك حصارها في 23 فبراير/ شباط 2025.
غير أن معركة الحسم جاءت في 11 سبتمبر حين أعلن المتحدث باسم القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح، العقيد أحمد حسين، عن تحرير بارا بالكامل بعد معارك ضارية على تخومها.
وأوضح حسين أن العملية “كسرت شوكة العدو”، وانتهت بإبادة وتدمير المجموعة "449" التابعة للمليشيا.
وأشار إلى أن مقاتلي المليشيا تراجعوا في حالة انهيار وفروا تاركين خلفهم قتلى وجرحى، إضافة إلى كميات كبيرة من العتاد الحربي المدمّر.
ولفت حسين إلى أنه “بهذا الانتصار، فقدت الدعم السريع واحدا من أهم معاقلها في شمال كردفان، فيما عزز الجيش موقعه على الطريق الإستراتيجي الرابط بين الأبيض ودارفور”.
خسائر الدعم
وفي قلب معركة تحرير بارا، تلقت "الدعم السريع" ضربة قاصمة بخسارة عدد من أبرز قادتها الميدانيين في شمال كردفان.
فقد قتل أحمد اغيبش، قائد وحدة بارا وشقيق القائد المتمرد أيضا موسى اغيبش، وذلك أثناء محاولته الفرار بعد انهيار خطوط المليشيا.
وسقوط اغيبش جاء متزامنا مع مصرع القيادي الدموي حسن رابح، الذي ارتبط اسمه بسلسلة مجازر مروعة ضد المدنيين في أم روابة وقراها.
كما لقي العقيد محمد إسماعيل تكيزو، قائد متحرك "أبو عرديب" بمحور بارا، حتفه في ذات العملية.
بينما جرى تحييد القيادي بكري محمود صالح، مسؤول منظومة الدفاع الجوي للدعم السريع في شمال كردفان، خلال الساعات الأولى من الهجوم.
هذه الخسائر القيادية المتتالية شكلت انهيارا فعليا للقدرة الهجومية للمليشيا في المنطقة، وفتحت الطريق أمام الجيش لإكمال السيطرة على المدينة.
غير أن كلفة النصر لم تخل من تضحيات للجيش؛ إذ فقدت القوات المشتركة القائد الميداني محمد إبراهيم أرباع، أحد أبرز الضباط الذين قادوا معارك إستراتيجية سابقة، من تحرير مصفاة الجيلي والخرطوم، إلى معارك الخوي وأم صميمة وأبو قعود.
النفس الطويل
ولم تقرأ معركة بارا في بعدها العسكري فقط، بل في رمزيتها السياسية أيضا؛ إذ رأى محللون أن استعادة المدينة لم تكن انتصارا على "الدعم السريع" وحدها، بل على الغطاء السياسي الذي ظل يمدها بالدعم والشرعية.
وأوردت صحيفة "السوداني" المحلية في تقريرها عن الانتصار في بارا، أن "الجيش يمضي وفق إستراتيجية واضحة لدحر المليشيا في ميدانها، وأن سياسة النفس الطويل التي ينتهجها بدأت تؤتي ثمارها في غرب البلاد، وإن كان المدنيون في الفاشر يدفعون الثمن الأكبر".
وفي الاتجاه نفسه، أضافت أن "السيطرة على بارا تمثل مكسبا إستراتيجيا للجيش؛ إذ إنها تؤمن مطار الأبيض الذي يضم قاعدة جوية قادرة على إسناد العمليات العسكرية المقبلة".
وذكرت أن "المعطيات الحالية تؤشر إلى أن الحرب باتت في مراحلها النهائية، وأن استعادة الدعم السريع زمام المبادرة أصبح أمرا مستحيلا في ظل إحكام القوات المسلحة سيطرتها على المناطق المحررة".
وفي 12 سبتمبر، ذهب والي نهر النيل، محمد البدوي عبد الماجد، إلى أن تحرير بارا يجسد عزم القوات المسلحة ونجاعة إستراتيجيتها في "تطهير البلاد من دنس التمرد".
وأكد أن الخطوة أسهمت في رفع الحصار الجزئي عن مدينة الأبيض، وفي إعادة تطبيع الحياة المدنية بشمال كردفان، فضلا عن إعادة فتح طريق الصادرات الحيوي الرابط بين الخرطوم والإقليم.
وأضاف أن "انفتاح القوات المسلحة على جميع محاور القتال وتحقيق انتصار تلو الآخر يؤكد قدرتها على سحق التمرد رغم ما حظي به من دعم لوجستي ضخم من بعض القوى الدولية والإقليمية".
كما دعا عبد الماجد إلى تعزيز دعم الجيش عبر توسيع معسكرات التدريب وتجهيز المستنفرين، وتسيير القوافل العينية إلى مختلف الجبهات.
احتفاء وتحذير
وكتب وزير الثقافة والإعلام، خالد الأعيسر، أن "للانتصار الذي تحقق في بارا وجوها عديدة من الجمال، غير أن أجملها أنه أسكت الأصوات التي شككت في صدق المسيرة الوطنية، وزعمت أن العمليات العسكرية ستتوقف عند حدود الخرطوم، متجاهلة حقيقة راسخة في وجدان السودانيين، كل أجزائه لنا وطن".
وأضاف الأعيسر في تدوينة عبر صفحته على فيسبوك في 12 سبتمبر، أن “أبهى صور هذا النصر تمثّلت في المواكب الشعبية العارمة التي خرجت في ولايات السودان المختلفة، من الجزيرة إلى كسلا، ومن الشمالية إلى النيل الأبيض، ومن الخرطوم إلى جنوب كردفان".
واستطرد: "خرج النساء والأطفال والشيوخ يعبرون عن فخر وطني عميق، مرددين أن لا كرامة تُستعاد إلا بتحرير الأرض وصون السيادة".
وأشار الوزير إلى أن هذا التفاعل الشعبي يجسد وعيا وطنيا متناميا بأن ما يجري ليس مجرد معارك عسكرية مع مليشيات مرتزقة، بل معركة وجود وبناء وعدالة.
ثم أورد: "الشعب السوداني، وهو يحتفل بتحرير بارا في شمال كردفان، يرسل رسالة واضحة إلى أهلنا في غرب كردفان ودارفور، المسيرة ماضية إليكم بعزم لا يلين وصبر لا ينفد".
وختم قائلا: "التحية للشعب الأبي، وللقوات المسلحة وقواتنا المشتركة والشرطة وجهاز المخابرات والمستنفرين، ولكل القوى المساندة التي وضعت قلوبها بين يدي الوطن".
ومع ذلك حذرت صحيفة “التيار” المحلية في 17 سبتمبر من الانتكاسة، خاصة أنه لم يصدر عن "الدعم السريع" أي بيان بخصوص فقدانها السيطرة على بارا.
ولا يستبعد مراقبون بحسب الصحيفة أن تقوم المليشيات برد فعل عسكري بإجراء عمليات بواسطة طائرات مسيرة لتستهدف عددا من المواقع الإستراتيجية والعسكرية في المدينة المحررة.
بداية الاجتثاث
وقال السياسي السوداني محمد الجاك، عضو الأمانة الحكومية لولاية القضارف، إن تحرير مدينة بارا “يمثل تحولا إستراتيجيا كبيرا في معركة القوات المسلحة ضد التمرد في إقليمي كردفان ودارفور”، ويرى أن هذا الانتصار يمهد فعليا لـ"الاجتثاث الكامل للمليشيات في مناطق دار الريح".
وأضاف الجاك لـ"الاستقلال" أن "عودة بارا إلى حضن الوطن تعني بالضرورة عودة جبرة الشيخ وأم قرفة، وكل الحواضر والامتدادات المرتبطة بها شرقا حتى رهد النوبة، وغربا وشمالا حتى كامل محيط محلية جبرة الشيخ، فلن يكون أمام فلول المليشيا المهزومة أي قدرة على الصمود أو البقاء يوما واحدا في هذه المناطق".
وأوضح أن "تحرير بارا لا يقتصر على بعدها المحلي، بل يفتح الطريق مجددا بين العاصمة ومدن شمال وغرب كردفان عبر طريق الصادرات الذي يعد أقصر شرايين التجارة والاتصال بين هذه الولايات والخرطوم".
كما أشار الجاك إلى أن "الخطوة تمثل أيضا فكا للاختناق عن مدينة الأبيض، عاصمة شمال كردفان، وإعادة مطارها الحيوي إلى الخدمة".
وأكد أن الانتصار في بارا يجعل مدن غرب وجنوب كردفان التي لا تزال تحت الاحتلال أهدافا قريبة لقوات الجيش، تمهيدا لمعركة دارفور الكبرى، قائلا: "تحرير بارا يعني بداية معارك تحرير دارفور من هيمنة مليشيا آل دقلو المدعومة إماراتيا، والتي باتت اليوم في أضعف حالاتها عسكريا ومعنويا".
وتابع: "إذا كانت معارك جبل موية قد دشنت عودة مدني والخرطوم، فإن معركة بارا اليوم تدشن عودة نيالا والضعين، وتفتح الطريق لفك حصار الفاشر الصامدة، ما نشهده هو بداية شتاء قاس على هذه المليشيات".
وختم الجاك تصريحه بالقول: “هنيئا لأهل بارا الذين استعادوا أمنهم بعد عامين من المعاناة، هذا النصر يحمل دلالات معنوية عميقة، فقد كشف أن المليشيات تعيش أضعف مراحلها، وأن قياداتها تهرب من ساحة القتال".
وشدد على أن "فرحة السودانيين اليوم بتحرير بارا دليل قاطع على أن شعبنا لا يريد لهذه العصابات الدموية أن تبقى يوما واحدا فوق تراب السودان".
المصادر
- عقب تحرير الجيش لمدينة (بارا) من قبضة ميليشيا الدعم السريع.. مصادر (السوداني) العسكرية: لن نترك شبراً من تراب الوطن تحت سيطرة المتمردين
- الجيش السوداني يعلن تحرير مدينة بارا من مليشيا الدعم السريع
- الجيش السوداني يسيطر على "بارا" إحدى أهم المدن في كردفان
- بعد معارك عنيفة.. الجيش السوداني يستعيد مدينة بارا شمال كردفان