"انقلاب على الزلزال".. ماذا أصاب اليمين المتطرف في الانتخابات الهولندية؟

غزة كانت "قضية مركزية" في الانتخابات الهولندية
في انتخابات 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، فاز حزب "الحرية" المعادي للمسلمين بزعامة المتطرف “غيرت فيلدرز” بـ37 مقعدا من مقاعد البرلمان الـ150، وجاء في المركز الأول ما وُصف بأنه "زلزال سياسي".
لكن في انتخابات 29 أكتوبر/تشرين الأول 2025، تراجع حزب فيلدرز وفقد 11 مقعدا وحصل على 26 من أصل 150 في البرلمان.
بالمقابل، حقق حزب "دي-66" المنتمي لتيار الوسط مكاسب كبيرة ووصل أيضا لحصيلة 26 مقعدا، لكن بنسب أصوات أعلى، مما قد يمنحه الصدارة في تشكيل الحكومة المقبلة بعد تراجع حزب "فيلدرز".
فما سر تراجع الحزب المتطرف؟ هل إبادة غزة أحد الأسباب بعدما غيرت وعي الهولنديين وخرجوا بمظاهرات ضخمة مناهضة لليمين الصهيوني وتراجع كثير منهم عن دعم الحزب الداعم للكيان الإسرائيلي؟ أم هناك أسباب أخرى؟

انقلاب بعد الزلزال
كشفت نتائج انتخابات 2025 تغييرا كبيرا في مزاج الناخبين و"انقلابا" بعد "زلزال" فوز فيلدرز في 2023 بالأغلبية، إذ عكس الناخبون كل التوقعات، وسط ترجيحات أن حرب الإبادة في غزة أسهمت في نكسة اليمين المتطرف.
بعدما كانت التوقعات تشير لسيطرة التيار اليميني على الانتخابات واستمرار الهيمنة اليمينية بعد صعود اليمين في عدة دول أوروبية، جاءت نتائج الانتخابات مفاجئة، بخسارة كبيرة (11 مقعد) للحزب اليميني العنصري (الحرية) وصعود تيار الوسط.
حقق حزب D66 (الديمقراطي 66) الليبرالي الوسطي قفزة كبيرة وفاز بـ 26 مقعدا منتزعا قرابة 9 مقاعد من حزب "الحرية"، ليفوز بالمركز الأول ويشكل الحكومة.
وكان هذا الحزب الديمقراطي فاز في انتخابات 2023، بتسعة مقاعد فقط، أي أقل بـ 17 مقعدًا عما حققه في انتخابات 2025، لكنه قفز على حساب حزب فيلدرز المتطرف هذه المرة.
وبحسب وكالة الأنباء الوطنية الهولندية (ANP)، التي تجمع النتائج من جميع البلديات الهولندية، فمن الممكن أيضًا أن يحصل حزب D66 على مقعد متبق، ليصل إجمالي عدد مقاعده في البرلمان إلى 27 مقعدًا، بعد فرز أغلب الصناديق.
وفاز "حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية" (VVD)، الذي كان يقود الحكومة السابقة بـ 22 مقعدًا، والتحالف اليساري بين حزب الخضر والعمال بـ 20 مقعدًا، وحزب النداء الديمقراطي المسيحي (CDA) من يمين الوسط، بـ 18 مقعدًا.
وحقق حزبان آخران في معسكر أقصى اليمين، مكاسب؛ إذ ارتفع عدد مقاعد "منتدى الديمقراطية" من 3 إلى 7، وحزب "جي إيه 21" من مقعد واحد إلى 9.
ولأن غالبية الأحزاب ترفض التحالف مع حزب "فيلدرز" ولفظته في تشكيل حكومة عام 2023 ما اضطره لترك رئاسة الوزراء لحزب الشعب، يتوقع لفظه مرة أخرى خاصة بعد خسارته، وتشكيل ائتلاف حكومي بقيادة حزب D66.
فقد انتقل حزب D66، بقيادة "روب جيتن"، من حزب صغير نسبيًا إلى قوة سياسية تتصدر المشهد، ويحتاج إلى 76 مقعدًا برلمانيا حزبيا لرئاسة الحكومة.
وفي المقابل، مُني "فيلدرز" بخسارة كبيرة رغم أنه كان السبب في حل البرلمان السابق، أملا في تحسين فرص حزبه وتحقيق أغلبية تبين أنها وهمية.
وتصدر حزب فيلدرز الانتخابات الماضية، إلا أنه فشل في ترأس الحكومة التي شارك حزبه فيها بسبب رفض شركائه توليه رئاستها نتيجة لسمعته المتطرفة، وجاءت انتخابات 2025 لتزيد تراجع اليمين المتطرف وصعود الوسط الليبرالي.
أيضا تلقى شركاء فيلدرز السابقين في الائتلاف ضربة موجعة، فقد خسرت حركة المزارعين والمواطنين الشعبوية ثلاثة من مقاعدها السبعة، وانهار حزب العقد الاجتماعي الجديد الوسطي، بعد حصوله على "صفر" بعدما كان له 20 مقعدا.

هل غزة السبب؟
تشير صحف هولندية وأجنبية إلى أن من أسباب تراجع الهولنديين عن دعم الحزب اليميني المتطرف (الحرية) Party for Freedom (PVV) بزعامة فيلدرز، هو قضية غزة، من بين عدة عوامل عدة، وأن حرب الإبادة غيرت الوعي الانتخابي في هولندا.
وعقب طوفان الأقصى وحرب إبادة غزة وبعدما كان المزاج العام داعما لإسرائيل والأحزاب التي تدعمها، ومنها حزب فيلدرز، وكانت أمستردام في حرب 1973 مركز استقبال السلاح الأميركي المتجه إلى إسرائيل، صارت من أكثر العواصم الغربية دعما لغزة ويخرج فيها مئات آلاف البشر تضامناً مع غزة.
وتعرض زعيم حزب "الحرية" لعمليات إحراج عديدة داخل البرلمان الهولندي من نواب يدعمون غزة وينتقدون صمته على مجازر إسرائيل، واستقال وزير خارجيته لرفض حكومته عقاب إسرائيل، ما أفقده العديد من الأصوات.
ويري محللون وتقارير غربية أن التعبئة الشعبية الواسعة في هولندا ضد جرائم الإبادة في غزة خلال الأشهر الأخيرة، أسهمت في كشف زيف دعاية اليمين المتطرف الذي حاول استثمار خطاب الكراهية والانقسام، ودعمه إسرائيل بقوة.
وأن الجماهير الهولندية عاقبت حزب “فيلدرز”؛ لأنه أكثر الأحزاب الهولندية عداء للقضية الفلسطينية التي حركت الشارع، وبسبب دعمه لإسرائيل من زاوية وقوفها معه في خندق العداء للإسلام.
واشتهر "فيلدرز" بقوله: "إن إسرائيل تقاتل نيابة عنا في القدس التي إذا ما سقطت في يد المسلمين فسيأتي الدور على أثينا وروما، لذلك فإن إسرائيل هي الجبهة المركزية في الدفاع عن الغرب الحر ضد بربرية الأيديولوجيا الإسلامية".
ويرى فيلدرز أن القدس مركز الصراع بين "العالم الحر" و"الإسلام"، ويربط أمن الغرب ببقاء إسرائيل قوية، كما يرفض حل الدولتين ويدعم بقاء القدس تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة، ويستخدم لغة دينية لتبرير دعمه السياسي لإسرائيل.
وفي كلمته بالبرلمان الهولندي مايو 2022 قال: "إن إسرائيل هي خط الدفاع الأول للعالم الحر في مواجهة الهمجية الإسلامية، ودعمها يعني أننا ندافع عن أنفسنا".
كما دعا إلى الحد الفوري لهجرة المسلمين، واصفا إياها بأنها "غزو لهولندا"، ونادى بحظر تعليم "القرآن الكريم" مشبها إياه بكتاب الزعيم النازي أدولف هتلر "كفاحي"، وطالب بتجميد بناء المساجد والمدارس الإسلامية وحظر ارتداء الحجاب.
وبجانب غزة، عكس تقدم حزب D66 وتراجع الحزب المتطرف (الحرية) رغبة الهولنديين في التركيز على سياسات داخلية تخدم الشعب في مجالات الاقتصاد، والتعليم، والسكن والاندماج، بدل الخطاب المتطرف المعادي.

أدلة تأثير غزة
هناك أدلة عديدة تشير لتأثير إبادة غزة والقضية الفلسطينية في حسم التصويت في الانتخابات، منها استطلاع للرأي نشره موقع Dutch News، في 22 سبتمبر 2025، أشار إلى أن "42 بالمئة من الناخبين الهولنديين قالوا إن الصراع في غزة سيؤثر على قرارهم في الانتخابات".
وفي نفس الاستطلاع، ارتفعت نسبة من يرون أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة إلى 54 بالمئة من الشعب الهولندي، ما يشير إلى أن قضية غزة أصبحت عنصرًا سياسيًا له تأثير في نوايا التصويت الهولندية.
ويعني قول 42 بالمئة من الناخبين – في الاستطلاع- إن غزة ستؤثر على قرارهم، أن حزب فيلدرز، الذي يُعرف بمواقفه المؤيدة لإسرائيل والإبادة في غزة والمعادي للمسلمين، كان متوقعا تراجعه أمام ناخبين يشعرون بتعاطف مع الفلسطينيين ويميلون لسياسات أقل تطرفًا.
ويختلف موقف الحزب الفائز بالأغلبية (Democrats 66) فيما يخص غزة وإسرائيل عن حزب فيلدرز الذي تراجع خلفه، إذ يدعو الأول، وفق بيانات أصدرها إلى "إنهاء الوضع المروع في غزة" ويطالب بفتح ممرات إنسانية فورية وتقديم مساعدات عاجلة لغزة، ويدعم حل الدولتين.
كما أصدر حزب D66 بيانات يعبر فيها عن قلقه من "التطهير العرقي المحتمل" في غزة، ويطالب الحكومة الهولندية مع الاتحاد الأوروبي لوقف تمدد الاستيطان الإسرائيلي وإعادة النظر في الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل إذا لم تُلتزم بالقانون الدولي.
وقد أظهر استطلاع رأي أُجري في سبتمبر 2025 أن 78 بالمئة من ناخبي D66 يريدون من الحكومة الهولندية أن تتخذ موقفًا أكثر انتقادًا لإسرائيل بشأن غزة، وفق وكالة .NL Times
وبشكل عام يُصنف هذا الحزب بوصفه من الأحزاب الهولندية التي تميل إلى موقف منتقد لإسرائيل بشدة.
وفي 23 أغسطس/آب 2025، وبسبب خلافات داخل الحكومة حول الموقف من العدوان الإسرائيلي على غزة والدعوة لعقاب تل أبيب، انهارت الحكومة، واستقال جميع أعضاء الحكومة الهولندية من حزب "العقد الاجتماعي الجديد".
وذلك بعد يوم واحد من استقالة وزير الخارجية، بسبب عدم وجود إجماع حكومي بشأن قضية فرض عقوبات إضافية ضد الاحتلال الإسرائيلي على خلفية حرب الإبادة والتجويع في قطاع غزة.
وذكرت قناة "إن أو إس" التلفزيونية، أنه تضامنا مع موقف الوزير المستقيل كاسبار فيلدكامب، سيستقيل جميع الوزراء ووزراء الدولة بالوكالة التابعين للحزب من مناصبهم، ومن بينهم نائب رئيس الوزراء، ووزيرا الداخلية والتعليم، ووزير الصحة، بالإضافة إلى 4 وزراء آخرين.
وكان فيلدكامب قد ذكر في وقت سابق، أن الحكومة لا تؤيد اتخاذ "إجراءات إضافية ذات أهمية" ضد إسرائيل بسبب حربها على غزة وخططها الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة، مضيفا "شعرت بمقاومة داخل مجلس الوزراء".
وقبل استقالتهم لعب الوزراء المستقيلون دورا في منع الحكومة الهولندية/ 28 يوليو/تموز 2025، وزيري المالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير الإسرائيليين المتطرفين من دخول أراضيها، لدعوتهما لتطهير عرقي في غزة وتحريض المستوطنين على العنف ضد الفلسطينيين بالضفة الغربية.
وعكست تلك الاستقالات تصاعد التوتر داخل الحكومات الأوروبية بشأن سياسات الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، والتأثير المتصاعد للاحتجاجات الجماهيرية ضد إبادة القطاع، والتعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية الذي ضغط على سياسات الأحزاب الأوروبية التي تتخوف من ابتعادها عن الجماهير والمواقف الشعبية.
ومع هذا فقد تراجع الناخبون عن التصويت لحزب "فيلدرز" لأسباب أخرى منها بخلاف غزة: قضايا داخلية مثل احتياجات الناخبين، وانقسام اليمين المتطرف، وانتقاد حزب فيلدرز بعدم تحقيق أي إنجاز للشعب، وتزايد الوعي بحقوق الأقليات.
ومع هذا حاولت صحيفة "جويش كرونيكل" اليهودية، الزعم أن الهولنديين لم ينساقوا للأحزاب التي حاولت جعل غزة "قضية مركزية" في الانتخابات.
وزعمت في 31 أكتوبر 2025، أنه "يمكن لليهود وأصدقاء إسرائيل أن يتنفسوا الصعداء بعد خسارة المتطرفين في الانتخابات العامة"، دون تحديد ما المقصود بالمتطرفين.
كتبت تقول: إن "الهولنديين لم يستجيبوا لمحاولات جعل حرب إسرائيل وحماس قضية رئيسة في انتخابات مجلس النواب (تويد كامير) في لاهاي، وقُوبلت الأحزاب التي سعت إلى تحويل التصويت إلى استفتاء على "الإبادة الجماعية" في غزة وتأطير الصراع برفض واسع في صناديق الاقتراع"!
وكانت الصحيفة اليهودية تشير بذلك لأحزاب يسارية متطرفة صغيرة، نتائجها متراجعة دائما في الانتخابات، مثل الحزب الاشتراكي (SP)، وحزب الدفاع عن الحيوانات (PvdD)، وحزب دينك - المنشق عن حزب العمال، والذي يحظى بشعبية بين المهاجرين المسلمين.
وتراجع الحزب الاشتراكي من خمسة مقاعد إلى ثلاثة، واحتفظ حزب الدفاع عن الحيوانات بنفس مقاعده الثلاثة، أما الحزب اليساري BIJ1، والذي ركز حملته الانتخابية بأكملها على حرب غزة، فقد فشل في الفوز بأي مقعد.
وشككت الصحيفة اليهودية في استطلاع الرأي الذي أُجري في سبتمبر/أيلول 2025 وعدّ فيه نصف الناخبين الهولنديين غزة قضية مهمة عند اختيار الحزب الذي سيصوتون له، بحجة أنه تم بواسطة منظمتي "باكس" و"منتدى الحقوق"، وهما منظمتان معاديتان بشدة لإسرائيل.
بل ورجحت "جويش كرونيكل" أن يضطر حزب D66 للائتلاف مع أحزاب اليمين المؤيدة بشدة لإسرائيل، ويتصدران المعركة ضد معاداة السامية في هولندا، مثل حزب JA21 المناهض للهجرة أو حزب المزارعين BBB.
المصادر
- هولندا: نتائج متقاربة بين المتطرفين والوسطيين في الانتخابات التشريعية
- Centrist D66 confirmed as Dutch general election winner
- Nearly half of Dutch voters say Gaza is an issue in the election
- Centrist D66 beats the far right to win Dutch election, national press agency announces
- Dutch voters snub parties that tried to make Gaza the central issue















