صراع جديد.. لماذا يعرقل "حزب الله" جهود تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان؟

لندن - الاستقلال | منذ ٩ أشهر

12

طباعة

مشاركة

يكاد حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الذي تنتهي ولايته في 31 يوليو/تموز 2023 بعد ثلاثة عقود قضاها في المنصب، أن يفتح جبهة مناكفات جديدة بين الأطراف السياسية في هذا البلد الغارق في أزمة اقتصادية طاحنة منذ عام 2019.

وإذ يشكل تعيين حاكم مصرف جديد مسألة صعبة ومعقدة نظرا لطبيعة الصراعات الخفية حول البديل القادم لسلامة، يخشى من أن تؤدي هذه المهمة رغم وضوح القوانين حولها، إلى شرخ جديد داخل المجتمع اللبناني الممزق سياسيا.

صراع جديد

فبالرغم من مواجهة سلامة (72 عاما) تهما ينفيها باختلاس أموال عامة وتبييض أخرى واتباع سياسات مالية ونقدية أدت لانهيار الليرة اللبنانية، فإن هناك من يعرقل تحقيق انتقال سلس للحاكم الجديد.

وتعارض مليشيا حزب الله المدعومة بالسلاح والمال من إيران، والتيار الوطني الحر حليفها المسيحي تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان.

بينما يقود رئيس البرلمان نبيه بري ورئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي جهود تعيين من يخلف رياض سلامة، بحسب وكالة "رويترز" البريطانية.

وأمام هذا الاستعصاء الذي يأتي في توقيت حساس يمر فيه لبنان ويطالب بإصلاحات اقتصادية للحصول على قرض مالي من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار، يسارع مسؤولون في اللحظات الأخيرة لتجنب خلو المنصب عندما تنتهي ولاية سلامة رسميا.

واحتمال خلو هذا المنصب في بلد تعصف به الأزمات أضاف المخاوف بشأن المزيد من الانقسام الداخلي ولا سيما في ظل الشغور الرئاسي منذ نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022.

إذ إنه عادة ما يعين رئيس البلاد حاكم مصرف لبنان المركزي، لكن البرلمان لم ينتخب حتى الآن خليفة للرئيس السابق ميشال عون.

ولا سيما أن المادة 18 من القانون الناظم لمصرف لبنان تفرض لِزاما أن يقسم الحاكم قبل الشروع بمهامه أمام رئيس الجمهورية.

كما يؤكد كثير من المسؤولين اللبنانيين أن هناك ضرورة للتعرف على الشخص المرشح لاستلام مركز حاكم مصرف لبنان والاطلاع على مواصفاته وبرنامجه ورؤيته للخطة الإنقاذية للمستقبل.

ورغم تناقص الوقت المتبقي بسرعة، بقيت الخلافات والانقسامات بين السياسيين حاضرة بقوة بشأن تعيين من يخلف سلامة أو السماح لنائبه الأول بأداء مهامه كما ينص القانون.

وقد ذكرت الوكالة الوطنية للإعلام أن ميقاتي ونائبه سعادة الشامي ووزير المالية يوسف خليل اجتمعوا في 26 يوليو 2023، مع نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة وهم وسيم منصوري وبشير يقظان وسليم شاهين وألكسندر مراديان.

وهدد الأربعة خلال يوليو 2023، بالاستقالة إذا لم يجر تسمية خليفة لسلامة، مما يهدد بفراغ كامل في المناصب العليا في مصرف لبنان المركزي في وقت تتفاقم فيه أزمات الاقتصاد.

وللمفارقة، فإنه يجري اختيار من يشغلون المناصب الكبرى في مصرف لبنان المركزي وفقا لنظام المحاصصة الطائفية الذي يحدد أيضا المناصب العليا في البلاد.

فالحاكم يجب أن يكون كاثوليكيا مارونيا، بينما يجب أن يحصل النواب الأربعة، وهم واحد من الشيعة وواحد من السنة وثالث من الدروز وآخر من الأرمن الكاثوليك، على موافقة الزعماء السياسيين الذين يمثلون طوائفهم.

وكان بري، رئيس البرلمان وزعيم حركة أمل الشيعية، قد سمى منصوري لمنصب النائب الأول لحاكم مصرف لبنان.

وقال مصدر مقرب من منصوري "بري يدعم بالفعل وزير المالية والمدعي العام المالي. لذا فهو لا يرغب أن يتسلم منصوري كرة النار لأنه لا يريد أن يُنظر إليه على أنه مسؤول عن أي تدهور اقتصادي إضافي".

وقد فشل مجلس الوزراء اللبناني في اجتماع له بتاريخ 27 يوليو 2023 الاتفاق على خليفة لرياض سلامة، حيث ألغيت الجلسة الحكومية بعد أن حضرها عدد قليل جدا من الوزراء.

وعلى الفور علق ميقاتي قائلا إن "الحكومة غير مسؤولة عن الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية، ولا عن التداعيات المترتبة عن ذلك، بل تجتهد في مرحلة تصريف الأعمال لتسيير الشؤون العامة، والحفاظ على سير عمل المؤسسات الرسمية وتلبية مطالب المواطنين".

رمز للفساد

في 31 يوليو 2023 تنتهي ولاية رياض سلامة، أحد أطول حكام المصارف المركزية عهدا في العالم، والذي تشكل ثروته محور تحقيقات في لبنان والخارج.

وتلاحق سلامة شبهات عدة بينها اختلاس وغسل أموال وتحويلها إلى حسابات في الخارج و"إثراء غير مشروع".

ووضع القضاء الفرنسي في 19 مايو/أيار 2023 السلطات في بيروت أمام مسؤولياتها بعد تسلم نظيره اللبناني مذكرة توقيف دولية أصدرتها قاضية فرنسية بحق رياض سلامة قبل أن تتحول إلى منظمة الشرطة الدولية "الإنتربول".

وجاء ذلك بعدما فُتحت تحقيقات قضائية عدة في لبنان وأوروبا بحق رياض سلامة، تستهدف الثروة التي جمعها خلال توليه حاكمية المركزي اللبناني على مدى ثلاثة عقود.

إذ كشف مسؤول قضائي في لبنان لوكالة الأنباء الفرنسية في 18 يوليو 2023 أن قاضيا لبنانيا أمر بالحجز الاحتياطي على ممتلكات سلامة، إلى حين انتهاء البت بأساس دعوى محلية مرفوعة ضده.

وأضاف المصدر أن الحجز "شمل عقارات وشققا سكنية فخمة يملكها الحاكم في بيروت وجبل لبنان والبترون، بالإضافة إلى عدد من السيارات".

وبين أن هذا الحجز "يمنع سلامة من التصرف بأي من هذه الممتلكات سواء بيعها أو نقل ملكيتها لأشخاص آخرين، وذلك إلى حين انتهاء البتّ بأساس الدعوى القضائية التي يُحقّق فيها قاضي التحقيق في بيروت شربل أبو سمرا".

وأشار المصدر إلى أنّ "هذا التدبير أولي، بحيث إنه إذا جرت تبرئة سلامة من التهم التي يُلاحق فيها، فسيتمّ رفع الحجز عن أملاكه؛ أما إذا جرت إدانته، عندها ستُصادر الممتلكات ويجري تسييلها وبيعها بالمزاد العلني لصالح الخزينة اللبنانية".

وفي مارس/آذار 2022، أعلنت فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ عن تجميد 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية، إثر تحقيق استهدف سلامة وأربعة من المقرّبين منه.

كما أن المحامي العام الاستئنافي في بيروت ادعى في فبراير/شباط 2023، على سلامة بجرائم عدة بينها اختلاس وتبييض أموال.

وفُتح التحقيق المحلي بعد طلب مساعدة من النائب العام في سويسرا، في إطار تحقيقات تشمل حركة أموال بأكثر من 300 مليون دولار تعود لحاكم مصرف لبنان وشقيقه.

وبناء على التحقيقات، أصدرت قاضية فرنسية في باريس والمدعية العامة في ميونخ مذكرتي توقيف بحق سلامة، جرى تعميمهما عبر الإنتربول (الشرطة الدولية) الذي أصدر نشرة حمراء بحقّه.

ولا يسلم لبنان مواطنيه إلى دول أجنبية لمحاكمتهم، لكن مسؤولا أفاد سابقا لوكالة الأنباء الفرنسية بأن سلامة قد يحاكم في لبنان، إذا ما خلصت السلطات القضائية إلى أسس للتهم المساقة ضده.

وفي أحدث أقوال سلامة دافع في مقابلة تلفزيونية لقناة محلية في 26 يوليو 2023 عن سجله ونفى تورطه في اختلاس أموال عامة، وأكد أن سياساته كانت تصب في صالح الاقتصاد، كما قال إنه سيترك المنصب بانتهاء ولايته الحالية.

ويحمل الكثير من اللبنانيين سلامة وباقي النخب الحاكمة، مسؤولية الانهيار المالي الذي بدأ عام 2019.

 ويقول سلامة إنه كبش فداء لهذا الانهيار الذي أعقب ممارسات تتسم بالفساد والهدر في الإنفاق على مدى عقود من النخبة الحاكمة.

وبينما يدور حراك كبير داخل الحكومة للتوصل إلى اتفاق يقود لتعيين حاكم جديد للمصرف المركزي اللبناني، يتمسك حزب الله بموقفه.

إذ قال زعيم الحزب حسن نصر الله، في كلمة له في 25 مايو/أيار 2023: "إننا أمام خيارين الأول تنحي الحاكم أو استقالته من تلقاء نفسه، والثاني أن يتحمل القضاء مسؤوليته، لأننا في ظل حكومة تصريف أعمال، وهي لا تملك صلاحية عزله دستوريا ولا تعيين البديل".

 لكن رغم خطورة عدم تعيين خليفة لسلامة على النظام النقدي والاقتصادي وعلاقات لبنان مع الخارج، فإن التيار الوطني الحر يتفق مع ذلك ويقول إنه يريد تعيين مراقب قانوني مسيحي ليدير المصرف.

تعنت حزب الله

وفي السياق، أوضح الكاتب والمحلل السياسي وائل نجم، لـ "الاستقلال" أن: "حزب الله كان من أكثر القوى التي تتهم سلامة بالمسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع المالية والاقتصادية في لبنان، وكان من المطالبين برحيله زمن ولاية الرئيس السابق ميشال عون".

غير أن الحزب اليوم يرفض تعيين خليفة لسلامة، في ظل خسارته للتحالف الذي ظل قائما بينه وبين التيار الوطني الحر منذ العام 2005، والذي كان يؤمن له مظلة مسيحية في لبنان.

وأيضا في ظل شبه الإجماع المسيحي على رفض تعيين حاكم مصرف جديد في ظل الشغور في موقع رئاسة الجمهورية لأن ذلك من وجهة نظر مسيحية يعد ضربا لدور الرئاسة الأولى (الجمهورية) وبالتالي فقدان المزيد من الدور المسيحي في البلد، وفق وائل نجم.

ورأى أنه "في ظل ذلك يريد حزب الله أن يخاطب الوجدان المسيحي من جديد حتى لا يظل في حالة شبه عزلة وطنية ظهرت بشكل واضح في الجلسة الثانية عشرة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية حيث بدا كما لو أن المسلمين السنة والمسيحيين والدروز اصطفوا في خندق واحد خلف المرشح الرئاسي جهاد أزعور".

ومضى يقول: "لذلك نفهم اليوم لماذا يرفض حزب الله تعيين حاكم مصرف لبنان من قبل حكومة تصريف الأعمال، فالهدف الأساسي مخاطبة الوجدان المسيحي ومحاولة إعادة وصل ما انقطع مع التيار الوطني الحر الذي يرأسه جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية السابق".

وزاد نجم: "كما أن هناك من يقول إن الحزب يريد الشغور في هذا الموقع الخاص بالمسيحيين في محاولة لتكريس انتقال الموقع إلى شخصية شيعية خاصة وأن النائب الأول للحاكم شيعي، وبالتالي تكريس هذا العرف في بلد يقوم نظامه بشكل كبير على الأعراف الدستورية".

وأمام هذا الحراك الفاشل، فإنه يكفي مغادرة سلامة لمنصبه للبدء بإقرار تشريعات يطالب بها الصندوق وتتعلق مثلا بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعديل قانون السرية المصرفية وتوحيد سعر صرف الليرة أمام الدولار.

لكن الآن وفي ظل تعنت الأطراف السياسية في حل مسألة منصب حاكم مصرف لبنان، فإن الأمر سيعود إلى المربّع الأول، والمتمثل باستلام النائب الأول للحاكم وسيم منصوري الحاكمية سواء استقال أم لم يستقل سلامة.

وفي السياق، نقل موقع "نداء الوطن" عن مصدر حكومي، قوله إن نبيه بري باتت تراوده فكرة طرحها "التيار الوطني الحر" لتعيين حارس قضائي على مصرف لبنان، وكل ذلك "بذريعة ألا يتحمل الشيعة المسؤولية عن الانهيار، وكأن للانهيار طائفة"، وفق المصدر.

ولذلك فإنه تفاديا لأي فراغ يصيب مركز حاكمية مصرف لبنان، وتأمينا لسير المرفق المالي والنقدي، فإنه يمكن للدولة عبر هيئة القضايا في وزارة العدل الطلب من قاضي العجلة الإداري في مجلس شورى الدولة، تعيين مدير مؤقت إلى حين تعيين السلطة التنفيذية خليفة لسلامة.

ويرى مراقبون أن تسليم رياض سلامة للقضاء الدولي يعني أن "الحبل على الجرار" لباقي المتهمين بالفساد في لبنان.

ولهذا قال سلامة في حوار أجرته معه محطة "إل بي سي"، في 26 يوليو 2023 إنه "لا يتحمل مسؤولية الانهيار، وإن هناك من يغسل يده منه ليحوله كبش محرقة".

وبحسب مواقع لبنانية محلية، فإن أي حاكم جديد لمصرف لبنان سيتهم قبل أن يلفظ أي كلمة أو يصدر أي قرار، بولائه لسياسات الطبقة الحاكمة وبقراره مواصلة تمويل الحكومة على حساب المودعين (وتحديدا من التوظيفات الإلزامية الباقية في مصرف لبنان).

 ويعود ذلك إلى أن رئيسي الحكومة ومجلس النواب أكدا استحالة تشريع أي قوانين في الوقت الحالي قبل انتخاب رئيس للجمهورية.

لكن مصادر مصرفية مطلعة أوضحت أن نواب الحاكم سيتسلمون سدة الحاكمية قسرا، لافتة إلى أن موقف المجلس المركزي لمصرف لبنان لطالما كان "على الورق" رافضا للسياسة المتبعة من قبل سلامة خصوصا التدخل القائم عبر صيرفة من أموال الاحتياطي.

إلا ان القرار التنفيذي كان لرياض سلامة الذي رضي أن يتحمل وزره منفردا، وفق "نداء الوطن".

وكان حاكم مصرف لبنان أعلن بأنه "اليوم هناك رصيد إيجابي في الاحتياطي الإلزامي الذي يبلغ 14 مليار دولار و305 مليون ما عدا الذهب، إضافة لحوالي 9 مليار و400 مليون دولار تستعمل في الخارج".