أرضية يوفرها الشيعة.. ما أسباب تمدد التيار المدخلي في مساجد العراق؟

في ظل الاستقرار الأمني النسبي الذي تشهده المناطق السنية في العراق بعد انتهاء مرحلة تنظيم الدولة، بدأ ينشط وبشكل لافت في هذه المدن التيار السلفي المدخلي الجامي، الذي أخذ يتمدد ويسيطر على الكثير من مساجد أهل السنة والجماعة، وصولا إلى العاصمة بغداد.
وتمكن تنظيم الدولة في عام 2014 من اجتياح العراق والسيطرة على ثلث مساحة البلاد، التي تمثلها المحافظات ذات الغالبية السنية (نينوى، الأنبار، كركوك، صلاح الدين، ديالى) ومناطق حزام بغداد، لكنها استعيدت منه وأعلن الانتصار عليه عام 2017.
معول هدم
على خلاف التيارات الإسلامية السنية الأخرى في العراق، بدا التيار المدخلي يأخذ طريقه في التوسع بمساجد أهل السنة حتى يكاد يبسط سيطرته على العديد من المناطق ذات الطابع الريفي في حزام بغداد (محيط المدينة)، وتحديدا منطقة أبي غريب (غرب العاصمة).
ولا يأتي هذا التمدد من فراغ، وإنما بتوفير غطاء سياسي وأمني يتيح لهذا التيار- خلافا لغيره- حرية التحرك في المساجد ونشر أفكاره التي ترفض وتخطئ، بل وتكفر في أحيان كثيرة من يخالفها في التوجه، وذلك كله يحصل بعلم من السلطات الحكومية، بحسب مطلعين.
وفي هذا الصدد، قال "أبو أيمن" أحد خطباء مساجد أهل السنة في بغداد إن "التيار المدخلي أو الجامية أصبح له اليوم اليد الطولى والكلمة الفصل حتى في ديوان الوقف السني (بمثابة وزارة للأوقاف)، لأن بعض المسؤولين فيه ينتمون للجماعة ذاتها".
وأوضح "أبو أيمن" في حديث لـ"الاستقلال" أن "التيار المدخلي بسبب المسؤولين المنتمين له داخل الوقف، أصبح بمقدوره إقالة بعض خطباء وأئمة المساجد- في بغداد تحديدا- والمجيء بآخرين ينتمون إليهم أو قريبون منهم، وبالتالي لا يسمحون لأحد غيرهم بإقامة أي نشاط داخل المسجد".
ولفت إلى أن "السلطة الحاكمة في العراق، والتي يديرها الشيعية ترعى هذا التيار من خلال تسهيل حصول أعضائه على التسهيلات في نيل شهادتي الماجستير والدكتوراه من أجل صناعة رموز لهم يدّعون امتلاكهم العلم الشرعي حتى يلتف الشباب حولهم".
وأشار إلى أن "الشباب ولاسيما في الأرياف والقرى يتأثرون بالمظاهر والهيئة الخارجية سواء تقصير الثوب أو إطالة اللحى، لكن الأفكار التي يروّجون لها بين هذه الفئة خطيرة، فهم يؤكدون أن الحاكم اليوم هو ولي أمر إطاعته واجبة بغض النظر عن طائفته".
وبين "أبو أيمن" أن "السلطة اليوم التي يديرها الشيعة في العراق تهتم بانتشار التيار المدخلي الجامي كونه لا يمثل أي تهديد لهم، خصوصا أن الأخير يعادي كل التيارات الإسلامية السنية المناوئة للعقائد الشيعية وسياستهم في إدارة الحكم بظلم وتمييز طائفي".
ونوه إلى أن "خطورة التيار المدخلي تكمن في أنهم أداة بيد غيرهم، سواء السلطة الشيعية في العراق، أو المخابرات السعودية التي تقف وراء تشكيل هذا الفكر الموالي للسلطان، وبالتالي هؤلاء يمثلون معول هدم داخل المجتمع الإسلامي السني".
ظهور مثير
لم يكن ظهور التيار المدخلي الجامي بعد اندحار تنظيم الدولة في العراق هو البداية، وإنما كان بعد الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003، حينما رفضت زعامات هذه الجماعة أي عمل مسلح وعطلت "الجهاد" ضد هذه القوات، والوقوف ضد توجهات أهل السنة في وقتها.
وفي محاضرة ألقاها أبو منار العلمي الذي يعد زعيم التيار المدخلي في العراق، ويرجح أنها كانت في عام 2007، استند في تعطيل الجهاد ضد القوات الأميركية آنذاك، على حديث في سنن أبي داوود أن "النبي محمد صلى الله عليه وسلم غزا غزوة فضيقوا على الناس الطريق، فنادى الرسول من ضيق طريقا أو آذى مسلما فلا جهاد له".
وعلق العلمي على الحديث موجها خطابه لمن يحمل السلاح ضد القوات الأميركية قائلا: "إنك لم تضيّق الطريق وإنما قلت، لأنك تقتل العسكري وسط المدينة وتنهزم مثل المرأة تختبئ، وتترك هذه القوات تطلق النار على الأطفال والشيوخ، وتزعم ذلك جهادا".
وزعم العلمي في حينها أن "شروط الجهاد ليست متحققة في العراق، لأنه لا توجد قوة مادية ولا معنوية ولا عسكرية ودينية، لذلك لا يصح الجهاد في ظل هذه الظروف".
ليس هذا فحسب، وإنما كانت زعامات ومشايخ التيار المدخلي تساند حملات الاعتقال التي تنال أبناء المكون السني، وإلصاق تهم الإرهاب بهم وعرضهم اعترافاتهم التي انتزعت تحت التعذيب على شاشة قناة "العراقية" الرسمية في أعوام 2005 إلى 2008.
وكانت قناة العراقية تعرض برنامج "الإرهاب في قبضة العدالة" تعرض فيه من يجري اعتقالهم من أهل السنة، حتى يدلوا باعترافات انتزعت منهم تحت التعذيب الشديد، فيقروا بقتل أشخاص يتبين لاحقا أنهم أحياء، إضافة إلى حديثهم عن ممارسة الشذوذ الجنسي والاغتصاب في المساجد.
وقد أثار هذا البرنامج الذي كان يظهر فيه أبو منار العلمي رفقة المحققين، جدلا واسعا في الأوساط العراقية سواء على الصعيد السياسي أو على المستوى الشعبي، فقد عد في حينها بداية لإحداث الفرقة بين أبناء الشعب العراقي.
وأغلق البرنامج الذي كانت تعرضه القناة الرسمية عام 2008، بعد مطالبات من جبهة التوافق العراقية (أكبر كتلة للسنة بالبرلمان والحكومة من 2006 إلى 2010)، كونه كان يستهدف تشويه أهل السنة ومساجدهم وإلصاق مختلف التهم بهم.
وفي عام 2013، أفتى كبير "الجماعة السلفية الجامية" أبو منار العلمي بحرمة التظاهر ضد رئيس الحكومة (الأسبق) نوري المالكي، بصفته "وليا للأمر".
ونقلت الفضائية العراقية في 25 يناير 2013 فتوى العلمي التي قال فيها "إن التظاهر ضد المالكي حرام شرعا لأنه وليّ الأمر"، مضيفا أن "من يتظاهر تأييدا له يعد مجاهدا في سبيل الله".
وجاءت فتوى العلمي على إثر احتجاجات عارمة شهدتها المدن السنية عام 2013 ضد المالكي واتهمته بانتهاج سياسة طائفية من خلال شن حملات اعتقال ضد أبناء المكون واتهامهم بالإرهاب، فضلا عن إقصائهم وتهميشهم من مؤسسات الدولة.
الولاء للسلطان
يعود تاريخ نشأة المداخلة إلى عام 1990، فهو تيار سلفي ظهر في السعودية وتمدد إلى دول أخرى، ويعتمد في دعوته ومنهجه على أمرين.
الولاء المطلق للسلطة الحاكمة والطاعة الكاملة للحكام والدفاع عن مواقفهم وسياساتهم مهما كانت، ومهاجمة المخالفين وخاصة من التيارات الإسلامية.
يطلق على هذا التيار تسميات عدة من بينها المداخلة، أو التيار المدخلي، أو المدخلية وكل ذلك نسبة إلى أحد أبرز شيوخهم وهو ربيع بن هادي المدخلي (ولد بالسعودية 1932).
ويعرفون أيضا بـ"الجامية" نسبة إلى محمد أمان الجامي (1931- 1996) الإثيوبي الأصل، وهو شيخ ربيع المدخلي.
وقد نشأت المدخلية إبان عزو العراق للكويت عام 1990، وكانت في صميمها ردة فعل على رفض التيار الإسلامي فكرة الاستعانة بالولايات المتحدة لإخراج القوات العراقية، انطلاقا من فتاوى ترفض "الاستعانة بغير المسلم لقتال المسلم".
وهي الولادة التي عبر عنها ربيع المدخلي بكتابه "صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة بغير المسلمين".
انتشرت الحركة في كل ربوع السعودية بدعم من الأسرة الحاكمة التي رأت فيها معادلا موضوعيا للتيار الإسلامي المتنامي وقتها.
كما انتشرت أيضا في بلدان عربية وإسلامية أخرى من بينها مصر، ومن أبرز رموزهم هناك محمد سعيد رسلان صاحب الفتوى الشهيرة لجنود وزير الدفاع سابقا ورئيس النظام حاليا عبد الفتاح السيسي بوجوب قتل المعارضين.
أقامت الحركة المدخلية دعوتها على أصلين، كما يرى مؤلف كتاب "زمن الصحوة" ستيفان لاكروا، أولهما الطاعة الكاملة لـ"ولي الأمر" مع التوقف عند ظواهر النصوص التي تحض على الطاعة، دون أن تعطي فرصة لأي تعبير عن الرأي المخالف لهوى السلطان، لأنه يعد في عرف المدخلي "نوعا من الخروج المثير للفتن".
وينص الفكر المدخلي في شرحه لأصول السنة على أن المتغلب تجب طاعته حقنا للدماء، فإذا تغلب آخر وجبت طاعة المتغلب الجديد.
وهذه الطاعة حق للولاة والوزراء والمفتين، فتجب طاعتهم جميعا، حتى مع اليقين بظلمهم، ومن هذا المنطلق ترفض المدخلية أي معارضة لبيانات هيئة كبار العلماء في السعودية، كما ترفض الاعتراض على أقوال المفتي العام للمملكة.
وتأخذ المدخلية على الحركات الإسلامية خوضها في السياسة وترى أن ذلك يتضمن تحزبا "مخالفا لأمر الإسلام بتوحيد كلمة المسلمين تحت إمام واحد"، كما تعد أي تعبير عن الرأي المخالف للسلطة، خروجا على الشرع وإثارة للفتنة، حتى ولو عده غيرها من العلماء نوعا من إنكار المنكر، ونصحا لولي الأمر.
أما الأصل الثاني الذي اعتمدته المدخلية، فهو الطعن في المخالفين وتبديعهم، فالشيخ ربيع المدخلي يصرح بأن "الإخوان المسلمين لم يتركوا أصلا من أصول الإسلام إلا نقضوه". كما يرى أن أغلب ممارساتهم الدعوية والسياسية بدعة في الدين منكرة، تجب محاربتها، والوقوف في وجهها، وفق معتقداته.