في عصر ما بعد النفط.. لماذا تواجه دول الخليج تحديات اقتصادية قاسية؟

التنبؤات الاقتصادية بقرب انتهاء عصر النفط عالميا لصالح الطاقة المتجددة والنظيفة، مستمرة منذ عقود، وتشكل التحدي الأكبر والمصيري أمام حكومات الخليج لكونها دولا ريعية تعتمد بشكل تام على النفط.
لذلك تحاول الأنظمة الخليجية إحداث تحولات نوعية في مصادر اقتصاداتها، لكن البترول مايزال الضابط الأساسي لعلاقة الدولة بالحقوق الاقتصادية والسياسية للمجتمع الخليجي، الذي نشأ في ظل عقد اجتماعي يؤطر إلى أن الثروة والرخاء والأعطيات للمواطن هو الأساس.
لكن تحولات اليوم تعزز أن مجلس دول التعاون الخليجي (السعودية- الإمارات- قطر- البحرين- الكويت- عمان) لديهم خطط حاسمة لتهيئة المجتمع لعصر جديد، سيدفع المواطن بقوة لاختراق سوق العمل، ودفع الضرائب، وامتهان المهن التي لم يعهدها من قبل.
فأين تقف الاقتصادات الخليجية اليوم؟ وكيف تستعد الحكومات لمرحلة ما بعد النفط؟ وما انعكاسات هذه العملية على مستقبل الشعوب؟
محفوفة بالمخاطر
مجلة "ذا إيكونوميست" البريطانية قالت في 9 فبراير/ شباط 2023، إنه "بعد عقود من الكلام الفارغ أصبحت الإصلاحات في دول الخليج حقيقية، لكنها محفوفة بالمخاطر، وإن الدفع نحو مزيد من التنوع والقدرة التنافسية يهدد بعزل المواطنين عن مستواهم الاجتماعي شديد البذخ".
وبينت المجلة أن "السعودية والإمارات لديهما خطط جادة وإن لم تكن حاسمة لتنويع الاقتصاد وتهيئة البلاد لعصر ما بعد النفط وهو ما قد يؤدي إلى دفع المواطنين للعمل في القطاع الخاص رغم عدم استعداد بعض المواطنين لذلك".
وأوضحت أن "فرض ضريبة الدخل في الخليج لايزال موضوعا محظورا لكن ثمة من يتوقع أنها لن تبقى كذلك طويلا".
فالعقد الاجتماعي في الخليج يعني عدم وجود ضرائب على المواطنين والمغتربين لكن لم يعد هذا هو واقع الحال، وفق المجلة.
وأضافت: "حتى لو نفذ قادة الخليج خططهم الطموحة بشكل صحيح فإن السنوات القادمة ستكون مرهقة للعديد من الخليجيين".

وأضافت المجلة البريطانية أن "كل هذا يخلق إحساسا بعدم الأمان وكذلك بالحرية، سيحتاج المواطنون الخليجيون إلى الأدوات اللازمة للنجاح في عصر جديد".
فالتعليم هو مكان جيد للبدء، لكن يتخلف تلاميذ المدارس في قطر والسعودية والإمارات كثيرا عن نظرائهم في الدول الغنية.
إذ إن معدلات التسرب مرتفعة لأن الطلاب الأولاد على وجه الخصوص، يفترضون أنه يمكنهم الاعتماد على وظيفة حكومية.
وأتبعت الإيكونوميست: "لذلك فإن التعليم الأفضل يعدهم للمنافسة على وظائف في القطاع الخاص".
وتطرقت إلى التحدي الآخر من حيث العلاقة بين الدولة والأفراد، وجرى بالفعل الاعتراف بالمزيد من الحقوق، على الورق على الأقل.
إذ عززت الإمارات والسعودية حقوق الملكية للأجانب، ومن المحتمل أن يصبح الطريق إلى الإقامة الدائمة، وربما حتى الجنسية أسهل.
وقد يطالب الأجانب الذين يتجذرون في يوم من الأيام بحقوقهم كمواطنين، وفق تقدير المجلة.
ولم تغفل أن المزيد من الحريات الاجتماعية، حدثت مع مزيد من القمع السياسي والمركزية الإدارية، تحديدا في السعودية، في ظل حاكمها الفعلي محمد بن سلمان.
وشددت على أنه من غير المحتمل أن تصبح أي دولة خليجية ديمقراطية في الوقت القريب.
لكن إذا أرادوا إصلاح اقتصاداتهم دون إثارة الاضطرابات، فإنه يتحتم على الحكومات أن تصبح أكثر استجابة للمواطنين العاديين، وإلا فقد تنتهي.
واقع جديد
وتناولت العديد من الإصدارات والأبحاث أخيرا المرحلة الحالية لتلك المنطقة، منها كتاب "ما بعد النفط.. تحديات البقاء في دول الخليج" والذي نشر في 30 سبتمبر/ أيلول 2021، للباحث اللبناني ميرزا حسن القصاب.
وقال فيه: "بفضل الثروة النفطية المفاجئة تحولت ممالك الخليج الست من الفقر إلى الغنى، وكانت عائدات النفط بطاقة دخولها إلى الحداثة، وأصبحت شريان الحياة لأنظمتها الاجتماعية والاقتصادية".
واستطرد: "لكن مستقبلها مهدد بنضوب النفط، وتبقى حقيقة الضعف الاقتصادي لتلك الدول من دونه، فالمنطقة تعتمد على الاستيراد الذي تموله عائدات صادرات النفط".
وأضاف: "ولأن النفط إلى زوال، فعلى هذه الدول التحول اقتصاديا وإنتاج سلع وخدمات قابلة للتصدير والمنافسة عالميا لتغطية وارداتها".
وأوضح: "لكن الفرصة السانحة لتحقيق ذلك بدأت تضيق، بينما الأصول الرأسمالية يجرى تسييلها بسرعة فائقة".

وكان صندوق النقد الدولي قد أصدر توقعاته في 21 فبراير 2021، حول مزيد من النزيف الاحتياطي النقدي لموازنات بعض دول الخليج.
وتوقع الصندوق أن يستمر العجز في الفترة المقبلة، فالسعودية وحدها فقدت خلال العام المذكور نحو 50 مليار دولار.
واقترح على دول الخليج مجموعة من خطوات الإصلاح الاقتصادي للتعامل مع الواقع الجديد شديد القسوة.
وكانت أولى التوصيات خفض نفقات الدولة عبر تقليص الوظائف العامة وتخفيض رواتب الموظفين المرتفعة حسب المقاييس العالمية.
وكذلك تخفيف الدعم الحكومي عن السلع الرئيسة ورفع أسعار الطاقة وزيادة الضرائب على المواطنين.
لكن لخطورة الموقف أوصى الصندوق أيضا أن تترافق هذه الخطوات مع توفير شبكات أمان اجتماعي تساعد الفئات الأكثر فقرا بحيث لا تهدد استقرار المجتمعات الخليجية.
بالإضافة إلى الخطوة الأهم والأساسية المعتمدة على تنويع الاقتصاد الخليجي لفك ارتباطه بالنفط.
وعلق الكاتب السياسي الأميركي من أصل عربي عماد بوظو، على هذه التوصيات من خلال موقع "الحرة" الأميركي، قائلا: "مجموع الإجراءات التي يجب على دول الخليج اتخاذها تتطلب أجهزة إدارية ذات كفاءة ومهنية وخاضعة للمساءلة والرقابة الشعبية، وهذا من الصعب تحقيقه بدون هامش أكبر من الديمقراطية والشفافية".

إشكاليات المرحلة
وفي 9 أغسطس/آب 2023، نشر مركز "كارنيغي" لدراسات الشرق الأوسط، ورقة بحثية ذكر فيها: أن "الرياض وأبوظبي تتخذان إجراءات لتنويع مصادر الاقتصاد استعدادا لمرحلة ما بعد النفط".
واستدرك أن "هذه الإجراءات تهدد بخلخلة العقد الاجتماعي الضمني المرتكز على شرعية تقليدية قوامها الولاء القبلي وأبوية الحاكم، والحفاظ على الأعراف الاجتماعية، والامتيازات الممنوحة للمواطنين".
وذكر أنه "لا شك أن الضغوط على استقرار العقد الاجتماعي قد تزايدت في ظل إجراءات التقشف التي تبنتها المملكة أخيرا وعلى رأسها مضاعفة ضريبة القيمة المضافة إلى ثلاثة أمثالها لتصل إلى 15 بالمئة في 2020".
وأورد: "وسعيا لتخفيف نتائج عجز الموازنة فقد بدأت الدولة في خصخصة 16 قطاعا رئيسا، مثل قطاعي التعليم والصحة، آملة في تحصيل ما يقارب 55 مليار دولار على مدار السنوات الأربع القادمة".
ثم عقب: "بالرغم من حرص المسؤولين السعوديين على التقليل من شأن الآثار المحتملة لعمليات الخصخصة تلك على المواطن السعودي، فإن انعدام الشفافية حول هذا التغيير أثار مخاوف المواطنين بشأن استقرارهم وأمنهم الوظيفي الذي طالما تمتعوا به في القطاع العام".

الباحث المتخصص في شؤون الشرق الأوسط أحمد رشاد يرى أن "سؤال خليج ما بعد النفط ليس وليد اللحظة والظرف الراهن، بل هو مطروح منذ سنوات".
وأردف: "أذكر كتاب البروفيسور الأميركي مايكل كلير بعنوان (الدم والنفط) الذي صدر عام 2011، وتحدث عن الأبعاد السياسية والاجتماعية لدول الخليج في عصر ما بعد النفط".
وأضاف: "هذا الكتاب تنبأ بكثير مما يحدث اليوم، وبحدوث خلل مستقبلي في العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين نتيجة المتغيرات الحتمية التي ستحدث في هذا العالم".
وعلى رأسها شبكة الأمان الاجتماعي شديدة الرفاهية، واستعداد المواطن المرفه للدخول إلى سوق عمل قاس ومتوحش، وفق وصفه.
واستطرد: "على الصعيد الخارجي ظهر هذا في العلاقات الدبلوماسية ما بين دول الخليج، وتحديدا السعودية والولايات المتحدة".
فقديما كان الوضع أن واشنطن هي الحليف الأكبر والأهم والإستراتيجي للرياض، وهي المتكفلة بالحماية والرعاية.
أما السعودية فكانت هي الممد الرئيس للولايات المتحدة بالنفط والطاقة، وعليه كانت العلاقة قائمة ومثالية، وفق وصفه.
وأتبع: "لننظر الآن ونرى شكل العلاقات في زمن (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترامب على سبيل المثال عندما أجبر (العاهل السعودي) الملك سلمان وأنظمة الخليج على دفع أكثر من 50 مليار دولار، لتجديد عقود الرعاية".
ومع ذلك سحب ترامب أنظمة باتريوت ودخلت إدارته في خلافات غير مسبوقة مع حكام السعودية، بعد مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وفق قول رشاد.
واختتم: "في المستقبل القريب ستكون المسألة أوضح والتنبؤات حقيقية على أرض الواقع، ولن يعود الأمر كما كان في الماضي من كفالة كاملة للدولة للمواطن".
وتوقع أن تنتهي الرفاهية وأن يعمل المواطن الخليجي على تأهيل نفسه لتلك الحقبة بقوة، وستعمل الأنظمة على نسخ شباك اقتصادية جديدة تكفل لها البقاء والاستمرار، كما قال.