اتهامات فرنسا لقطر بشأن العمال.. هكذا ارتدت عليها في أولمبياد باريس 2024

إسماعيل يوسف | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

بعد أن تناول الإعلام الفرنسي مونديال قطر 2022 بانحياز وتعصُّب وعنصرية، ارتدت الكرة إلى صدر باريس، عقب الكشف عن مواجهة البلد الأوروبي اتهامات بانتهاك حقوق العمال، وهي ذات التهمة التي كان يوجهها إلى الدوحة.

ففي 5 يناير/كانون ثان 2023 فجر تحقيق صحفي نشرته صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية فضيحة من العيار الثقيل، بشأن انتهاكات جمة للشركات الفرنسية بحق العمال المهاجرين العاملين في منشآت بطولة الألعاب الأولمبية (باريس 2024).

تحقيق الصحيفة الفرنسية ركز على "استغلال" العمال الأجانب المتواجدين بصفة غير شرعية (المهاجرين) في مشاريع مرافق أولمبياد باريس 2024، بإسناد أعمال شاقة لهم، أدت لوفاة بعضهم ودفع مبالغ زهيدة لهم لا تناسب شقاءهم.

انتهاكات العمال

نقلت "ليبراسيون" عن عمال أفارقة قادمين من "مالي" كيف يعملون في أحد مواقع البناء لأولمبياد باريس "لأيام طويلة مقابل أجر زهيد"، وكيف تستغلهم فرنسا لأنهم يعيشون هناك "دون تصريح عمل"، رغم أنه وضع يحدث في كل أنحاء العالم.

نقلت عن أحدهم قوله: "لقد قبلت بذلك بسبب وضعي (بدون إقامة رسمية). إذا لم تكن لديك أوراق، فأنت مضطر إلى قبول العمل الشاق وكل الوظائف الرديئة، ليس أمامك خيار آخر".

أضاف: "الكل يعرف ما يجري، لكن لا أحد يتحدث عنه"، ومع هذا يجري طردنا بلا أي حقوق، لو حضر بوليس الهجرة إلى المكان.

وعلق النقابي برنار تيبو الذي يشارك في رئاسة لجنة مراقبة الميثاق الاجتماعي لباريس 2024، على ذلك بقوله "إن ما يحدث من جانب السلطات السياسية به قدر كبير من النفاق".

وقال عامل آخر (موسى) طلب أيضاً عدم كشف هويته لأسباب أمنية: "نفعل ذلك من أجل العائلة (التي بقيت) في مالي، والتي ندعمها (مادياً)، ونقدم كل التضحيات من أجل هذا العمل".

وبعدما اشتكى علناً من ظروف العمل، أردف: "كل هذه الملاعب الجميلة بناها فقراء (...) جرى استغلالهم".

ويوضح العامل موسى: الفرنسيون لا يريدون فعل هذا العمل في الموقع، فيحضرون أجانب فقط، باكستانيين للكهرباء، وعربا للسباكة، وأفغانا للبناء بينما يجلس الفرنسيون البيض في المكاتب".

واشتكي عمال آخرون، أحدهم يدعى "عبدو" لصحيفة ليبراسيون بالقول: "ليس لدينا حقوق، ولا ملابس عمل، ولا تُوفر لنا أحذية أمان، ليس لدينا الحق في الفحوصات الطبية، وإذا مرض أحدنا أو أصيب، يستبدلونه في اليوم التالي".

وأشارت الصحيفة إلى أن أول اكتشاف لقضية استغلال العمال المهاجرين غير النظاميين يعود إلى مايو/أيار 2022 حين قررت مجموعة من 12 مهاجرا من مالي التوجه بشكواهم إلى نقابة "الكونفدرالية العامة للشغل" الفرنسية، طالبين منها الوقوف إلى جانبهم والدفاع عنهم ضد مستغليهم.

ولفتت صحف فرنسية وإفريقية إلى استغلال باريس عمال أفارقة من الدولة التي كانت تستعمرها لتنفيذ أعمال البناء بأجور رمزية وأجواء عمل خطرة واستعبادية.

واشتكى العديد من العمال غير القانونيين من "سوء المعاملة والاستغلال وتشغيلهم في أعمال شاقة بأجر زهيد وطالبوا بتسوية أوضاعهم"، بحسب ما نشرت وكالة الأنباء الفرنسية 20 يناير 2022.

قالت: "صار توظيف (واستغلال) مهاجرين غير شرعيين بلا تصاريح عمل في المواقع قيد الإنشاء لدورة الألعاب الأولمبية في باريس التي ستكون الحدث الأبرز في فرنسا عام 2024، قضية تثير توتراً سياسياً واجتماعياً".

وفور كشف الفضيحة، نشرت عدة صحف فرنسية وأجنبية تقارير حول الجرائم التي ترتكبها فرنسا بحق العمال، ملمحين إلى أنها كانت في السابق تنتقد تنظيم قطر لبطولة كأس العالم، بدعوى الدفاع عن حقوق "عمال المونديال"، لكنها الآن تفعل الشيء نفسه.

صحيفة "لوموند" الفرنسية أشارت لنفس الفضيحة والجرائم المرتبكة في حق العمال الأفارقة والمهاجرين غير الشرعيين في تقرير نشرته 7 ديسمبر/كانون اول 2022.

نشرت شهادات عمال مهاجرين غير مسجلين في مواقع إنشاء البنية التحتية للألعاب الأولمبية تدور حول "استغلال وانتهاك بحق مهاجرين غير نظاميين عبر تشغيلهم في ظروف تفتقر إلى الوضعية القانونية والإنسانية".

والتقت الصحيفة في تحقيقها بعشرة مواطنين ماليين، يتواجدون في فرنسا، بشكل غير قانوني، توظفهم شركة مقاولات تعمل في المشاريع المخصصة لأولمبياد باريس.

وتحدث عمال من دولة "مالي" أيضا التي كانت تحتلها فرنسا أيضا عن تكليفهم بمهام الحفر والبناء دون عقود عمل أو إجازات أو وثائق إقامة.

ذكرت لوموند في تحقيقها أن هؤلاء العمال يؤدون أعمالا شاقة، كحمل بعضهم أكياس إسمنت تزن عشرات الكيلوغرامات، ليصعدوا بها 13 طابقاً، وآخرون مختصون في بناء الخرسانة المسلحة.

وبينت أن هؤلاء العمال لا يحظون بأي ضمان اجتماعي وقانوني، إذ يعملون مقابل ما يزيد قليلاً عن 80 يورو يومياً غير مصرح بها، دون الاستفادة من يوم عطلة.

وقد كشف تقرير لصحيفة "لوهيومانيتي" L’Humanité في 15 مارس/آذار 2022 أن ثلاثة حوادث مميتة وعشرات الحوادث الخطيرة في مواقع البناء في منطقة إيل دو فرانس وقعت في الأسابيع الأخيرة.

وقالت الصحيفة إن تراكم أعمال البناء في باريس يزيد من احتمال وقوع حوادث مميتة، مشيرة إلى حدوث وفاة يومية في فرنسا نتيجة أعمال البناء هذه، وأن العمال المتوفين غالبا ما يكونون بلا أسماء ويظلون مجهولين بسبب أوراق عملهم المزورة.

وقال ناشطون إن ما كانت فرنسا تزعم أنه حدث للعمال في الدوحة، يجري فعليا لهؤلاء العمال في باريس، فلماذا دعت رئيسة بلدية باريس "آن هيدالغو" إلى مقاطعة مونديال قطر، في حين لم تخرج بتصريح حول انتهاك حقوق العمال في باريس، وهم على مرمى حجر من مكتبها؟

وفي أكتوبر/تشرين أول 2022، وقبل أقل من شهرين من انطلاق كأس العالم لكرة القدم في الدوحة، تضاعفت الدعوات في فرنسا لمقاطعته، وقادتها "آن هيدالغو".

قالت: "لن تركب مدينة باريس شاشات عملاقة أو مناطق للمشجعين في الشوارع، احتجاجا على إقامة كأس العالم في بلد غير مناسب مناخيا (حار) وحيث قتل عدد العمال المهاجرين في مواقع البناء".

ووصف الحقوقي الفرنسي فرانسوا دي روش، رئيس منظمة حقوق وعدالة بلا حدود، قرار عمدة باريس، حينئذ، بمقاطعة كأس العالم في قطر 2022 بذريعة انتهاك حقوق العمال بأنه "نوع من النفاق وبمثابة متاجرة سياسية".

وتساءل في تصريحات لموقع "الجزيرة مباشر" 30 أكتوبر 2022: "أين كانت عمدة باريس عام 2018 عندما نُظم كأس العالم في روسيا، بينما كانت الأخيرة تقصف سوريا بالقنابل؟".

ازدواجية الأخلاق

يأتي هذا في وقت تستمر فيه فرنسا ومعظم الدول الغربية بالحديث عن الانتهاكات ضد العمال الذين بنوا منشآت كأس العالم في قطر، لا سيما بشأن مصير بعض العمال المهاجرين الذين ماتوا في مواقع البناء، وفقا لمنظمة العفو الدولية.

وعقب ظهور فضيحة استعباد الأفارقة المهاجرين غير الشرعيين في بناء منشآت أولمبياد باريس، بدأت تظهر كتابات على بعض الأرصفة في الشوارع الحيوية بالعاصمة الفرنسية، لا سيما بالقرب من مبنى البلدية تستنكر المعايير المزدوجة لبلدية باريس حيال التعاطي مع مونديال قطر.

وكتب ناشطون يقفون وراء هذه الحملة المنتقدة لبلدية باريس: "قاطعوا شركة توتال من أجل حقوق العمال"، و"قاطعوا شركة لافارج لتمويلها تنظيم الدولة في سوريا".

وفي أكتوبر 2022 قضت محكمة أمريكية بتغريم شركة لافارج الفرنسية 777.8 ملايين دولار، بعد اتهامها بتمويل التنظيم ودفع مبالغ مالية له ولجبهة النصرة، مقابل الإذن لإنشاء مصنع إسمنت في سوريا.

وانتقد فرنسيون ما أسموه "العبودية الحديثة" في بلادهم والاستغلال غير القانوني للأشخاص من أجل تحقيق مكاسب شخصية أو تجارية.

ويغطي هذا المصطلح مجموعة واسعة من الانتهاكات والاستغلال بما في ذلك السخرة والعمل القسري. وهما أمران يبرزان جليا في حالة العمال غير النظاميين بمواقع الألعاب الأولمبية في باريس، وكذلك مئات العاملين الآخرين بمثل ظروفهم.

وتقول صحيفة لوموند إن تقديرات وزارة الداخلية الفرنسية تؤكد على وجود ما بين 600 و700 ألف مهاجر غير نظامي في البلاد، معظمهم من البلدان المغاربية وإفريقيا جنوب الصحراء.

ويجري استغلال قطاع واسع منهم في هذا النوع من العمل غير القانوني وتحت ظروف قاسية وبأجور زهيدة.

وفي الثاني من ديسمبر 2022 صدر تقرير عن الأمم المتحدة يتحدث عن أن "التمييز العنصري في فرنسا بات يشكل قلقا ملحا".

وأكدت "لجنة القضاء على التمييز العنصري" التابعة للأمم المتحدة، على "استمرار الخطاب العنصري والتمييزي في فرنسا، لا سيما في وسائل الإعلام وعلى الإنترنت".

وجاء في المراجعة الدورية لسياسة فرنسا تجاه الأقليات، وأصدرها 18 خبيرا مستقلا بأن هناك قلقا من الخطاب السياسي العنصري الذي يتبناه الزعماء السياسيون، ولا سيما "المهاجرين والأفارقة والمنحدرين من أصل عربي".

وفي وقت استغل الإعلام الفرنسي والغربي واقعة "عمال مونديال قطر" في شن حملة عدائية ضد استضافة الدوحة لمونديال 2022، لم يهتم الإعلام الأوروبي كثيرا باستغلال العمال في أولمبياد باريس.

وبالتزامن مع فضيحة عمال الأولمبياد، كشف تقرير لموقع "بوليتيكو" الأميركي 17 يناير 2023 عن خطط فرنسية لتكثيف مراقبة الشعب الفرنسي وزوار الأولمبياد عبر سلسلة كاميرات مراقبة.

أوضح أن فرنسا تخطط لتكثيف قوة المراقبة في أولمبياد باريس 2024 عبر توسيع ترسانتها من سلطات وأدوات المراقبة بشكل كبير لتأمين ملايين السياح المتوقع مشاركتهم في دورة الألعاب الأولمبية.

والطريف أن اللجنة المنظمة لأولمبياد باريس أكدت أنها وضعت كاميرات وأجهزة مراقبة في مواقع العمل للكشف عن استغلال العمال، لكن الشهادات التي جمعتها الصحف الفرنسية تقوض هذه التأكيدات وتدحضها. 

ومن بين خطط فرنسا لمراقبة ضيوف الأولمبياد، أنظمة كاميرات واسعة النطاق مدعومة بخوارزمية لرصد السلوك المشبوه، بما في ذلك الأمتعة غير الخاضعة للرقابة وحركات الحشود المزعجة مثل التدافع.

وسيصوت أعضاء مجلس الشيوخ على قانون يدعم تنفيذ السلطات هذه المراقبة التي يفترض أن تكون مؤقتة، بما فيها السماح بتكنولوجيا التعرف على الوجه المثيرة للجدل.

وتقول "بوليتيكو" إن المخاطر كبيرة، إذ تزعم الحكومة أنها تريد بشدة تجنب الإخفاقات الأمنية مثل تلك التي أضرّت بسمعتها خلال نهائي دوري أبطال أوروبا 2022، وصدمة هجمات باريس الإرهابية عام 2015.

لكن هذه الخطط تثير ضجة بين المدافعين عن الخصوصية، إذ يتخوف "باستيان لو كويريك" من "منظمة الحقوق الرقمية غير الحكومية" من استخدام الألعاب الأولمبية كذريعة لتمرير إجراءات مراقبة أمنية تقيد الحريات.

وسبق أن تراجعت الحكومة الفرنسية عن نشر تقنية التعرف على الوجه بعد أن أثار مشرعون داخل حزب الأغلبية الذي يتزعمه الرئيس إيمانويل ماكرون مخاوف حقوقية.

كما جرى إجبارها من قبل سلطة حماية البيانات في البلاد والمحكمة الإدارية العليا على بناء المزيد من ضمانات الخصوصية.

وفي الوقت الحالي، سيسمح القانون بـ "تجربة" أنظمة المراقبة، التي يفترض أن تنتهي في يونيو/حزيران 2025، أي بعد 10 أشهر من انتهاء أولمبياد باريس 2024، ومع ذلك، يخشى المنتقدون أن يؤدي القانون إلى مراقبة غير مرغوب فيها على المدى الطويل.

مع هذا يتساءل فرنسيون: على فرض أن أجهزة المراقبة هذه سيجري استعمالها مؤقتا، فماذا سيحدث للأجهزة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي بمجرد انتهاء الألعاب الأولمبية؟

وفي ظل غياب إجابات الحكومة الفرنسية، يتوقع ناشطون أن يجري بيعها لأنظمة قمعية مثل مصر ودول عربية أخرى.

إذ سبق لفرنسا أن باعت أجهزة لمصر للمراقبة والتجسس على المصريين وثبت أنها أدت لاعتقال وتعذيب العديد منهم.