"اجتماع الضرورة".. هكذا كشف عن عمق الخلافات الشيعية المسيحية في لبنان

مصطفى العويك | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

على خلاف الدستور، عقدت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 جلستها الأولى عقب انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون في 31 أكتوبر/ تشرين الأول، بناءً على دعوة رئيسها نجيب ميقاتي. 

وقد برر الأخير خطوته بوجود أمور ضرورية تتعلق بصحة المواطنين، خاصة مرضى غسيل الكلى والسرطان يجب إقرارها. 

وسارعت القوى السياسية المسيحية إلى معارضة هذا الاجتماع، بصفته "غير دستوري ولا وطني ولا ميثاقي". 

وفي طليعة هذه القوى التيار الوطني الحر، الذي يسيطر على ثلث مقاعد الحكومة، والذي أصدر بيانا باسم وزرائه أعلن فيه عن مقاطعة الاجتماع. 

ولا يبيح الدستور اللبناني اجتماع حكومات تصريف الأعمال التي فقدت شرعيتها. ومجلس الوزراء يمثل العائلات الروحية اللبنانية، وفي حال غياب أي طائفة يعد ذلك عيبا وطنيا يناقض الدستور الذي ينص على أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. 

لكن الجلسة الحكومية انعقدت، واكتمل نصابها القانوني، وحضر الوزراء الذين يمثلون القوى السياسية المؤلفة من حزب الله وحركة أمل الشيعيتين، وتيار المردة الماروني (يميني).

وكذلك الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي، والحزب القومي السوري الاجتماعي (يساريان)، ومعهم أيضا المستقلين السنة، وحزب الطاشناق الأرمني (يساري).

مع غياب الحضور المسيحي الوازن والمؤثر، والمتمثل في التيار الوطني الحر. وهو ما أثار جدلاً حول مشروعية القرارات الصادرة عن الحكومة.

وكذلك عن كيفية توقيع رئيس الحكومة السني مكان رئيس الجمهورية الماروني، وهي من الأمور شديدة الحساسية في بلد مثل لبنان يقوم على توازنات طائفية دقيقة ومعقدة. 

فهل كان اجتماع الحكومة حاجة ماسة فعلاً أم لأهداف سياسية؟ وما ردة فعل المسيحيين بعدما حصل؟ وما علاقة انتخابات رئاسة الجمهورية بكل ذلك؟

اجتماع الضرورة

مع صدور البيان الموقع باسم الوزراء الذين سماهم التيار الوطني الحر عند تأليف الحكومة وعددهم 9 عشية انعقاد الجلسة، ساد اعتقاد لدى الرأي العام بأنها لن تعقد بسبب عدم توفر النصاب القانوني. 

إذ ينص الدستور على عدم جواز حدوث جلسة لمجلس الوزراء بأقل من ثلثي أعضائها، والحكومة مكونة من 24 وزيراً. 

بيد أن حضور أحد الوزراء التسعة، وهو الوزير الأرمني جورج بوشيكيان، ممثل حزب الطاشناق المتحالف مع التيار الوطني الحر، أمن نصاب الجلسة. 

لم تكن الجلسة لتحصل لولا دعم حزب الله الذي حضر ممثلاه، وكذلك رئيس مجلس النواب شريك نبيه بري، شريك الحزب في الثنائية الشيعية التي تهيمن على الحكم. 

وجرى الاتفاق بين الأطراف الحكومية التي حضرت على اختصار جدول أعمال الجلسة من 60 بندا إلى 25. 

وكان أهم بنوده إقرار تحويل الأموال لوزارة الصحة لتأمين استمرارية عقودها مع المستشفيات، وكذلك لتأمين الأدوية والعلاجات لمرضى السرطان وغسيل الكلى. 

وكانت نقابة المستشفيات الخاصة أعلنت في بيان لها في 24 نوفمبر/تشرين الثاني عن "عدم استقبال المرضى على نفقة وزارة الصحة". 

وذلك لأن الأخيرة جددت العقود مع المستشفيات، لكن تلك العقود بحاجة إلى إقرارها بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء كي تصبح سارية المفعول قانونياً. 

وهذا ما يعني  حسب النقابة أن "المستشفيات لن تتمكن من الحصول على المستحقات العائدة لسنة 2022". 

كما حذرت النقابة في بيانها من أن "المستشفيات لن تتمكن من تأمين الأدوية والمستلزمات الطبية لمرضى غسيل الكلى"، مما سيضطرها إلى تحميل هؤلاء المرضى كلفة علاجهم. 

وهذا يسري أيضا على مرضى العلاج الكيميائي بحسب النقابة، داعية رئيس الحكومة إلى "استدراك هذا الأمر للحؤول دون الوقوع في المحظور". 

وقال ميقاتي في مستهل الجلسة إن "مجلس الوزراء انعقد تحت سقف الدستور اللبناني"، داعيا إلى "فصل السياسة عن العمل الحكومي لخدمة أمور الناس، ومعالجة الملفات التي تهم المواطنين".

وأكد أنه "لا أحد يرغب في أن يأخذ مكان رئيس الجمهورية، الدستور كلفنا بمهمات معينة وعلينا القيام بها بكل وضوح".

وعلى الرغم من كل محاولات التيار الوطني الحر إرساء مناخ بأن المسلمين يقصون المسيحيين من الدولة والسلطة من خلال الجلسة وما سيتبعها، إلا أنه فشل في ذلك.

فقد حظيت خطوة ميقاتي بغطاء ميثاقي أمنه حضور ستة وزراء مسيحيين للجلسة. 

والغطاء الميثاقي يقتضي حضور ممثلين عن الطوائف الأربع الأساسية في لبنان، السنة والشيعة والدروز والمسيحيين الموارنة في كل اجتماعات مؤسسات الحكم، كما تنص وثيقة الوفاق الوطني التي أنهت الحرب الأهلية.

بالإضافة إلى الغطاء المعنوي الذي منحه البطريرك الماروني بشار الراعي لرئيس الحكومة في عظته الأسبوعية قبل 24 من الجلسة بقوله إن "الحكومة هي لتصريف أعمال الناس لا جدول أعمال الكتل والأحزاب السياسية". 

غدر الحليف

ردا على ما حصل، وعلى وقع اتهام حزب الله بالغدر من قبل عدد من قياديي ونواب التيار الوطني الحر، عقد رئيسه جبران باسيل مؤتمرا صحفيا وجه فيه سلسلة مواقف عُدّت الأعنف تجاه حليفه حزب الله، واستهدفت كذلك رئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي.  

وقال باسيل إن جلسة مجلس الوزراء "تأكيد على غاية دفينة بوضع اليد على السلطة"، وعدّ أنها "اعدام للدستور وضربة قاتلة للطائف (الاتفاق الذي أوقف الحرب الأهلية الدامية)".

وشدد على "أننا لن نقبل بما جرى، والموضوع لن يمر"، واصفاً ما حصل بأنه "ليس أقل من سطو على موقع رئاسة الجمهورية عن سابق إصرار وتصميم". 

وأبرز باسيل في مؤتمره الصحفي أحد المراسيم التي صدرت عن الجلسة، ليبين للرأي العام، وخاصة المسيحي منه، كيف قام رئيس الوزراء المسلم بالتوقيع مكان رئيس الجمهورية المسيحي. 

وعلق على ذلك قائلا "رئيس الجمهورية لا يجزأ، والصلاحيات اللصيقة بشخصه لا أحد يمارسها عنه، والصلاحيات المرتبطة بتوقيعه يمارسها مكانه كل الوزراء كما حصل بين عام 2014 2016". 

وعنى بذلك الاتفاق الشفهي بين القوى السياسية عام 2014 على توقيع جميع الوزراء للمراسيم الحكومية إبان الشغور الرئاسي الذي استمر سنتين ونصف في تلك الحقبة. 

والذي وصفه بعض المراجع الدستورية والقانونية بأنه غير دستوري ولا قانوني لأنه يمنح الوزير صلاحيات ليست له. 

وطالب باسيل بالعودة عن القرارات التي صدرت عن الجلسة، مهددا بفرض "اللامركزية الإدارية الموسعة" بالقوة. 

وهذا المصطلح يعبر عن رغبة المسيحيين في الاستقلالية المالية والإدارية للبلديات في المناطق ذات الغالبية المسيحية. 

ويعد ذلك إجراء مموها عن "الفيدرالية" التي طالب بها المسيحيون أيام الحرب الأهلية للتخلص من المشاركة مع المسلمين. وهذا الطرح مازال يحظى بتأييد بعض النخب المسيحية. 

وتعليقاً على ما استجد على العلاقة بين باسيل وحزب الله على خلفية انعقاد جلسة مجلس الوزراء دون موافقة باسيل، رأى الصحفي سامر زريق، أن "الخلاف الذي نشب بين الحليفين سببه تأييد الحزب غير المعلن حتى الآن للمرشح الرئاسي سليمان فرنجية على حساب جبران.

وأضاف زريق في حديث لـ"الاستقلال": على الرغم من دلالة هذه الجلسة سياسيا ووطنيا، بما شكلته من رسالة سلبية من الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله)، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى جميع المسيحيين، وليس التيار الوطني الحر فقط، فقد أحدثت اهتزازا مباشرا في "تفاهم مار مخايل".

وهذا التفاهم موقع منذ عشر سنوات بين حزب الله والتيار الوطني الحر، ونص على أن يغطي الأخير سلاح المقاومة، مقابل أن تكون له اليد الطولى في إدارات الدولة.

وأكد زريق أن "هدف باسيل ليس الدفاع عن مقام رئاسة الجمهورية، إنما الظهور أمام الرأي العام بأنه كذلك. أما الحقيقة فهو يريد التصعيد بوجه حزب الله لتحسين شروط التفاوض معه، وتعويم نفسه من جديد ليدخل نادي المرشحين الجديين لرئاسة الجمهورية".

وهنا ذكرت مصادر سياسية مطلعة لبوابة "العين الإخبارية" أن "باسيل يريد من التهديد والوعيد الذي خاطب به حليفه ليس كسر التحالف معه، بل غاياته رئاسية بحتة". 

وكان لافتاً أن كلام باسيل الموزع على وسائل الإعلام ووكالات الأنباء خلا من الكلام القاسي تجاه حزب الله، وكذلك من تهديده بتنفيذ اللامركزية الموسعة بالقوة.

طريق الرئاسة

جبران باسيل هو صهر الرئيس السابق ميشال عون ووريثه السياسي، وكان لديه طموح كبير بالحلول مكانه في سدة رئاسة الجمهورية. 

يمتلك تكتلا نيابيا هو الأكبر في المجلس (21 نائبا)، بالإضافة الى حضور واسع في مفاصل إدارة الدولة. 

لكن العقوبات الأميركية التي تعرض لها وفق قانون ماغنيتسكي لمحاربة الفساد في نوفمبر 2020 قوضت من حظوظه الرئاسية، بالإضافة إلى صراعاته الكثيرة مع أغلب القوى والنخب السياسية، مسلمين ومسيحيين. 

ويضم تكتله النيابي حليفه حزب "الطاشناق" الأرمني الذي حضر ممثله في الحكومة الجلسة، رغم ورود اسمه في بيان الاعتذار، مما سبب حرجاً للحليفين. 

ويحظى الأرمن في لبنان بتمثيل في الدولة على اختلاف طوائفهم. فلديهم 6 نواب من أصل 128، نصفهم من "الطاشناق"، وتمثيل دائم على طاولة مجلس الوزراء. 

ومن أجل الحفاظ على التحالف مع التيار الوطني الحر القائم منذ عام 2005، أقدم "الطاشناق" على فصل الوزير والنائب جورج بوشيكيان من صفوفه. 

وحسبما يبدو، فإن باسيل يحاول استغلال الجلسة الحكومية في ظل الشغور الرئاسي لكسب تعاطف المسيحيين الأمر الذي من شأنه أن يقوي من حضوره كمرشح لمنصب رئاسة الجمهورية، الذي يكتسب رمزية مسيحية خاصة. 

لذلك سارع إلى الالتقاء ببطريرك الموارنة بشارة الراعي في 10 ديسمبر لحضه على الدعوة لاجتماع مسيحي سياسي عام. 

تلاه لقاء بعد ساعات قليلة مع رئيس الجمهورية السابق ميشال عون. لكن باقي الأطراف السياسية المسيحية لا توافق على ذلك. 

وقد رد رئيس حزب القوات سمير جعجع، على دعوة باسيل في تغريدة له قال فيها إن "الحوار يلزمه أهل حوار". 

وفي سبيل طموحاته، لا يبالي باسيل بالاختلاف مع حزب الله، الذي أبرم معه التيار الوطني الحر اتفاقاً تاريخياً في 6 فبراير/شباط 2006. 

فمذاك أصبح حزب الله الداعم الأٌقوى للتيار الوطني الحر على الساحة السياسية، وصولا إلى نجاحه في إيصال مؤسسه ميشال عون إلى سدة الرئاسة عام 2016. 

وهذا ما كان يطمح باسيل إلى تكراره، ولكن حزب الله يدعم ترشيح الوزير الأسبق سليمان فرنجية، ومن بعده قائد الجيش جوزيف عون كحل توافقي.

وللمرة الأولى يحصل تراشق إعلامي بين الطرفين الحليفين. فقد وجه باسيل اتهامات إلى حزب الله بالغدر والنكوث بوعده. 

الأمر الذي شكل استفزازا لحزب الله، وهو الذي لطالما فاخر بأن وعده وثيقة شرفية وأخلاقية غير قابلة للنقض أو التراجع. 

ولذلك أصدر بيانا رد فيه على كلام باسيل، أكد فيه أنه "لم يقدم وعدا لأحد بأن حكومة تصريف الأعمال لن تجتمع إلا بعد اتفاق كل مكوناتها". 

وأضاف "لم يقدم وعدا للتيار بأنه (حزب الله) لن يحضر جلسات طارئة للحكومة إذا غاب عنها وزراء التيار". 

وخلص الحزب في بيانه إلى أن "الصادقين لم ينكثوا بوعد". بدوره رد باسيل على ذلك ببيان للتيار الوطني الحر. 

وكتب وليد شقير في موقع "أساس ميديا" في 10 ديسمبر أن ردة فعل باسيل الأخيرة مردها إلى "توهم رئيس التيار الوطني الحر أنه يخوض بعضلات حزب الله معركة تثبيت دوره كممر إلزامي إلى انتخاب رئيس الجمهورية المقبل، نظرا إلى اعتياده الاستعانة بعضلات الحزب من أجل الاستئثار بالحكم على مدى 6 سنوات". 

ويكشف شقير عن رفض أمين عام حزب الله حسن نصر الله منح موعد لباسيل كان قد طلبه الأخير منذ أكثر من أسبوع.

ويضيف أنه "للمرة الأولى خلال موجات الخلافات مع باسيل يعلن حزب الله رده عليه. وما هذا الإعلان سوى محاولة للتأكيد أنه يحتفظ بالقدرة على المبادرة. فالرسالة من وراء إنجاح اجتماع مجلس الوزراء حققت أهدافها". 

ويفند شقير رسالة حزب الله بأن رئيس الحكومة السني غير قادر على جمع الحكومة دون الحزب وموافقته بل وبجهوده. 

ويخلص إلى أن "توجيه اللكمة إلى باسيل يكرس تحكم حزب الله باللعبة في انتظار ما سيكون، سواء جرى انتخاب رئيس يريده، أم عقدت تسوية ما".