رواتب عالية وسرقة للركام.. هكذا تحول تدمير غزة إلى صفقة إسرائيلية رابحة

خالد كريزم | منذ ١٩ ساعة

12

طباعة

مشاركة

ضمن خطتها لتدمير قطاع غزة، بدأت حكومة الاحتلال الإسرائيلي في تشجيع المقاولين والعمال على اجتياح الجيب المحاصر وهدم المنازل، لتحول التدمير إلى فرصة تجارية رابحة.

واتخذت الحكومة طريقين للسير في هذه الخطة، الأولى تكمن في صرف رواتب شهرية غير معهودة للعاملين في هدم المنازل، والثانية تتمثل بسرقة الركام نفسه وإعادة تدويره والاستفادة منه.

هدم المنازل

وكشفت صحيفة ذا ماركر الاقتصادية العبرية في 10 يوليو/تموز 2025، أن تدمير المباني في قطاع غزة تحوّل إلى مصدر دخل مربح لمشغّلي الآليات الثقيلة في إسرائيل.

وأوضحت خلال تحقيق لها أن بعض أجور الهدم ناهز 30 ألف شيكل شهريا (ما يعادل 9 آلاف دولار)، بحسب شهادات للعاملين من هناك.

وأشارت إلى أن بعض تفاصيل العقود التي أصدرتها وزارة الجيش الإسرائيلية كشف تخصيص 2500 شيكل (750 دولارا)  للمبنى من ثلاثة طوابق أو أقل، فيما قُدّر هدم مبنى أعلى بـ5 آلاف شيكل، و392 شيكلا (118 دولارات) للساعة الواحدة أثناء توقف الآلية عن العمل.

وبحسب ما ورد في الصحيفة، فإنّ إعلانات الهدم قُدّمت أحياناً بلُغة دينية عبر شبكات التواصل، لتشجيع مزيد من الإسرائيليين للمشاركة في أعمال الهدم. 

وبالفعل نقل الاحتلال كثيراً من الآليات إلى قطاع غزة من أجل تدميره، مما حوّل "إسرائيل إلى دولة مشلولة، لا تنفذ أي مشاريع حاليا"، وفق ما أفادت به الصحيفة.

وقال أحد الإسرائيليين الذين عملوا في غزة بالهدم للصحيفة: “إذا كنت تريد أن تجني أرباحًا، فاستثمر 700 ألف شيكل واشتر جرافة. ستربح 4 آلاف شيكل يوميًا” (الدولار يساوي 3,34 شيكلا).

وأردف: "الجيش يدفع لصاحب الجرافة 5 آلاف شيكل يوميا، يعطي منها 1000 للعامل والباقي يبقى له، وإذا لم يجدوا مشغلا مدنيا، يضعون بدلا منه جنديا".

 وتابع: "العمل هناك صعب وخطير فقد فقدت 3 أصدقاء و10 جنود عملوا معي، ولهذا فإن الجيش لا يعمل بمنطق ويريد فقط تدمير أكبر قدر ممكن دون حساب". 

وكان لافتا على مدار الشهور الأخيرة، إعلان جيش الاحتلال أكثر من مرة، مقتل مقاولين إسرائيليين في عمليات للمقاومة.

وواصل العامل الإسرائيلي: "كنت أعمل من أجل الراتب، وأحصل على 30 ألف شيكل شهريًا، وقد أعطوني سيارة وسكنًا في أشكلون (عسقلان)".

ولفت تحقيق الصحيفة إلى وجود إعلانات توظيف مباشرة، قيل في أحدها: "مشروع تابع لوزارة الجيش، مطلوب مشغّل جرافة محترف للعمل في غزة، 1.200 شيكل صافٍ لليوم، من الساعة 7:00 حتى 17:00، من الأحد للخميس، بالإضافة إلى السكن والوجبات".

وذكر أن الجيش ينقل الكثير من الآليات إلى غزة من أجل تدميره، وقال جندي احتياط: "جزء كبير من الجرافات المتوفرة في إسرائيل موجود الآن في القطاع. كل لواء لديه جرافتان مدنيتان على الأقل، ناهيك عن المعدات التي تم تجنيدها للخدمة. لكنها غير مصفّحة".

وفي جانب آخر، يوثّق التحقيق العلاقة بين الدافع الديني وعمليات الهدم، وينقل مشهدا من فيديو يظهر فيه جندي احتياط يُدعى أڤراهام زَربيب، وهو حاخام متطرّف، ارتبط اسمه بهدم قطاع غزة، بعد تطوعه في جيش الاحتلال لتدمير منازل القطاع.

وقال الحاخام: "ابتكرت شيئًا جديدًا في هذا العالم – يمكن هدم منزل من طابقين أو ثلاثة أو حتى أربعة. في البداية دمّرت بعض الـ D9 (جرافات الجيش المدرعة) خلال المحاولة، لكنني تغلّبت على الأمر".

وبدورها، أكدت صحيفة هآرتس العبرية في 17 يوليو أن تدمير المباني في القطاع أصبح يجرى بواسطة مقاولين إسرائيليين خاصين يعملون تحت إشراف الجيش.

ولفتت إلى أن إقحام المقاولين والعمال بهدم مباني القطاع زاد من حجم الدمار، مشيرة إلى أن التحليل الأخير لصور الأقمار الاصطناعية والخبراء أظهر أن ما لا يقل عن 70 بالمئة من المباني في غزة أصبحت غير صالحة للسكن.

وأكدت هآرتس أن إسرائيل دمرت 89 بالمئة من المباني في رفح منذ بداية الحرب الإسرائيلية، كما دمرت 84 بالمئة من المباني في شمال القطاع.

وفي وسط القطاع، أوضحت الصحيفة أن 78 بالمئة من المباني في مدينة غزة قد دمرت بشكل كلي أو جزئي.

وذكرت أن المقاولين الإسرائيليين يتقاضون قرابة 5 آلاف شيكل (نحو 1500 دولار أميركي) مقابل كل مبنى يدمرونه.

ومن أجل توسيع مكاسبهم، أفادت أن المقاولين الإسرائيليين يضغطون على القادة الميدانيين بالجيش الإسرائيلي لتوسيع مناطق التدمير في القطاع.

وقبلها، قالت هآرتس في 13 يوليو: إن الجيش الإسرائيلي يصرح رسميا بأن ما تهدمه مئات الآليات الثقيلة من منازل في غزة يجرى لأغراض عملياتية، لكن "نموذج تعويض مشغلي هذه الآليات يناقض هذا الادعاء".

ولفتت الصحيفة إلى أن مئات الجرافات والحفارات الإسرائيلية تواصل جهودها لجعل غزة غير صالحة للسكن لسنوات قادمة، في الوقت الذي يتفاوض فيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على وقف إطلاق النار مع حركة المقاومة الإسلامية حماس.

وجادلت بأنه "إذا كانت هذه العمليات مدفوعة بالاحتياجات العسكرية وحدها كما يدعي الجيش، لما كان هناك مبرر يذكر للمكافآت التي يتلقاها المقاولون".

"فلن يكون هناك داع لهدم المباني السكنية وغيرها إلا عندما تشكل خطرا على الجنود أو تعيق حركة المركبات العسكرية، وهو ما لا يستدعي مثل هذه التعويضات"، وفق الصحيفة.

واستدلت على ذلك أيضا بأن الراتب المدفوع للعاملين في الهدم يكسبون بشكل أعلى بكثير من العاملين بذات المهنة داخل إسرائيل "وكأن هذه الأجور المرتفعة تهدف إلى تعويض المخاطر التي تهدد الحياة والتي تثني الكثيرين عن دخول غزة".

سرقة الركام

أما الجانب الآخر الذي حولت سلطات الاحتلال من خلاله الدمار إلى صفقة رابحة، فيتمثل في سرقة ركام المنازل المدمرة وإرساله إلى إسرائيل للاستفادة منه.

وذكرت وسائل إعلام فلسطينية وناشطون أن قوات الاحتلال، تستخدم شاحنات لنقل كميات كبيرة من الحجارة والحديد والإسمنت من قطاع غزة إلى إسرائيل، بهدف إعادة تدويرها وبيعها لاحقا لشركات المقاولات.

ورأوا أن هذه العملية تهدف إلى تعظيم المكاسب وتحقيق الأرباح، فضلا عن منع استخدام الفلسطينيين للركام لاحقا في عملية إعادة الإعمار.

وتطرق آخرون إلى جانب ميداني يتمثل في تسهيل مهام الجيش في ملاحقة عناصر المقاومة الفلسطينية، التي تنفذ كمائن وتزرع عبوات ناسفة وتتخفى خلف الدمار، وهو ما ظهر أخيرا في عمليات أدت إلى مقتل وإصابة عشرات الجنود.

وقال الناشط الفلسطيني تامر قديح في تغريدة على إكس: “واحدة من الجرائم التي ربما لم تسمع عنها من قبل، ولم نتحدث عنها كثيرًا بسبب زحمة الأخبار الدامية: إسرائيل تسرق الركام من قطاع غزة”.

وأردف أنها “تعمل على تجميعه ونقله بشاحنات إلى الداخل المحتل، من أجل إعادة تدويره وبيعه لشركات المقاولات الإسرائيلية، بهدف تحقيق الربح، وفي الوقت نفسه تأخير أي عملية إعمار مستقبلية في غزة، من خلال التحكم الكامل فيما يدخل القطاع، ومنع أي عملية تدوير داخلية”.

ولفت إلى أن هذا الأمر “حدث في رفح والشمال والآن شرق خان يونس”، مضيفا: “انا ابن الحي الذي يتم نقله إلى الداخل المحتل في الأيام الأخيرة، وهناك شهادات من آخر من خرج من هناك”، مرفقا تغريدته بصور من الأقمار الصناعية تظهر اختفاء الركام.

ونشرت في الأيام الأخيرة صور لمدينتي رفح وخان يونس جنوب القطاع، وبيت حانون في أقصى الشمال، تظهر أراضي جرى مسحها بالكامل وتنظيفها من الركام، وكأنه لم يكن فيها أي منازل.

وبحسب تقديرات نشرتها الأمم المتحدة في أغسطس/آب 2024، خلفت الغارات الجوية الإسرائيلية أكثر من 42 مليون طن من الأنقاض في مختلف أنحاء القطاع. 

ولم تصدر تقديرات لاحقا تشمل عاما آخر من العدوان المكثف، والذي شمل تدميرا واسعا في جنوب القطاع وشماله.

فعلى سبيل المثال، نقلت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية في 23 يوليو 2025، عن جندي احتياط بجيش الاحتلال قوله: “مدينة رفح لم تعد موجودة وقد أصبحت مجرد أنقاض”.

كما أظهرت صور الأقمار الصناعية الحديثة التي التقطت خلال الأيام الأخيرة أن الجيش الإسرائيلي دمر خان يونس، ثاني أكبر مدينة في قطاع غزة، بشكل شبه كامل، وفق ما نشرت صحيفة هآرتس في 23 يوليو.

وتظهر الصور أنه خلال الأشهر الأخيرة، دمرت آلاف المباني في المدينة ومحيطها، على مساحة تقارب 90 كيلومترا مربعا. وهذا الأمر ينطبق كذلك على مدينة بيت حانون التي تعرضت لتدمير واسع.

وبحسب ما نشرت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية في أغسطس 2024، فإن أنقاض قطاع غزة تكفي لملء خط من شاحنات القمامة يمتد من نيويورك إلى سنغافورة، (15.3 ألف كيلومتر)، ما يوضح حجم الربح الذي يمكن تحقيقه من خلال إعادة تدويرها.

وفي تسليطها للضوء على التحدي الهائل المتمثل في إعادة الإعمار، توصلت الأمم المتحدة في تقييم لها إلى أن أسطولًا يضم أكثر من 100 شاحنة سيستغرق 15 عامًا لتطهير غزة من حوالي 40 مليون طن من الركام والأنقاض في عملية تتراوح كلفتها بين 500 و600 مليون دولار.

وكان المتحدث باسم بلدية غزة عاصم النبيه، تحدث في السابق عن الربح الذي يمكن أن ينتج من الركام، وذلك في معرض تعليقه على التقارير التقديرية بشأن الزمن المفترض لإزالى الأنقاض وإعادة الإعمار.

وقال النبيه: إن عملية إزالة الركام قد تستمر عامًا فقط على أقصى تقدير إذا توفرت المعدات اللازمة والعاملون.

وتابع “تحدثت التقديرات عن 100 شاحنة، وهو عدد صغير ربما تملكه شركات صغيرة. تقديراتي أن عملية إزالة الركام قد لا تصل إلى سنة على أبعد تقدير، إذا توفرت كل المواد والمعدات اللازمة”.

وفيما يتعلق بالأرقام الكبيرة التي تعلنها المؤسسات الدولية بشأن التمويل اللازم لإعادة الإعمار، قال النبيه: “في الحقيقة الركام بيجيب فلوس".

وأردف: “في الحروب السابقة كانت لا يتكلف المواطنون ولا شيكل واحد لإزالة ركام منازلهم”.

وأرجع ذلك إلى أن "العديد من الشركات الخاصة كانت تزيل الركام مقابل الاستحواذ عليه، حيث يمكن أن تتحول العملية إلى مشروع لجلب الأموال أو على الأقل لتوفيرها من أجل إعادة إعمار غزة”.

ما الهدف؟

وعن أهداف حكومة بنيامين نتنياهو، علقت صحيفة يديعوت أحرونوت على التدمير المتسارع بالقول: “أصبح قطاع غزة أحد أكبر مواقع هدم العقارات في العالم، والجيش الإسرائيلي هو المتعهد”.

وأردفت في 20 يوليو 2025: “كل صورة من القطاع، وكل تقرير تلفزيوني يكشف أبعاد هذا الحدث: دمارٌ مروع، ذو أبعادٍ كارثية، يُشرح لنا بطريقة مختلفة في كل مرة”.

وواصل القول:  أحيانًا يكون الهدف سحق لواء خان يونس، وأحيانًا أخرى يكون حماية محورٍ مُمزق، أحيانًا تكون ذريعةً مفهومة لحماية قوات الجيش الإسرائيلي، ولكن في الوقت نفسه، يُصاب الجنود ومقاولو الهدم أثناء عمليات التدمير".

وانتقدت الصحيفة قائلة: “يُخاض القتال على الأرض في الغالب دون عدوٍّ مُستهدف، حتى دون وجود سكان حوله. ببساطة، تدميرٌ هائلٌ للعقارات، من غير المُرجَّح أن يُساعد في التخلص من حماس، بل يُثير رائحة الانتقام”.

وأكد أن “التدمير أصبح هدفًا في حد ذاته، والغرض منه غير واضح، إلا إذا أراد أحدٌ منع عودة الفلسطينيين إلى القطاع”.

وشدد على أنه "للأسف، لن يُعجّل هذا العمل الهندسي الضخم بإطلاق سراح الرهائن (الأسرى الإسرائيليين) ولن يُسهم في إيجاد حلٍّ في غزة على غرار تدمير حماس". 

ورأى أن "أحدهم خلط بين هدم المباني والأحياء والبلدات وتفكيك المنظمة. يواصل أنصار نتنياهو المتحمسون بيع القصص والأكاذيب حول أننا على بُعد خطوة واحدة من النصر الكامل" لا يعلم كم مرة (رددها) بينما يدمر حيٌّ آخر ومدينة أخرى في غزة".

وألمحت إلى التدمير يعمق المشكلة، مبينة أن “حماس بدأت بالفعل ببناء نفسها لعقود قادمة على أنقاض قطاع غزة”.

ومنذ بداية العدوان، لم يخف قادة الاحتلال هدفهم بتهجير سكان قطاع غزة بعد تدميره تحت عنوان “الخروج الطوعي”.

وخلال يوليو، قالت وسائل إعلام عبرية: إن وزير الجيش يسرائيل كاتس طلب من المؤسسة العسكرية المضي قدما في خطة سماها “مدينة إنسانية”، تبنى على أنقاض مدينة رفح جنوب غزة. 

وقال كاتس: إن المنطقة ستؤوي في البداية نحو 600 ألف نازح فلسطيني أجبروا على الإخلاء إلى المواصي في خان يونس.

 وأشار إلى أن هؤلاء النازحين سيتم إخضاعهم لفحص أمني دقيق للتأكد من أنهم ليسو من عناصر حماس وبعد دخولهم إلى تلك المنطقة سيطوقهم الجيش الإسرائيلي ولن يسمح لهم بالذهاب إلى أي مكان بل سيسمح لهم بالخروج إلى دولة أخرى عبر البحر أو إلى مصر. 

كما تسهم مؤسسة غزة الإنسانية (أميركية) جنوب القطاع في هذا المخطط، حيث يجبر الأهالي على تلقي المساعدات منها بعد إقصاء الأمم المتحدة وبدء تجويع القطاع المحاصر.

وجاء طرح الخطة بهدف إجبار كل سكان قطاع غزة إلى التوجه إلى المنطقة الجنوبية من أجل حشرهم فيما يشبه معسكرات اعتقال تمهيدا لتهجيرهم.

وقال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: إن الشركة الأميركية متورطة في مخطط أميركي- إسرائيلي خطير يهدف إلى تهجير الفلسطينيين تحت ستار إنساني مزيف.

وأردف أن المشروع يمثل “محاولة مكشوفة لتفريغ القطاع ديموغرافيًا”، مؤكدًا أن المؤسسة تنشط خارج إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، في مخالفة صريحة للمعايير الإنسانية المعتمدة دوليًا.