"الاستعداد للحرب".. لماذا يشن الرئيس الصيني حملة إقالات بين قيادات الجيش؟

منذ يوم واحد

12

طباعة

مشاركة

نالت القيادة العليا بالجيش الصيني المعروف بـ"جيش التحرير الشعبي" أخيرا موجة جديدة من عمليات التطهير.

فمنذ انعقاد المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي في أكتوبر/تشرين الأول 2022، اختفى عن الأنظار أكثر من 20 ضابطا رفيع المستوى من جميع الفروع الأربعة للجيش -المشاة، والبحرية، والجوية، وسلاح الصواريخ- أو عُزلوا من مناصبهم.

كما أُبلغ عن غياب جنرالات آخرين، مما قد ينذر بحملات تطهير إضافية، وفق مقال للمختص في شؤون الجيش الصيني لدى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة، تايلور فرافيل، نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية.

اللجنة العسكرية

والأبرز في هذه الحملة، أنه منذ خريف عام 2023، عُزل ثلاثة من أصل ستة أعضاء بزيّهم العسكري في اللجنة العسكرية المركزية للحزب الشيوعي الصيني، وهي أعلى هيئة حزبية مسؤولة عن الإشراف على الجيش.

أول من سقط كان وزير الدفاع “لي شانغ فو” الذي أُقيل من منصبه في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ثم طُرد من صفوف الحزب في يونيو/حزيران 2024.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني، عُلّقت مهام "مياو هوا"، مدير إدارة العمل السياسي في اللجنة العسكرية المركزية، المعنية بإدارة شؤون الموظفين والحزب، بسبب "خروقات جسيمة للانضباط"، قبل أن يُعزل رسميا من اللجنة في يونيو/حزيران.

أما الأحدث، فكان ما كشفته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية بأن "هي ويدونغ"، النائب الثاني لرئيس اللجنة، الذي لم يظهر علنا منذ أوائل مارس/آذار، قد نالته هو الآخر حملة التطهير.

ووفق المقال، فلم يسبق أن أُقيل نصف أعضاء اللجنة العسكرية المركزية في فترة زمنية قصيرة كهذه.

والأغرب أن الجنرالات الثلاثة كانوا محل ثقة "شي جين بينغ" نفسه؛ إذ تولّوا جميعا مناصبهم في اللجنة عام 2022، عقب إحكامه قبضته على الحزب خلال المؤتمر العشرين.

بل إن "هي ويدونغ" كان عضوا في المكتب السياسي؛ أحد أبرز هيئات صنع القرار في الحزب، والذي يضم 24 من كبار قادته.

ويصف محللون كلا من "مياو هوا" و"هي ويدونغ" بأنهما من "تيار فوجيان" داخل الجيش، نظرا لخدمتهما في تلك المقاطعة خلال الفترة نفسها التي كان فيها "شي" متمركزا هناك، وهو ما يُعتقد أنه أتاح لهما بناء علاقات وثيقة معه.

وأكَّد المقال أنه بالنسبة للمراقبين الخارجيين، من الصعب للغاية جمع معلومات مُفصلة أو تحليل عمليات التطهير الجارية في الصين؛ فنادرا ما يُعلن الحزب الشيوعي عنها، وحتى عند نشرها، غالبا ما تُوصف التهم بشكل مُبهم على أنها مجرد "خروقات للانضباط".

كما أن التهم المُعلنة قد لا تعكس السبب الحقيقي الكامن وراء إقالة مسؤول من منصبه. ومع ذلك، هناك العديد من الأسباب المُحتملة لتطهير "لي" و"مياو" و"هي" وغيرهم من كبار الضباط. وفق المقال.

فساد ومحسوبية

بداية، يُعدّ الفساد سببا شائعا للعديد من عمليات التطهير، ولطالما عانى جيش التحرير الشعبي والحزب الشيوعي الصيني من الفساد على نطاق أوسع، بحسب المقال.

ومنذ أن تولى شي جين بينغ السلطة عام 2012، ضاعفت بكين ميزانيتها الدفاعية بهدف تسريع عملية تحديث الجيش.

وقد أتاح هذا التدفق الكبير للأموال، لا سيما في مجالات شراء الأسلحة ومشروعات البناء، فرصا واسعة للضباط ومسؤولي قطاع الصناعات الدفاعية لزيادة ميزانياتهم أو اختلاس الأموال. بحسب المقال.

وكان "لي"، قبل توليه وزارة الدفاع، مسؤولا عن إدارة تطوير الأسلحة في اللجنة العسكرية المركزية، وهي الجهة المشرفة على عمليات الشراء.

وقبل بضعة أشهر من إقالة "لي"، جرى توقيف كل من قائد ومفوض قوة الصواريخ التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني، واثنين من نواب المفوض.

ومن المرجح أن التوسع السريع لقوة الصواريخ في عهد "لي"، بما في ذلك بناء أكثر من 300 صومعة، والتوسع الكبير في ترسانتها من الصواريخ الباليستية، قد أتاح فرصا عديدة للثراء الشخصي، بحسب المقال.

وتابع المقال: "قد يكون بعض الجنرالات قد أُقصوا أيضا بسبب تورطهم في رشا مرتبطة بالترقيات وشبكات المحسوبية. فهذه مشكلة مزمنة داخل الجيش؛ إذ غالبا ما تُمنح الترقيات للضباط الأكثر ارتباطا ونفوذا، وليس بالضرورة للأكفأ".

وكان "مياو"، رئيس دائرة العمل السياسي، مسؤولا عن شؤون الأفراد والتعيينات؛ وإذا كانت الترقيات التي أجازها لم تعتمد على الكفاءة بشكل صارم، فقد يكون ذلك أحد أسباب سقوطه. بحسب تقييم "فرافيل".

أما سلفه، تشانغ يانغ، فقد خضع لتحقيق في عام 2017 لأسباب مشابهة، ولم يمضِ سوى أقل من شهرين حتى انتحر، وفي العام التالي فُصل من الحزب بعد وفاته.

وأضاف الباحث سببا آخر، وهو أعضاء اللجنة العسكرية المركزية ربما أقيلوا مع غيرهم من كبار الضباط بسبب ما قد يعد استغلالا للتعيينات لتكوين مراكز قوى مرتبطة بهم داخل الجيش.

"فالضباط الكبار الذين يُعطون أولوية لتعزيز نفوذهم الشخصي يشكّلون عبئا على "شي"؛ لأنهم يخلقون ولاءات متضاربة وتوتّرات فئوية داخل القوات المسلحة يمكن أن تضر بجاهزيتها العملياتية". بحسب المقال.

ولأن "مياو" و"هي" كانا عضوين مُعينين حديثا في اللجنة العسكرية المركزية، فربما سعيا إلى تعزيز مناصبهما على حساب الأعضاء المخضرمين، مثل نائب الرئيس الأول تشانغ يوشيا، وهو صديق طفولة لـ"شي".

وقد أبقى "شي" على "تشانغ"، البالغ من العمر الآن 75 عاما، في اللجنة العسكرية المركزية على الرغم من سن التقاعد المعتاد وهو 68 عاما.

وأخيرا، من المحتمل ألا يكون كبار الضباط الذين طُردوا قد ارتكبوا أي مخالفة سوى عدم الكفاءة، فلربما كان شي ببساطة غير راضٍ عن أدائهم وفقد الثقة في قدرتهم على القيادة وتحقيق أهدافه للجيش.

وكما لاحظ الباحثان "جويل ووثناو" و"فيليب سوندرز" في كتابهما الجديد "سعي الصين للتفوق العسكري" (China’s Quest for Military Supremacy)، فإن هيكل العلاقة بين الحزب والقوات المسلحة يجعل من الصعب على "شي" أن يثق بجنرالاته.

"إذ يتمتع الجيش بقدر كبير من الاستقلالية مع إشراف مباشر محدود، ما يجعل الحزب مضطرا للاعتماد على الجيش لضبط نفسه بنفسه".

"كما أن الطابع المتخصص للغاية للشؤون العسكرية الحديثة يعني أن الحزب يفتقر إلى الخبرة اللازمة لضمان أن الجيش يحقق أهداف الحزب في التحديث". بحسب المقال.

وقال "فرافيل": "إن توقيت حدوث حملات التطهير هذه لا يغيب عن أنظار المراقبين الخارجيين؛ ففي عام 2027 سيحتفل الجيش الصيني بالذكرى المئوية لتأسيسه".

ويُعد هذا العام أيضا الموعد الذي يتوقع فيه شي جين بينغ أن تكون القوات المسلحة الصينية قد حققت تقدما كبيرا في عملية التحديث.

كما أن لهذا العام أهمية خاصة؛ لأن مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق، بيل بيرنز، ذكر أن "شي" أصدر تعليمات للجيش الصيني بأن يكون "جاهزا بحلول عام 2027 لغزو تايوان بنجاح".

ولا تعني هذه التعليمات أن الصين ستغزو تايوان فعليا في ذلك العام، لكنها، كما قال بيرنز، تشكّل "تذكيرا بجدية تركيزه وطموحه".

جاهزية الجيش للحرب

وقال "فرافيل": "في ظل هذه الأهداف الطموحة، يُطرح تساؤل حول تأثير الموجة الجديدة من عمليات التطهير على جاهزية الجيش".

ويرى أنه "من المرجح أن تؤدي عمليات التطهير نفسها إلى إبطاء بعض برامج تحديث الأسلحة، وتعطيل هياكل القيادة وصنع القرار، وإضعاف الروح المعنوية، وكل ذلك من شأنه أن يُضعف قدرة الجيش على القتال في المدى القريب والمتوسط".

وتابع: "قد تجد بكين نفسها مضطرة إلى التحلي بقدر أكبر من الحذر قبل الإقدام على عمليات عسكرية واسعة النطاق، مثل الهجوم البرمائي على تايوان، وذلك رغم استمرار الجيش في ممارسة الضغوط على الجزيرة من خلال النشاطات الجوية والدوريات البحرية المحيطة بها".

واستدرك قائلا: "مع ذلك، من المفيد التذكير بأن بكين نادرا ما انتظرت توافر الظروف الملائمة قبل أن تأمر جيشها بخوض المعارك".

ففي عام 1950 وبعد جدل واسع بين كبار قادة الحزب، قررت بكين التدخل في الحرب الكورية، محولةً الصراع إلى صراع بين الصين والولايات المتحدة.

في ذلك الوقت، كان الحزب الشيوعي الصيني يركز على ترسيخ سيطرته على البلاد بأكملها وإعادة بناء الاقتصاد بعد حربه مع القوميين، ولذلك كان العديد من كبار قادة الحزب والجيش، المنهكين بعد سنوات من الحرب الأهلية القاسية، مترددين في مواجهة أقوى قوة في العالم.

ومع ذلك، في النهاية، تغلّب المنطق الإستراتيجي المتمثل في إبعاد الولايات المتحدة عن حدود الصين (ومن الأفضل إبعادها عن شبه الجزيرة الكورية بأكملها) على هذه المخاوف.

هذا رغم أنه بحلول وقت الهدنة عام 1953، تكبَّدت القوات المسلحة الصينية أكثر من 500 ألف قتيل، بينما انتهت الحرب تقريبا في نفس المكان الذي بدأت فيه، على طول خط العرض 38، وبدأت الولايات المتحدة في بناء شبكة تحالف على طول المحيط الشرقي للصين.

علاوة على ذلك، في أوائل العقد التالي، هاجمت الصين القوات الهندية على الحدود المتنازع عليها بين البلدين.

"في ذلك الوقت، كان ماو في موقف دفاعي سياسيا بعد "قفزته الكبرى إلى الأمام" الكارثية، وهي حملة تصنيع قومية لقي فيها ما يصل إلى 45 مليون شخص حتفهم في المجاعات".

ومع ذلك، خلص قادة الحزب والجيش الصيني إلى أن الحرب ضرورية لتخفيف الضغط الهندي على التبت واستعادة الاستقرار على الحدود الصينية الهندية.

كما وقع الهجوم بعد سنوات قليلة فقط من عزل "بنغ ديهواي"، أعلى ضابط عسكري صيني طوال خمسينيات القرن الماضي، لتشكيكه في الحكمة من "القفزة الكبرى إلى الأمام".

وأدَّت إقالة بينغ أيضا إلى إقالة ضباط عسكريين كبار آخرين عُدّوا وثيقي الصلة به، مما أحدث هزة في القيادة العليا للجيش.

لكن في هذه الحالة، تمتعت الصين بتفوق ساحق في ساحة المعركة، مُدمرةً القوات الهندية ومحققةً أهدافها السياسية؛ إذ لم تُواجه الهند الصين عسكريا على الحدود طوال العقدين التاليين.

وفي عام 1979، غزت بكين فيتنام، زاعمةً أنها تريد "تعليم هانوي درسا" بسبب تحالفها مع الاتحاد السوفيتي الذي كان آنذاك خصمًا لبكين، ولغزوها كمبوديا التي كانت بكين تدعمها.

في ذلك الوقت، كانت الصين قد بدأت بالكاد تتعافى من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية الناجمة عن الثورة الثقافية، وظل نائب رئيس الوزراء، دنغ شياو بينغ، في صراع على السلطة مع خليفة ماو الذي اختاره، هوا جوفنغ.

وكان الجيش منقسما بين الماويين والإصلاحيين، وكان "دنغ" واعيا جدا لنواقص الجيش؛ حيث وصفه بأنه "متضخم، ومتراخٍ، ومتغطرس، ومبذّر، وكسول"، وهو وضع بعيد عن الجاهزية القتالية.

حتى إن "دنغ" أجّل الغزو لشهر بعد أن أبلغ مستشاره العسكري الرئيس أن القوات غير جاهزة. ومع ذلك، كانت الحاجة إلى إرسال إشارة حازمة لمواجهة الحصار السوفيتي تفوق حالة الجاهزية.

ودفع الجيش الصيني ثمنا باهظا؛ إذ تجاوزت خسائره 31 ألف قتيل في شهر واحد فقط من القتال، ولم تسحب فيتنام وجودها العسكري من كمبوديا حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي.

وتمثل هذه العمليات العسكرية في كوريا والهند وفيتنام أكبر استخدام للقوة المسلحة الصينية منذ تأسيس الجمهورية الشعبية، وفق المقال.

وفي جميع هذه الحالات الثلاث، كانت التقديرات السياسية هي الغالبة على جاهزية الجيش والظروف الداخلية الملائمة؛ إذ عَدّ القادة الصينيون هذه العمليات صراعات ضرورية، لا خيارا ولا فرصة.

ووفق تقييم فرافيل: "إذا كانت عمليات التطهير الأخيرة تؤثر على جاهزية الجيش وتعكس ثقة "شي" في الجيش، فقد تقل احتمالات الاستخدام الانتهازي للقوة في المدى القريب إلى المتوسط".

لكن إذا رأى "شي" أن العمل العسكري ضد تايوان ضروري، فسوف يأمر الجيش بخوض المعركة، يختم المقال.