إضافة لنقص الكفاءات.. ما تأثير هجرة العقول على الاستثمارات الأجنبية في لبنان؟

مصعب المجبل | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

يعلق لبنان آماله على إقناع صندوق النقد الدولي الذي بات ممثلوه يرابضون هناك، بحثا عن خطة تعاف مع المسؤولين الحكوميين، لوقف الانهيار المالي المتواصل بالبلاد منذ 2019 وصنف من بين الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن العشرين.

من جانبها الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، التي تشكلت بعناء في 10 سبتمبر/ أيلول 2021، تقف عاجزة في ظل الأوضاع السياسية المعقدة عن تبني أي خطة إنقاذ سريعة لانتشال البلاد من هذا الوضع، ما يدفع كثيرا من المواطنين للبحث عن حلول من طرفهم، في مقدمتها الهجرة.

ويتقدم قائمة المقبلين على هذه الهجرة القسرية، أصحاب التعليم العالي، لاسيما الأطباء والمعلمين، ما يمثل خطرا وجوديا على مستقبل الدولة اللبنانية وفق كثير من المراقبين.

أزمة مستفحلة

لكن ما يحسب لحكومة ميقاتي إلى الآن فقط هو إطلاق محادثات مع صندوق النقد الدولي، منذ مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2021، لإعداد برنامج مساعدات مع الصندوق للخروج من الأزمة الاقتصادية التي دفعت بأربعة من كل خمسة لبنانيين إلى براثن الفقر، وفق الأمم المتحدة.

إلا أن ذلك يبدو غير مقنع للمواطنين اللبنانيين، الذين سئموا من الحكومات التي يرون استحالة عملها بمعزل عن الجهات السياسية التي تملك الثلث المعطل للحكومة وقراراتها ولو بشكل غير معلن.

وينص الدستور اللبناني على أن أي حكومة يستقيل ثلث أعضائها تسقط حكما، وبالتالي عندما يمسك رئيس الجمهورية بثلث أعضاء هذه الحكومة وفي أي خلاف سياسي حول قرار معين إن لم يكن ما يريده الطرف الذي يملك الثلث المعطل سوف يطلب من وزرائه الاستقالة وهنا يحدث الابتزاز السياسي.

ونظرا لكون الأزمة المالية في لبنان، تمثل أكبر تهديد للاستقرار منذ الحرب الأهلية بين 1975 و1990، لدولة يبلغ عدد سكانها ستة ملايين نسمة، فإن هناك جملة من المشكلات التي تتراكم على أبواب الحكومة وتزيد من حركة الهجرة للخارج.

وأهمها مشكلات قدرة المواطنين على دفع إيجار السكن، وتأمين أبسط مقومات العيش بعد انهيار قياسي في قيمة الليرة، وكذلك الشح الكبير في الوقود والأدوية.

فضلا عن فشل حل أزمة الكهرباء عبر الخطة الأميركية لاستجرارها من الأردن عبر سوريا، ما يجعل المواطنين يفرون من بلدهم فرار السليم من المجذوم.

وإلى الآن يتجرع لبنان مرارة ما أقره "اتفاق الطائف"، الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990)، بخلق معادلة اقتسام السلطة على أساس المحاصصات.

إذ تتوزع المناصب الرئيسة بين المكونات الأساسية الثلاثة، رئاسة الجمهورية للمسيحيين، ورئاسة الحكومة للمسلمين السنة، ورئاسة البرلمان للشيعة.

وأمام جميع هذه المعطيات، باتت الكفاءات العلمية مدفوعة للهجرة، وترك مدنهم بحثا عن حياة أفضل في الخارج، كما يؤكد خبراء اقتصاديون.

لا سيما أن الموازنة التي أقرت في 10 فبراير/ شباط 2022، تتضمن عجزا بقيمة 7 تريليونات ليرة (330 مليون دولار بسعر السوق الموازي) أي نحو 17 بالمئة من الموازنة.

كما جاءت قيمة الإيرادات المتوقعة بنحو 39 تريليون ليرة (25.9 مليار دولار) وإنفاق متوقع بقيمة 49.4 تريليون ليرة (30.9 مليار دولار).

هجرة قسرية

ورغم ذلك، كان الثنائي الشيعي، حركة أمل وحزب الله، معترضين على الموازنة، لكنها أقرت كبادرة حسن نية من الحكومة في مفاوضتها مع صندوق النقد الدولي.

ويعلق كثير من المراقبين اللبنانيين، الخلافات المتراوحة بين الحكومة والبرلمان، على ثقل "حزب الله" المدعوم إيرانيا داخل لبنان.

لا سيما بعد سيطرته على الحالة السياسية وتعطيلها، بعدما نمى نفوذه في سوريا والعراق واليمن، وتحول إلى لاعب إقليمي يتمسك بمصالحه الخاصة ويلقي بالمصلحة الوطنية اللبنانية التي تشمل الجانب الاقتصادي وراء ظهره.

وتؤكد صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، في تقرير نشرته بتاريخ 8 فبراير/شباط 2022، أن لبنان يواجه هجرة لألمع مواطنيه وأفضلهم تعليما مرة أخرى.

إذ إنه طالما كان للبنان جالية كبيرة في الشتات بعد موجات من الهجرة على مدى عقود، نتيجة الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاما وانتهت في عام 1990.

وأوضحت الصحيفة البريطانية، أن العديد من اللبنانيين يضطرون إلى مواجهة التضخم المفرط وانقطاع التيار الكهربائي، ولا يثقون كثيرا بالمستقبل.

واعتبرت الصحيفة أن هؤلاء فقدوا الأمل في أن يتخذ قادتهم المنقسمون إجراءات لوقف الانهيار المالي الكارثي للبلاد، بعد عامين من اندلاع الأزمة.

 وكذلك لم يتم عمل الكثير لإنقاذ الاقتصاد المتدهور، الذي وصفه البنك الدولي بـ "الكساد المتعمد"، والمدبر من قبل النخبة التي استولت على الدولة.

موجبات الهجرة

وفي هذا الإطار، أكد الأكاديمي والباحث في الاقتصاد السياسي طالب سعد، لـ "الاستقلال"، أن "الحكومة لم تعمل أي شيء لإنقاذ الاقتصاد اللبناني المتدهور، ولا واحد بالمئة مما يجب أن يجرى العمل عليه".

واعتبر سعد، أن "لبنان متروك بشكل كامل اقتصاديا وماليا، فعلى صعيد القطاع المصرفي لا يوجد أي إنجاز يذكر يعيد الثقة بهذا القطاع، ولا عمل أي إجراء حتى يجرى تحسين وضع الليرة المنهار".

 وأردف قائلا: "البعض يعتقد أن المصرف المركزي خلال ثلاثة شهور استطاع أن يضبط عملية تدهور الليرة، وسمح ببعض التداولات النقدية للدولار ولكن هذا ليس عملية ضخ دولار بالسوق بل ما حدث هو عملية تداول بهدف الإمساك بسيولة الليرة اللبنانية لكي تستطيع تحديد سعر الصرف لكنها دائما عملية مؤقتة ولا تستمر لشهر".

 وزاد الأكاديمي بالقول: "كما لم يجر ضخ الدولار من خارج الدولة بشكل رسمي من خلال ميزان المدفوعات الذي يمر بعجز والميزان التجاري الخاسر".

 ونوه سعد إلى أن "هذا مؤشر على أن العملة التي تغادر البلد أكثر من التي تدخل إليه، وأقصد هنا العملة الأجنبية التي تغادر نتيجة مشتريات لبنان من الطاقة والمواد الغذائية والأساسية والمستوردات، بينما الصادرات متراجعة ثلاثة أضعاف عن وضعها الطبيعي، بمعنى الاقتصاد عاجز عن تأمين النقد الكافي".

وبين الباحث سعد، أنه "جرى إعداد موازنة لتقديمها لصندوق النقد الدولي، لكن في حقيقة الأمر الموازنة يجب أن تحضر بناء على خطة تعافٍ".

وذهب للقول: "نحن حتما أمام تدهور اقتصادي، وقلق أمني، يترافق مع ارتفاع أسعار جنوني، ما أدى لانعدام القدرة الشرائية من قبل الفئات الاجتماعية خاصة عند الطبقة المتعلمة أو النخب العلمية والثقافية ومن أطباء ومحامين وأكاديميين لديهم خبرات لعشرات السنين".

ولفت إلى أنه "مهما تغيرت قيمة المداخل إلا أنها ستتآكل مع تراجع الأسعار، ويترافق ذلك مع التضخم العالمي، لاسيما مع أزمة أوكرانيا وروسيا التي تزيد من ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وهذا يدفع لبنان إلى مزيد من التضخم والركود الاقتصادي الأخطر".

واستدرك سعد قائلا: "كل هذه المعطيات تسبب موجة هجرة ملحوظة جدا في لبنان والبحث عن أي مكان في العالم خارج البلاد تؤمن لهم فرص العمل والحماية الصحية والأمنية".

ويستورد لبنان من أوكرانيا وروسيا بين 50 و60 بالمئة من حاجته من القمح، إضافة إلى زيوت نباتية وسكر، وهي عناصر أساسية في غذاء اللبنانيين.  

آمال الخارج

ويفكر نحو 40 بالمئة من اللبنانيين البالغ عددهم أكثر من 6 ملايين نسمة في الهجرة، وفقا لمسح حديث أجرته مؤسسة كونراد أديناور شتيفتونغ الفكرية الألمانية.

كما أن حوالي 40 بالمئة من أطباء لبنان غادروا بالفعل إلى دول الخليج أو الغرب، إما بشكل دائم أو مؤقت، وفقا للبنك الدولي.

فيما وجد ما لا يقل عن 10 آلاف مدرس وظائف في الخارج، وفقا لبعض التقديرات التي استشهد بها البنك الدولي.

ويتماهى ذلك مع فقدان الليرة اللبنانية أكثر من 95 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار خلال العامين الماضيين، ما جعل رواتب المعلمين عديمة القيمة تقريبا.

ووجد الاستطلاع الألماني أن 40 بالمئة من اللبنانيين اضطروا إلى التقليل من الطعام وأن ثلثهم غير قادر على تحمل تكاليف أدويته.

كما انغمس ثلاثة أرباع السكان فيما تسميه الأمم المتحدة "الفقر متعدد الأبعاد"، وهو يشمل صعوبة الوصول إلى الصحة والتعليم والمرافق العامة بالإضافة إلى فقر الدخل.

أما في قطاع الصحة، فقدت المستشفيات الجامعية الرئيسة في بيروت، التي توظف أخصائيين من ذوي المهارات العالية، ما بين 100 و150 طبيبا، بحسب شرف أبو شرف رئيس نقابة الأطباء.

وفصل المحلل الاقتصادي اللبناني باسل الخطيب لـ"الاستقلال"، كيف وصلت الحالة في عودة الهجرة من لبنان والتي طالما كانت باب أمل يفتح آفاقا أفضل لخريجي الجامعات.

وقال الخطيب: "منذ عام 2016 بدأت الآفاق الاقتصادية غير مبشرة؛ مما أوصل إلى عام 2019 واندلاع ثورة وتلاها أزمة نقدية ومالية وانهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار، وتآكلت الرواتب وسط عجز تام من الحكومة، إضافة إلى توقف سوق العمل خلال جائحة كورونا وحاليا أزمة أوكرانيا، كل ذلك دفع الناس بالتفكير بالهجرة".

 وأوضح الخطيب أن "الحد الأدنى للأجور هو 50 دولارا للرواتب، والمعدل نحو 70 إلى 80 دولارا، بمعنى أنه من كان يقبض سابقا مليون ونصف المليون ليرة لبنانية كانت تساوي ألف دولار، أما حاليا لا تساوي 70 دولارا، لذلك الناس تهاجر".

وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن "الأخطر أن الكفاءات هي من أصبحت تهاجر لأن الدكتور الذي كان يقبض مئة دولار على المعاينة، بات اليوم يتقاضى 25 دولارا، حتى إن العسكري بات يتقاضى أقل من 50 دولار شهريا، وبالتالي هذا ما يدفع النخبة وأصحاب الخبرات يتوجهون للخارج".

واعتبر الخطيب أن "الحالة في لبنان من ناحية العمل باتت فقط من أجل تحصيل المعيشية ولتأمين الأساسيات الأكل والشرب والدواء".

ولفت إلى "أن حالة الهجرة هذه تؤثر على لبنان إذ يحدث هناك إفراغ للكفاءات والخبرات ويتراجع مستوى التعليم، والصحة، وهما أهم عاملين في مؤشرات الحياة الكريمة ومستوى نمط العيش".

"وبالتالي النقص في التعليم والطبابة يؤثر على نظرة الهيئات الدولية، ويصبح بلدا غير جاذب للاستثمارات ما يؤدي إلى تراجع الاقتصاد وتوقف التقدم إلى الأمام"، يختم الخطيب.