على الطريقة القديمة.. هل يعيد غزو روسيا لأوكرانيا تشكيل منظومة الأمن الأوروبية؟
.jpg)
الجحيم الذي فتح على أوكرانيا مع الاجتياح العسكري الروسي، في 24 فبراير/شباط 2022، شكل نقطة إستراتيجية جديدة فاصلة بين موسكو والقارة العجوز.
تشكيلات برية تتقدم، وغطاء جوي كثيف، وقصف واسع للمدن، ومدنيون يختبئون في الأنفاق والجحور، هذه مشاهد عاينتها أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وما بعدها كانت حقب السلام الطويل، والتركيز على نهضة صناعية واقتصادية تعوض ما أفسدته الحرب القديمة.
وهو ما جعل أوروبا تستنفر لرؤية غزو تقليدي على الطريقة الكلاسيكية القديمة، للبلد الذي يقبع في شرق القارة الأوروبية وثاني أكبر بلدانها.
واليوم بعد أن طرقت المعارك أبوابها، وبدأ حشد شرس من قبل الحكومات الأوروبية لتدشين متطوعين للقتال داخل أوكرانيا لإيقاف الروس، مع زيادات ملحوظة في ميزانيات الدفاع، جاء الحديث عن إعادة تشكيل منظومة الأمن الأوروبية من جديد.
واستدعى سياسيون أوروبيون فكرة إنشاء جيش موحد للقارة، وأنها بحاجة إلى تطوير وهيكلة مختلفة تجعلها قادرة على مواجهة المخاطر.
فكيف ستعيد أوروبا، لا سيما مركز ثقلها في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بناء إستراتيجيتها العسكرية والتسليحية؟ وإلى أين يمكن أن تصل فكرة التعبئة العامة والمستمرة للعسكرة؟
وجه أوروبا
في 25 فبراير/ شباط 2022، وصفت صحيفة "الغارديان" البريطانية، من خلال مقال للمؤرخ البريطاني تيموثي غارتون آش، أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة أكسفورد الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، بأنه "سيغير وجه أوروبا إلى الأبد".
وأضاف: "مقاومة روسيا ستستغرق سنوات طويلة أو عقودا"، ثم عقب أن: "الغربيين نسوا في سنوات أوهام ما بعد الحرب الباردة أن دول أوروبا يجب أن تثبت نفسها على الخريطة الذهنية بالدم والعرق والدموع".
وأورد تيموثي إقدام أوروبا والغرب عموما على تأمين الدفاع عن كل شبر من أراضي حلف شمال الأطلسي "الناتو"، تحديدا حدوده الشرقية مع روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، ضد جميع أشكال الهجمات المحتملة، بما في ذلك الهجمات الإلكترونية والهجينة.
وأضاف أن التعهد الوارد في معاهدة الناتو، والذي ينص على مبدأ "الواحد للجميع، والجميع للواحد"، سيجد أخيرا طريقه للتطبيق، وسيكون أمن لندن مرتبطا بشكل وثيق بأمن أي مدينة في شرق أوروبا، يتعهدها التهديد الروسي أو الصيني.
واستشهد المؤرخ البريطاني بتهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النووية، وقال إنه غادر مجال الحسابات العقلانية كما يفعل الدكتاتوريون المنعزلون، وإنه يهدد أوروبا والغرب عموما بحرب نووية.
وتوقع أن "الغزو الحالي يمكن أن يكون أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، وأنها تختلف جذريا عن الحروب الخمس في يوغسلافيا السابقة في التسعينيات، والتي كانت مروعة".
لكن الأخطار الدولية الكبرى التي نشأت عنها لم تكن على النطاق الذي ستبلغه حرب روسيا على أوكرانيا، وتبعاتها الإقليمية والدولية، وفق تقديره.

وجاءت الانعكاسات الأولية المتعلقة بالعزو الروسي لأوكرانيا، متقاطعة مع بناء جديد لمنظومة الأمن الأوروبية، إضافة إلى تغيير إستراتيجية الناتو وتموضعه داخل القارة.
ورصد مركز الجزيرة للدراسات، خلال ورقة بحثية أصدرها في 28 فبراير/شباط 2022، أن الأزمة الأوكرانية منحت الحياة لحلف شمال الأطلسي، وبحسبها فإن "الناتو يسعى إلى تثبيت وجود عسكري طويل المدى في أوروبا الشرقية لتعزيز قوته الردعية".
وأضاف المركز: "هذه إستراتيجية فعلية سيمارسها الغرب تجاه روسيا التي لم يتوقف يوما عن اعتبارها عدوه الأول".
وذكرت الورقة البحثية أنه "رغم أن البيئة الدولية التي نشأ فيها الناتو تغيرت تغيرا جذريا، لكن ظلت روسيا تمثل عدو الغرب الأول، وظل الحلف يتمدد شرقا نحوها دون توقف".
وقالت إن: "أوروبا هي بؤرة الحروب الأكبر في التاريخ الإنساني الحديث، والسلم الذي عاشته القارة في العقود القليلة الماضية كان سلما استثنائيا، وأن الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية سيعمق من دوائر نفوذه من جديد".
العملاق النائم
نقطة التحول الإستراتيجية الأخرى الأهم في منظومة الأمن الأوروبية، أن العدوان الروسي، أيقظ العملاق الألماني الغارق في سباته.
ففي 27 فبراير 2022، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس قرارا مفصليا برفع ميزانية بلاده الدفاعية إلى أكثر من 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وتشكل الخطوة علامة تاريخية فارقة بالنسبة لألمانيا، التي لم تكن تستثمر بشكل كاف في ميزانيتها الدفاعية، لكن المستشار الألماني قال: "من الواضح أننا بحاجة إلى زيادة الاستثمار بشكل كبير في أمن بلدنا، من أجل حماية حريتنا وديمقراطيتنا".
وأوضح شولتس أن العالم بات على عهدة "حقبة جديدة" بعد الاجتياح الروسي، مشيرا إلى أن السؤال هو إن كان لدى الحلفاء الغربيين ما يكفي من القوة لوضع حد لـ "دعاة الحرب" مثل الرئيس فلاديمير بوتين.
موقع "دويتشه فيله" الألماني، علق على قرارات شولتس التاريخية، بالقول "من الواضح أن صناع القرار في برلين وضعوا أيديهم على القصور الذي تسرب على مدار السنوات الماضية فيما يخص مفاصل القوات المسلحة الألمانية، سواء فيما يتعلق بالجاهزية القتالية للوحدات العسكرية الألمانية، أو الموارد المالية واللوجستية المتوفرة لهذه الوحدات".
وأضاف "بدا هذا القصور واضحا للعيان بعد أن وجد الوسط السياسي الألماني نفسه أمام مساهمة هزيلة، في تعزيز دفاعات حلف الناتو في شرق أوروبا، وعدم مقدرة الحكومة الألمانية على تقديم مساعدات عسكرية نوعية وفعالة للجيش الأوكراني في أزمته الأخيرة".
وبحسب تصنيف مجلة "غلوبال فاير باور" الأميركية لأقوى جيوش العالم للعام 2021، يحتل الجيش الألماني المرتبة 16 بين 140 جيشا جرى تصنيفهم. ويقدر عدد أفراده بحوالي 185 ألفا دون الاحتياط، وينقسم إلى خمس فرق قتالية.
وتأسس الجيش الألماني الحديث كقوات دفاعية محدودة المهام عام 1955، بعد سماح الحلفاء لألمانيا بتسليح نفسها مجددا.
وجاء ذلك بعدما دخل الاستسلام غير المشروط للجيش النازي الألماني حيز التنفيذ في مايو/أيار عام 1945، عبر وثيقة قانونية أعلن بموجبها الهدنة وإنهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا.
وكانت أول مهمة عسكرية دولية تشترك فيها ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، في عام 1993 عندما منحت الحكومة الاتحادية تفويضا للجيش الألماني للمشاركة في مهام قوات الناتو في يوغسلافيا.
ويبدو أنه مع الغزو الروسي لأوكرانيا سيختلف الجيش الألماني من حيث المهام والتسليح شكلا ومضمونا، بحيث يكون قادرا على مقاومة الخطر القادم من الشرق.
جيش موحد
المعارك الدائرة في أوكرانيا على تخوم أوروبا، بعثت مجموعة من الأفكار المجمدة، كوسائل مختلفة للدفاع عن أوروبا حال تعرضها لخطر خارجي، وعلى رأس تلك الأفكار "الجيش الأوروبي الموحد".
وهي الآلية التي طرحت لأول مرة في ثمانينيات القرن الماضي من خلال الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، والمستشار الألماني الأسبق هلموت كول.
وجاءت ضمن سلسلة المشاريع التي اتفق عليها الزعيمان وفرضاها على أوروبا، بوصف باريس وبرلين تشكلان قيادة القاطرة الأوروبية، كونهما أكبر قوتين اقتصاديتين وسياسيتين في الاتحاد.
لكن الظروف السياسية والاقتصادية حالت دون تنفيذ المشروع، ومع ذلك بقيت نواة جيدة قائمة، من خلال تشكيل "الفيلق الأوروبي" المكون من ألف جندي يتمركزون في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، ويشكلون النواة لقوة موحدة تكون المنطلق لمشروع الدفاع المشترك إذا لزم الأمر.
وفي 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تشكيل جيش أوروبي حقيقي، وبرر طلبه بالتحذير من صعود قوى "سلطوية" وتسابقها بالتسلح على الحدود مع أوروبا.
واعتبر أن الأوروبيين "يتوجب عليهم الدفاع عن أنفسهم بمواجهة روسيا والصين وحتى الولايات المتحدة الأميركية".
وكذلك في عام 2019، قررت ألمانيا وهولندا تنشيط كتيبة دبابات 414، لتصبح الكتيبة الأولى في تاريخ الاتحاد الأوروبي التي تضم جنودا من دولتين أوروبيتين مختلفتين.
وأراد الهولنديون والألمان حينئذ خلق تكامل فيما بينهم، إذ افتقرت هولندا إلى قدرات عسكرية عالية في الدبابات، فيما عانت ألمانيا نقصا في عدد الجنود، واعتبر بعض المحللين الأمر بمثابة نواة لتأسيس جيش أوروبي.
ويبدو أن الظرف الإقليمي قد يسرع من عملية تكوين جيش أوروبي أكثر فاعلية واتحادا من ذي قبل، بعدما أصبح شبح الروس المخيف ماثلا على أبواب العواصم الأوروبية المتحفزة.
المصادر
- Russia’s invasion of Ukraine will change the face of Europe for ever
- القوة الاقتصادية لا تكفي.. لماذا غيرت حرب روسيا على أوكرانيا ثوابت ألمانيا السياسية؟
- الجيش الأوروبي الموحد: فرصة ضائعة
- شولتس يعلن عن "قرارات تاريخية" أمام البرلمان ويؤكد دعم أوكرانيا
- أمن أوروبا ـ سياسة الأمن و الدفاع وتأثيرها على العلاقات الأوروبية-الروسية
- نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة: مغامرة روسيا في أوكرانيا تعيد تشكيل النظام العالمي برمته
- رداً على "النهج الأمريكي".. ماذا يعني تشكيل جيش أوروبي مشترك؟