النشاط الفرنسي في الشرق الأوسط.. حماية المصالح من الجذور

في أسبوع واحد كانت فرنسا حاضرة بعدد من الملفات الهامة في منطقة الشرق الأوسط، إذ شاركت بفاعلية في مؤتمر برلين الخاص بالأزمة الليبية، وكانت سببا في تقوية موقف اللواء الليبي المنشق خليفة حفتر.
كما أعلنت باريس، عن إرسال قوة بحرية عسكرية إلى منطقة الخليج، لحماية السفن السعودية مما أسمته بالقرصنة الإيرانية، وفي الإطار نفسه أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تصريحات واضحة عن تصديه لمطامع إيران أن يكون لها سلاح نووي.
على صعيد آخر، لعبت فرنسا دورا مؤثرا في لبنان، فكانت حاضرة بقوة لحلحة أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية التي مرت بعقبات وصعوبات عديدة، وفي فلسطين المحتلة كانت مشاركة الرئيس الفرنسي في ذكرى المحرقة النازية ذات دلالات تجاوزت المشاركات البروتوكولية.
هذه الأحداث وغيرها، تثير مجموعة من التساؤلات، بشأن أسباب تجاوز الدور الفرنسي حدوده المعهودة، ووصوله لمساحات أخرى، كان وجوده بها شرفيا أو محدودا لصالح أدوار أخرى عالمية.
كما تثير تساؤلات أخرى، بشأن الوجود المتزايد لفرنسا في الشرق الأوسط، هل هو دعم للدور الأمريكي، أم منافسا له؟ وهل التحركات الخارجية لفرنسا، تأتي في إطار ما يشهده الاتحاد الأوروبي من تغييرات سياسية نتيجة خروج بريطانيا من المنظمة الأقوى في أوروبا والعالم، أم أن فرنسا تبحث عن حماية الشرق الأوسط الذي يحتل المرتبة الأولى في قائمة صادرات السلاح الفرنسية؟
"بعث جديد"
العنوان السابق كان مدخلا لمقال هام كتبه السفير الفرنسي السابق في سوريا، "ميشال دوكلو"، ونشرته صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، مطلع عام 2019، قدم من خلاله رؤيته للدور الخارجي لفرنسا، الذي توقع أن يكون عام 2019 تمهيدا له، على أن يكون عام 2020، هو الترجمة الحقيقية لما اعتبره "بعث جديد" للدولة الفرنسية.
ووفق رؤية السفير الفرنسي السابق، فإن ماكرون، اعتبر التمدد الخارجي، فرصة لترسيخ نفوذه الداخلي بعد الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا من خلال أصحاب السترات الصفراء، وبسبب خيبة الأمل التي سببتها سياسات ترامب المتعلقة بسوريا وإيران.
وتابع: فضّل ماكرون الاعتماد على نفسه، بإيجاد مساحات تضمن وجود بلاده في الملفات الهامة والحساسة التي لا تمثل أهمية لبلاده فقط، وإنما تمثل أيضا أهمية للوجود الأوروبي مقابل الوجود التركي والروسي والإيراني في ملفات الشرق الأوسط.
ورغم أن الرؤية قدمها السفير الفرنسي السابق منذ قرابة العام، إلا أن ما ذهب إليه مارك بييريني، الباحث في مؤسسة كارنيغي، والمهتم بدراسة تطورات الشرق الأوسط وفقا للمنظور الأوروبي، تدعمها بشكل كبير.
ويشير" بييريني"، في مقابلة خاصة أجرتها مؤسسة "كارنيغي" ونشرت في 24 يناير/ كانون الثاني 2020، إلى أن الاضطرابات التي يشهدها الشرق الأوسط، جعلت المصالح تتشابك لدى الدول الأوروبية، خاصة وأن الأوضاع المشتعلة في ليبيا، ووجود صراع أوروبي تركي على غاز المتوسط، دفع بأكثر من لاعب أوروبي في الساحة الملتهبة.
وتوضح رؤية بييريني، عن التعامل الفرنسي مع الوضع في ليبيا، كيف يفكر ماكرون بالنسبة لفرنسا وأوروبا، إذ أكد أنه رغم أن الموقف الفرنسي في ليبيا يعتبر داعما لحفتر، فإن فرنسا والاتحاد الأوروبي يحبذان تسوية سياسية تحت غطاء الأمم المتحدة؟
مشددا على أن شركات الطاقة الأوروبية- وليس فقط الفرنسية- كالشركات البريطانية والهولندية والألمانية والإسبانية والإيطالية، لها مصالح طاقة ضخمة في ليبيا.
صفقات فرنسية
وفي الإطار السابق تشير دراسة بحثية أعدها مركز إنسايد أرابيا "insidearabia"، وهو مركز أوروبي مهتم بقضايا الدفاع والأمن البحري في الوطن العربي، إلى أن زيادة الوجود الأمني والعسكري الفرنسي في جميع أنحاء الشرق الأوسط، جعل باريس تحتل مركز الصدارة في المسائل الإقليمية الأساسية.
وتحت عنوان "تأثير فرنسا العسكري المتسع في الخليج العربي" تؤكد الدراسة البحثية، أن الجهود العسكرية والسياسية، التي بذلتها فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي، تشير لمحور هام في الفلسفة التي تقوم عليها السياسة الفرنسية، وهي عدم الابتعاد عن المناطق التي احتلتها في الماضي.
وفي الوقت الذي يتحرك فيه الاتحاد الأوروبي، بشكل عام بعيدا عن المجال العسكري في الشرق الأوسط، والخليج العربي، على وجه الخصوص، فإن صفقات الأسلحة الفرنسية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، وتعاونها العسكري مع الكويت، يتعارض مع هذا الاتجاه.
ووفق الدراسة فإن دور فرنسا في الخليج، مدفوع بأهمية صناعة الأسلحة للاقتصاد الفرنسي وقدرة تلك الصناعة على التأثير في السياسة الخارجية لباريس، ولذلك كانت فرنسا ثالث أكبر دولة مصدرة للأسلحة خلال الفترة بين 2015 و2017، وجاءت في الترتيب بعد الولايات المتحدة وروسيا، وقبل دول هامة في مجال التسليح مثل الصين وألمانيا وبريطانيا.
ويدعم الدراسة السابقة، التقرير الرسمي الذي أرسلته الحكومة الفرنسية للبرلمان مطلع عام 2019، عن مبيعات السلاح الفرنسي خلال عام 2018، وقدرت الحكومة قيمة المبيعات بمبلغ 9,1 مليار يورو، نصفهم مبيعات متعلقة بالشرق الأوسط لا سيما قطر والسعودية والإمارات ومصر، بزيادة قدرها 30% عن عام 2017.
وأكد التقرير الذي أعدته وزارة الجيوش، وقدمته للبرلمان في 4 يونيو/حزيران 2019، أن الشرق الأوسط يبقى الوجهة الأساسية لطلبيات السلاح الفرنسي، حيث زادت العقود الموقعة والتي دخلت حيز التنفيذ لهذه المنطقة، عن 50 بالمئة مما كانت عليه قبل 2018.
حماية المصالح
ووفق تقارير عديدة فإن القرار الفرنسي بإرسال البارجة شارل ديجول لمياه الخليج العربي، ليست أول ظهور عسكري فرنسي في الخليج منذ توتر الأجواء بين أمريكا والسعودية من جانب، وإيران من جانب آخر.
وكشف تقرير نشرته رويترز قبل أيام من وصول شارل ديجول لمياه الخليج، أن وزيرة الدفاع الفرنسي، فلورنس بارلي، أرسلت للرياض "حزمة قوية من أجهزة الإنذار المتقدم"، بما في ذلك أجهزة الرادارت بعد هجمات 14 سبتمبر/ أيلول الماضي على منشآت شركة أرامكو السعودية.
وحسب رويترز فإن الوجود العسكري الفرنسي له أهداف عدة منها إنقاذ الاتفاق النووي مع إيران، وهو الاتفاق الذي تعارضه السعودية وأمريكا، وفي ظل التصعيد الأمريكي تجاه إيران، فإن فرنسا حسب وزيرة دفاعها تعمل على معالجة، "التراجع الأمريكي التدريجي والمتعمد".
وبالعودة لتقارير تصدير السلاح الفرنسي، فإن الهند تحتل الصدارة، تليها السعودية ثم قطر، حيث اشترت السعودية خلال الفترة من 2009، وحتي 2018، أسلحة فرنسية بقيمة 11,3 مليارات يورو، وخلال عام 2018 طلبت السعودية سفن دورية بقيمة 1 مليار يورو.
وفي شهادتها أمام البرلمان أكدت وزير الدفاع الفرنسية، أن "الحفاظ على علاقات اقتصادية مع السعودية، يعني الحفاظ على نفوذ في مناطق مهمة بالنسبة لمصالحنا الأمنية، ولإمداداتنا من الطاقة"، وأضافت قائلة: "تصدير معداتنا يعني تحريكا لصناعاتنا الدفاعية، حيث تمثل صناعات السلاح 13 بالمئة من مجمل الوظائف الصناعية في البلاد".
وفي مؤتمر حوار المنامة الذي نظمته البحرين في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعادت باري تأكيد موقف بلادها من الوجود في الخليج بقولها: "المنطقة معتادة على انحسار ثم تزايد التدخل الأمريكي، لكن هذه المرة بدا الأمر أكثر خطورة، حيث تم تفجير السفن السعودية، وتم إسقاط طائرة بدون طيار على يد القوات الإيرانية الموجودة في سوريا، وأمام هذا كله لم تتعامل الولايات المتحدة بالشكل المطلوب".
وأضافت قائلة: "إن الوقت قد حان لإعادة اختراع الردع"، في إشارة لجهود فرنسا لتشكيل بعثة بحرية بقيادة أوروبية، غير مرتبطة بحملة الضغط الأمريكية القصوى على إيران.
الدراسة التي أعدها مركز "insidearabia"، وسبق الإشارة إليها، كشفت جانبا آخر للتحركات الفرنسية المتسارعة في الشرق الأوسط، حيث ترى باريس أن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي سوف يمنحها حرية حركة أكبر في الوجود العسكري بالشرق الأوسط، خاصة وأن بريطانيا نشطت مؤخرا في إرسال قوات عسكرية لكل من البحرين وسلطنة عمان.
وفي حال خروجها من الاتحاد الأوروبي فإنها لن تكون بحاجة للتنسيق مع باقي دول الاتحاد الذي يفرض شروطا على وجود القوات التابعة للاتحاد خارج أوروبا، وهو ما يعني أن المساحة المخصصة لبريطانيا، يمكن أن تزيد، ومن هنا تأتي أهمية التحرك الفرنسي لتقليص هذه المساحة قبل فوات الأوان.
النووي الإيراني
ويبقي الملف النووي الإيراني هو الأبرز في علاقة فرنسا بالشرق الأوسط، خاصة وأن خيوط هذا الملف لا تقف عند حدود طهران، وإنما تتجاوزها لبقية العواصم الخليجية المرتابة من النووي الإيراني، بالإضافة للعواصم الأخري التي أصبح لإيران يد كبري فيها مثل بيروت وصنعاء ودمشق.
وحسب السياسي اللبناني "ناصيف حتي"، فإن الدبلوماسية الفرنسية تنشط كوسيط فى ملف العلاقات الصدامية الأمريكية الإيرانية المتصاعدة، وتحاول استغلال كل الأطراف المتاحة من أجل توزان الأمور بالشكل الذي يضمن عدم إشعال الحرب في المنطقة.
ولذلك عملت باريس على التنسيق مع موسكو من جانب، والدول الأوروبية المعنية بالاتفاق النووي من جانب آخر، لتقليل الصدام قدر الإمكان.
وحسب السياسي اللبناني فإن الرئيس الفرنسى يعتبر أن المعالجة الناجحة للتحديات الوطنية يستدعى تعزيز التعاون الأوروبى وبلورة أدوار ومهام جديدة للاتحاد الأوروبى، ويمثل ذلك تحديا كبيرا فى لحظة تشهد فيها فرنسا أزمة اقتصادية اجتماعية مزدوجة فى البيت الوطنى وكذلك فى البيت الأوروبى.
المصادر
- فرنسا في مرحلة «بعث جديد»... وماكرون يركز على الخارج
- تقرير: الشرق الأوسط يبقى الوجهة الأساسية لصادرات السلاح الفرنسي
- قلق فرنسي من تراجع دور واشنطن (التدريجي والمتعمد) في الشرق الاوسط
- مُتوسّط مضطرب
- السعودية والإمارات العربية المتحدة تستخدم الأسلحة الفرنسية في اليمن
- فرنسا تنشر حاملة طائرات شارل ديغول لدعم عمليات الشرق الأوسط
- شركة ماكرون الفرنسية تناقش الأزمة الأمريكية الإيرانية مع القادة العراقيين والإماراتيين
- هل فقدت فرنسا كل أهميتها في الشرق الأوسط؟
- السياسة الفرنسية في ليبيا.. دور "متناقض" في مشهد معقد أصلاً
- دراسة: التأثيرات الأجنبية في السياسة الليبية: فرنسا نموذجا
- تأثير فرنسا العسكري المتسع في الخليج العربي
- أوروبا تدير مهمة الأمن البحري الخليجي خارج القاعدة الفرنسية في أبوظبي
- فرقاطات هولندية ودنماركية لدعم البعثة البحرية الفرنسية في الخليج العربي
- الولايات المتحدة وفرنسا تتنافسان لتعزيز الأمن في الخليج بعد الهجوم النفطي السعودي