تركيا تواجه تحدي انخفاض الخصوبة.. معركة وجود من أجل الأسرة والمجتمع

أردوغان: هذا تهديد وجودي، وكارثة بالنسبة لتركيا
تواجه تركيا اليوم تحديًا ديموغرافيًا حاسمًا يتجاوز كونه مجرد أرقام في جداول معهد الإحصاء، ليصبح معركة وجودية مفتوحة على مستقبل الأسرة والمجتمع والدولة.
ففي بلد كان يتباهى بشبابه وتركيبته السكانية الديناميكية حتى وقت قريب، يجد الأتراك أنفسهم أمام واقع صادم يتمثل في انخفاض حاد بمعدلات الخصوبة، وتوسع سريع في فئة كبار السن، وتآكل متسارع للنموذج التقليدي للأسرة التي شكّلت أساس المجتمع والدولة لعقود طويلة.
وفي هذا السياق، لم تعد المسألة مجرد تفاصيل تقنية أو اقتصادية، بل تحولت إلى قضية مصيرية ترتبط ببقاء البلاد.
في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، قدّمت وزيرة الأسرة والخدمات الاجتماعية ماهينور أوزدمير غوكتاش أرقامًا مقلقة أمام لجنة التخطيط والميزانية في البرلمان، حيث توقّع معهد الإحصاء التركي "تويك" انخفاض عدد الأطفال في سن الدراسة الابتدائية بمقدار 900 ألف خلال السنوات الخمس المقبلة.
هذا الرقم ليس مجرد إحصائية عابرة، بل يعكس تقلصًا في قاعدة الشباب التي تبني عليها تركيا خططها التنموية عبر قوة عمل شابة واتساع قاعدة التعليم والعمل. وأشارت الوزيرة إلى أن نصف الأسر التركية اليوم تقريبًا لا تضم أي أطفال، في مجتمع كان نموذج الأسرة الكبيرة جزءًا من الثقافة والمخيال الجماعي.
ورغم إعلان مؤسسة الإحصاء التركية نمو السكان بمقدار 315 ألفًا و710 أشخاص خلال الأشهر التسعة الأولى من 2025 ليصل إلى 85 مليونًا و980 ألفًا و654 نسمة، فإن هذا النمو يخفي تحولًا بنيويًا عميقًا، يتمثل في انخفاض الخصوبة وارتفاع نسبة كبار السن بسرعة.
وتزامنت هذه الأرقام مع تحذيرات متكررة من القيادة التركية حول "التوازن الديموغرافي المختل" الذي يشكل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل البلاد.

تحذيرات أردوغان
في 23 مايو/ أيار 2025، صعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لهجة تحذيراته ووسع نطاق الاستجابة، إذ أعلن خلال افتتاح منتدى الأسرة في إسطنبول أن الفترة من 2026 إلى 2035 ستكون "عقد الأسرة والسكان"، مؤكدًا أن تركيا تدخل مرحلة تستلزم تعبئة شاملة للحفاظ على تماسك المجتمع.
استند أردوغان إلى بيانات المعهد الوطني للإحصاء ليكشف رقمًا صادمًا، حيث انخفض معدل المواليد في تركيا للمرة الأولى في التاريخ إلى 1.48 طفلًا لكل امرأة، ووصف هذا الرقم بوضوح: "هذه كارثة".
للمقارنة، كان معدل الخصوبة في تركيا عام 2001 يبلغ 2.38 طفلًا لكل امرأة، وخلال نحو ربع قرن فقدت البلاد نحو نقطة كاملة في معدل الخصوبة، لتنتقل من مستوى فوق حد استبدال السكان إلى مستوى ينذر بتراجع عدد السكان على المدى البعيد إذا استمر الاتجاه نفسه.
شدد أردوغان على أن "المشكلة ليست مجرد انعكاس لصعوبات اقتصادية عابرة، فمع ارتفاع مستوى الرخاء بدأ معدل الخصوبة لدينا بالانخفاض".
وأشار إلى أن تركيا أصبحت "أقل من معدل استبدال السكان البالغ 2.1"، وصاغ تحذيره بلهجة حاسمة: "بصراحة، هذا تهديد وجودي، وكارثة بالنسبة لتركيا".
ومن هنا جاءت دعوته المتكررة للعائلات لإنجاب "ثلاثة أطفال على الأقل"، كمحاولة لاستعادة التوازن الديموغرافي قبل فوات الأوان.
ولم يكن هذا التحرك منفصلا عن خطوات سياسية ورمزية متراكمة؛ إذ أعلن الرئيس عام 2025 "عام الأسرة"، وربط بين الوعود الانتخابية ودعم الشباب في الزواج عبر "صندوق الأسرة والشباب"، الذي طُرح خلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 2023، في محاولة واضحة لاستخدام الحوافز الاقتصادية والتمويل الميسر لتخفيف تكلفة تكوين الأسر الجديدة.

“اقتصاد المسنين”
تأتي هذه الإستراتيجية الحكومية استجابةً لإحدى أسرع موجات التحول الديموغرافي نحو الشيخوخة في تاريخ تركيا الحديث.
فعدد كبار السن "فوق 65 عامًا" تجاوز خلال سنوات قليلة حاجز 9 ملايين شخص، بعد ارتفاع لافت تجاوز 20% خلال خمس سنوات فقط، لتصل نسبتهم اليوم إلى نحو 11% من إجمالي السكان، مع توقعات بزيادة تصل إلى 16% بحلول عام 2040.
وهذا يعني أن تركيا دخلت فعليًا مسار ما يُعرف بـ "اقتصاد المسنين".
فالأنظمة الصحية والاجتماعية تواجه ضغوطًا متزايدة لتوفير خدمات رعاية وتمريض وعلاج طويلة الأمد لشريحة آخذة في التوسع، في وقت لا تزال البنية المؤسسية والكوادر المؤهلة بعيدة كثيرًا عن تلبية الطلب المتوقع.
الفجوة تبدو واضحة عندما نراجع قدرات البنية الحالية، إذ لا يتجاوز عدد دور رعاية المسنين في البلاد 450 إلى 500 مؤسسة، تستقبل حوالي 30 ألف مسن فقط، في مجتمع يتجه بسرعة نحو الشيخوخة.
عائشة بيرجون، إحدى المسؤولات في قطاع دور الرعاية، تختصر المشهد قائلة: إن السوق التركي "لا يزال في مراحله الأولى"، محذرة من اتساع الفجوة بين العرض والطلب مع ارتفاع أعداد كبار السن بسرعة.
وفي حديث لصحيفة "ملييت" التركية في 13 نوفمبر 2025، أشارت بيرجون إلى أن نقص الكوادر المؤهلة يمثل التحدي الأكثر إلحاحًا، إلى جانب وجود ثغرات تنظيمية وغياب خطط واضحة لتوسيع مؤسسات الرعاية وتشديد معايير الجودة.

خطة إنقاذ
لكن الحكومة التركية لا تنظر إلى هذه التحولات فقط من زاوية الضغوط المالية، بل تسعى لوضع خطة إنقاذ ضمن ما يُعرف عالميًا بـ"الاقتصاد الفضي".
في قمة الاقتصاد العالمي مطلع نوفمبر 2025، عرض وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك رؤية ترتكز على التوسع في قطاعات الرعاية المتقدمة، مثل مراكز طب الشيخوخة وإعادة التأهيل، بالإضافة إلى حلول الصحة عن بعد، والأجهزة الذكية القابلة للارتداء، والروبوتات المساعدة، وأنظمة المنازل الذكية المصممة خصيصًا لتلبية احتياجات كبار السن.
وتشير تقديرات دولية إلى أن قيمة سوق "الاقتصاد الفضي" قد تتجاوز 8.5 تريليونات دولار بحلول عام 2032.
في هذا السياق، تبدو تركيا مرشحة لجذب استثمارات واسعة، محلية وأجنبية، نظراً لحاجاتها المتنامية وإمكاناتها.
لذلك، يتحرك رواد الأعمال الأتراك نحو آفاق جديدة تتجاوز الرعاية التقليدية، عبر طرح فكرة تحويل البلاد إلى مركز إقليمي لسياحة رعاية المسنين، مستفيدين من موقع تركيا الجغرافي، وبنيتها الصحية المتطورة نسبيًا، وسمعتها في السياحة العلاجية.
بالتوازي، تعمل الحكومة على دعم مبادرات موجهة للقطاع الخاص وللنساء خصوصًا، من خلال قروض مدعومة لتأسيس مراكز رعاية تلتزم بالمعايير الدولية.
كما تتوسع دور الرعاية القائمة في برامج تهدف إلى إبقاء كبار السن نشطين ومندمجين اجتماعيًا، عبر أنشطة ثقافية وترفيهية، ومبادرات تعزز جودة الحياة داخل تلك المؤسسات.

قضية إستراتيجية
تاريخياً، شكّلت الأسرة التركية خط الدفاع الأول في رعاية كبار السن؛ حيث كان الأبناء يتولون مسؤولية الوالدين داخل المنزل كواجب أخلاقي وثقافي راسخ، ما خفف عن الدولة أعباء ضخمة لعقود طويلة.
وحتى اليوم، لا يزال هذا النموذج حاضرًا بقوة، إذ تضم قرابة ربع الأسر التركية فردًا واحدًا على الأقل فوق سن 65 عامًا.
لكن التحولات الاجتماعية الحديثة وضعت هذا النموذج تحت ضغط شديد؛ إذ تقلص حجم الأسرة، وازدادت مشاركة النساء في سوق العمل، وتغير نمط السكن والهجرة الداخلية من القرى إلى المدن الكبرى، مما جعل الاعتماد الكامل على الرعاية المنزلية خيارًا صعبًا.
في الوقت الحالي، يعيش في تركيا 1.8 مليون مسن بمفردهم، تشكل النساء ثلاثة أرباعهم، وهو رقم يعكس عمق الحاجة إلى خدمات مساندة لفئة متقدمة في العمر غالبًا دون دعم مباشر من الأبناء أو الأسرة.
تشير دراسات حديثة إلى أن النساء يتحملن الجزء الأكبر من عبء الرعاية، ما يعني خسائر مالية وانخفاض المشاركة الاقتصادية وزيادة الأعباء غير المدفوعة. كثير من النساء يجدن أنفسهن ضمن ما يُعرف بـ"جيل المحصورات بين جيلين"، حيث يرين الأبناء والوالدين معًا، ما يضغط عليهن ويقيّد فرص التقدم المهني.
هذه الحقائق تفسر جزئيًا سبب إصرار الحكومة على أن قضية الأسرة ليست ملفًا ثانويًا، بل قضية إستراتيجية ترتبط بسوق العمل والنمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، رفعت وزارة الأسرة والخدمات الاجتماعية مخصصات الرعاية المنزلية إلى 10 آلاف ليرة شهريًا (حوالي 240 دولارًا)، في خطوة تهدف إلى تخفيف العبء عن العائلات التي ترعى كبار السن في منازلهم.
كما توسعت البلديات في خدماتها من زيارات تمريضية إلى توصيل الوجبات والأدوية للمسنين في منازلهم، في محاولة للجمع بين حماية النموذج الأسري التقليدي وتكييفه مع متطلبات الحياة الحديثة.

سبب الأزمة
ورغم الخطوات المتخذة، يبقى السؤال مطروحًا: لماذا لم تؤتِ سياسة التحفيز السكاني ثمارها بالسرعة التي تأملها الحكومة؟
هنا تخرج أنقرة عن التفسير الاقتصادي البحت، لتضع الإصبع على جرح عميق، وهو "حملات تحديد النسل" التي استهدفت وعي المجتمع لعقود وأسهمت في إعادة تشكيل صورة الأسرة المثالية في أذهان شرائح واسعة من المواطنين.
تعرضت تركيا لحملات مكثفة، مدعومة من حكومات متعاقبة ومنظمات أجنبية، غيّرت نظرة الناس إلى الزواج والإنجاب والأسرة.
وقد تولت وسائل الإعلام وشركات إنتاج الأفلام والمسلسلات الترويج لنموذج الأسرة الصغيرة المكوّنة من أب وأم وطفلين، بوصفها النموذج الأمثل المتوافق مع الحداثة والرفاهية.
ولم تقتصر هذه الحملات على ترويج فكرة "الأسرة الصغيرة السعيدة" فحسب، بل شطّنت في الوقت ذاته كثرة الإنجاب، وربطتها بالفقر والجريمة وتربية الشوارع، بل وحتى الالتحاق بالشبكات الإجرامية والتنظيمات المتطرفة.
وبذلك، تحولت الأسرة الكبيرة من مصدر فخر إلى عبء ثقيل في وعي شرائح واسعة من المجتمع.
في هذا السياق، تضع الحكومة التركية أولوية لنشر حملات إعلامية ودعائية تهدف إلى مواجهة ثقافة الفردية المطلقة التي تضع الراحة الشخصية في مركز الحياة، وتؤخر سن الزواج والإنجاب، وتروّج لنماذج أسر فردية مشبعة بالملذات، عادة ذلك خطرًا موازياً لخطر سياسات تحديد النسل.
وتبدو مواجهة هذه الموجة بالنسبة لأنقرة معركة فكرية وثقافية بقدر ما هي ديموغرافية.
فالمطلوب ليس فقط تشجيع الزواج والإنجاب عبر القروض والدعم المالي، بل خوض معركة طويلة الأمد لاستعادة الهيبة المعنوية للنموذج الأسري التقليدي، وإعادة التقدير لفكرة العائلة الكبيرة التي تلتقي أجيالها حول مائدة واحدة.
هذا ما أكدت عليه أمينة أردوغان، عقيلة الرئيس التركي، في رسالتها المصورة التي وجهتها إلى "قمة أوروبا المتنامية الدولية 2025" التي استضافتها ليتوانيا في 19 نوفمبر 2025.
وأشارت أمينة أردوغان إلى أن "الأيام التي كانت تجتمع فيها العائلات الكبيرة في الأعياد والمناسبات أصبحت جزءًا من أرشيف الحنين في معظم أنحاء العالم".
ورأت أن "هذا التحول لا يعكس فقط وجه العالم الحديث، بل يمثل أيضاً ملامح مرحلة 'ما بعد العائلة'".
ولا تقتصر المقاربة التركية على السياسات الداخلية فقط، فتركيا، بصفتها عضوًا في "مجموعة أصدقاء الأسرة" التابعة للأمم المتحدة، تسعى لتوظيف ما تسميه "الدبلوماسية الأسرية" لتسليط الضوء على أهمية الأسرة في النقاشات الدولية المتعلقة بالتنمية وحقوق الإنسان.
المصادر
- Bakan Göktaş uyardı: Nüfus konusu, ülkemizin beka meselesi, hanelerin yüzde 50'sinde çocuk yok
- اقتصاد المسنين يعيد تشكيل سوق الخدمات الصحية والاستثمار بتركيا
- أردوغان دق ناقوس الخطر.. لماذا لا تثمر سياسة التحفيز السكاني بتركيا؟
- عقيلة أردوغان: انخفاض معدلات المواليد وتقلّص عدد الشباب يُبطئان النمو الاقتصادي
- Türkiye’s fertility rate hits new low amid gov’t incentives
- Türkiye’s Fertility Rate Declines to 1.48 in 2024, Well Below Replacement Level
















