المجلس العسكري المالي يحل جميع الأحزاب.. انقلاب جديد أم إصلاح سياسي؟

هذا الإجراء يأتي في أعقاب إلغاء النظام الأساسي للأحزاب السياسية في مالي
في خطوة أثارت الكثير من الجدل، أصدر رئيس المجلس العسكري الانتقالي في مالي، أسيمي غويتا، مرسوما رئاسيا حل بموجبه الأحزاب السياسية والمنظمات السياسية في جميع أنحاء البلاد.
وأعلن ماماني ناصري، الوزير المنتدب لدى رئيس الوزراء للإصلاحات السياسية ودعم العملية الانتخابية، عبر التلفزيون الرسمي، في 13 مايو/أيار 2025، أن المرسوم يحظر عقد اجتماعات وأنشطة الأحزاب والمنظمات السياسية، ويضع مخاليفها تحت طائلة العقوبات.
وقال المسؤول الحكومي: إن هذا الإجراء يأتي في أعقاب إلغاء النظام الأساسي للأحزاب السياسية، مضيفا: "نحن في خضم عملية إصلاحات".
وأكد ناصري أنه سيتعين إعداد قانون جديد خاص بإدارة الحياة السياسية المالية، وأن من بين الأهداف التي جرى طرحها بالفعل؛ تقليص عدد الأحزاب المرخصة، وتشديد قواعد إنشاء التشكيلات الجديدة، والحد من تمويلها العام أو حتى حظره.
ويحكم غويتا جمهورية مالي منذ عام 2021، بعد انقلابه ورفاقه على الرئيس الانتقالي العقيد المتقاعد باه نداو. وقبل ذلك كانوا قد انقلبوا على الرئيس المدني الراحل إبراهيم بوبكر كيتا.
وتعهد غويتا في البدء بتسليم السلطة للمدنيين بحلول نهاية مارس/آذار 2024، لكن الحكومة الانتقالية أعلنت في 25 سبتمبر/أيلول 2023 تأجيل الانتخابات الرئاسية، وإلغاء الانتخابات التشريعية، وأرجعت ذلك لأسباب فنية.
ويأتي هذا القرار تنفيذا لتوصيات المشاورة الوطنية في نهاية أبريل/نيسان 2025 والتي أوصت بحل الأحزاب وتشديد إجراءات إنشائها.
وكان هذا الاجتماع - الذي تميز بحضور أنصار النظام ولكن قاطعته معظم الأحزاب السياسية - قد اقترح أيضا إعلان أسيمي غويتا رئيسا بدون انتخاب عام 2025 لفترة ولاية مدتها خمس سنوات قابلة للتجديد.
في المقابل، جرى تشكيل ائتلاف يضم نحو مائة حزب "للمطالبة بإنهاء الانتقال السياسي العسكري بشكل فعال في موعد أقصاه 31 ديسمبر/كانون الأول 2025"، والدعوة إلى "وضع جدول زمني للعودة السريعة إلى النظام الدستوري".
وفي عمل احتجاجي نادر منذ وصول المجلس العسكري إلى السلطة، نجح هذا التحالف الجديد في حشد عدة مئات من الأشخاص خلال مظاهرة في باماكو أوائل مايو 2025.
قرار خطير
ورأت الباحثة الأكاديمية والكاتبة المهتمة بالشأن الإفريقي، سامية عبد الله، أن خطورة القرار الجديد تتمثل بالاستمرار في هذا النهج الذي سيهدد بشكل مباشر استقرار المؤسسات السياسية في مالي، ويهدم أدنى ركائز التعددية والتشاركية.
وقالت لـ “الاستقلال”: إن هذه الخطوات تضع المجتمع الدولي في موقف متوتر؛ إذ تزداد الانتقادات والضغوط على النظام العسكري، وتتعالى الدعوات لإعادة تفعيل الحوارات السياسية، وضمان واحترام حقوق المواطنة والتعددية.
وأشارت إلى أن فشل السلطات في التفاعل بشكل إيجابي مع مطالب المجتمع، خاصة تسليم السلطة لقوى مدنية منتخبة، وكذا خطواتها التقييدية، قد يدفع البلاد إلى مرحلة أكثر خطورة من الانفلات السياسي، ويزيد من عزلة مالي على الصعيدين الإقليمي والدولي.
من جهته، أكد الكاتب والباحث السياسي غاوسو ماداني تراوري، أن حل الأحزاب السياسية يتعارض بشكل مباشر مع دستور البلاد الذي تضمن التعددية الحزبية الكاملة ومبدأ عدم المساس بها.
وشدد لـ "الاستقلال" أنه لا يمكن لقلة موالية للنظام العسكري الانتقالي أن تحسم وتتخذ قرارا بانتهاك الدستور، عبر حوار أو أي شكل آخر؛ لأن الدستور أسمى من هذه القرارات.
ورأى تراوري أن مالي منقسمة اليوم بين المستبدين والديمقراطيين، وتسير على منحدر زلق للغاية، في ظل عدم احترام القوة العسكرية الانتقالية للدستور وتبعا لذلك الشعب الذي اختاره.
ونبه إلى أن السلطات تعمل على إسكات جميع الأصوات المعارضة، واصفا ما يجرى بأنه خطر على الأمن والاستقرار في مالي، وقد تكون له تداعيات خطيرة على البلاد.
ولذلك، يردف تراوي، أنه "من أجل المصلحة العامة في مالي، يجب على المجلس الانتقال العسكري أن يحترم بشكل صارم دستور البلاد الذي أراده بنفسه وصاغه وصوت عليه".
وذلك "لأن أصوات جميع أبناء وبنات مالي يجب أن تؤخذ في الحسبان بالضرورة عندما تريد الحكومة اتخاذ مثل هذا القرار المهم الذي يؤثر على مستقبل أمة بأكملها".
وأضاف: "يجب ألا ننسى أنه خلال الاستفتاء الدستوري لعام 2023، ذهب أكثر من 3 ملايين مالي من أصل نحو 10 ملايين في سن التصويت إلى صناديق الاقتراع للتصويت على هذه القضية".
وهو ما "يوجب على المجلس الانتقالي العسكري أن يتجنب، ولو لمرة واحدة، التوترات غير الضرورية في البلاد، وذلك من خلال احترام المواطنين الماليين، واختياراتهم الدستورية والسياسية".

المعارضة تنتفض
وعبر فاعلون سياسيون عن رفضهم قرار المجلس العسكري الانتقالي، ومنه ما صدر عن الشيخ عمر دومبيا، أحد قادة المعارضة قائلا: "لستُ متفاجئا، توقعتُ ذلك لأن هذه طريقتهم لمنعنا من ممارسة أنشطتنا".
واستدرك دومبيا في تصريح صحفي "سنواصل الدفاع عن الديمقراطية في مالي ونحن شعب ملتزم لها".
بدوره، قال المحلل السياسي والمحامي شيخ عمر كوناري: إن “الحكومة بهذا القرار لم تختر تهدئة المناخ السياسي في مالي”.
وأردف: "لم تعلن الأحزاب السياسية بعد عن إستراتيجيتها لسماع أصواتها، لكننا نتوقع مواجهات مع الجماعات المؤيدة للديمقراطية في الشوارع في المستقبل".
كما انتقد المحامي ووزير العدل السابق مامادو إسماعيل كوناتي هذا القرار بشدة، وقارن نظام أسيمي غويتا بنظام أوغستو بينوشيه في تشيلي.
وبحسب ما قال كوناتي في تصريح للصحافة، فإن القوة العسكرية في مالي، كما كان الحال في عهد بينوشيه، تفرض قراراتها دون استشارة شعبية، مما يؤدي إلى إضعاف سيادة القانون ومبادئ الديمقراطية.
أما موقع"bamada"، فرأى أن قرار السلطات العسكرية في مالي يطرح العديد من الأسئلة بشأن مصير الديمقراطية ونظام التعددية الحزبية في البلاد.
وأشار الموقع خلال مقال في 14 مايو 2025 إلى أن السلطات وعدت بأن هذا الإجراء سيكون مؤقتا، وأنها اتخذه في إطار تنفيذ توصيات مشاورات القوى الحيوية للبلاد.
ولفت إلى أن المشاورات الأخيرة أوصت كذلك بإعادة وتشديد شروط تنظيم وإنشاء الأحزاب السياسية من خلال تشريعات جديدة وإلغاء ومراجعة تمويلها وإلغاء صفة زعيم المعارضة.
وأوصى الحوار أيضا بمراجعة ميثاق الانتقال من خلال تنصيب الجنرال أسيمي غويتا رئيسا للجمهورية لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد ابتداء من عام 2025، مثل نظرائه في الجمعية التأسيسية.
وعلى أي حال، يقول الموقع، فإن الشعب يبقى في الوقت الراهن في حالة من الترقب حتى يتم الوفاء بالوعد بصياغة ميثاق جديد للأحزاب السياسية وإعادة التعددية الحزبية في مالي الديمقراطية كما نص عليه دستور 22 يوليو/تموز 2023.

رفض متنامٍ
وفي فرنسا، تجمع العشرات من الماليين في 17 مايو/أيار بالعاصمة باريس، للتنديد بما وصفوه بـ "التوجه الاستبدادي" للسلطة القائمة في باماكو.
بدورها، دعت "المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان" السلطات الانتقالية في مالي إلى إلغاء مرسوم حل الأحزاب السياسية الذي وصفته بأنه "قاسٍ".
وبحسب ما نقل موقع "rfi" الفرنسي، قال رافينا شامداسان، المتحدث باسم رئيس المفوضية فولكر تورك، إن "أي قيود على المشاركة السياسية يجب أن تكون متوافقة مع التزامات مالي الدولية في مجال حقوق الإنسان".
واسترسل: "من المهم للغاية أن يتمكن الناس من التحدث، وأن يكون لديهم ممثلون سياسيون قادرون على الاستجابة والمساعدة في حل المشاكل، ولكن هذا المرسوم يسكت الأصوات المعارضة حقا".
كما أعربت المفوضية عن قلقها إزاء اختطاف الزعماء السياسيين من قبل أجهزة الأمن الحكومية، داعية السلطات الانتقالية إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين لأسباب سياسية.
وأضاف: "رأينا ثلاثة على الأقل من أعضاء المعارضة يُعتقلون عقب الاحتجاجات، ولا تتوفر أي معلومات عن مكانهم، وهم ليسوا الوحيدين، وهم أحدث ضحايا سلسلة من حالات الاختفاء القسري التي تعود إلى عام 2021".
لذلك، دعا النظام القضائي في مالي إلى حماية حريات التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع السلمي بشكل حقيقي، وإجراء تحقيقات في هذا الشأن.
وسبق لمنظمة العفو الدولية، أن دعت سلطات مالي للتخلي عن مقترح حل جميع الأحزاب السياسية. ورأت أن السلطات العسكرية الحاكمة صعدت "القمع" ضد الأحزاب السياسية منذ عام 2024.
وأكدت المنظمة في موجز صحفي، أنه خلال الفترة ما بين 10 أبريل/نيسان و10 يوليو/تموز 2024، أصدرت السلطات مرسوما يقضي بـ"تعليق أنشطة الأحزاب السياسية والأنشطة ذات الطابع السياسي للجمعيات".
وبعد مرسوم تعليق الأنشطة الحزبية لعام 2024، أصدر المجلس العسكري قراره القاضي بحل التنظيمات الحزبية والسياسية ومنع جميع أنشطتها بالبلاد في مايو 2025.
ورأت المنظمة أن حل الأحزاب السياسية في مالي "مخالف للدستور الذي أقر عام 2023 من قبل سلطات المرحلة الانتقالية".
ويضمن الدستور وجود الأحزاب السياسية ويؤكد على حقها في "التأسيس وممارسة أنشطتها بحرية في ظل الشروط التي تحددها القوانين".
وأفادت المنظمة بأن هذا الإجراء "سيكون متعارضا وغير متوافق مع الالتزامات الدولية لمالي في مجال حقوق الإنسان، لا سيما الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية".
ودعا المصدر ذاته السلطات إلى وقف القمع المتزايد للمجال المدني، واحترام حقوق الإنسان للجميع في البلاد، بمن فيهم المعارضون والمدافعون عن حقوق الإنسان وأعضاء المعارضة.
سيناريوهات محتملة
في قراءته لما بعد قرار حل الأحزاب السياسية في مالي، ذكر "مركز شاف" للأبحاث والدراسات، في تقرير أعدته الباحثة في الشأن الإفريقي أسماء حسن، أن "ترسيخ الهيمنة العسكرية"، هو أحد السيناريوهات المحتملة.
وأضاف المركز خلال تقريره في 20 مايو 2025، أن هذا الاحتمال يُعدُّ من السيناريوهات الخطيرة؛ لأنه يعني استمرار حُكم المؤسسة العسكرية بقيادة العقيد أسيمي غويتا، مع تغييب كامل للمنافسة السياسية.
وهذا إلى جانب استبدال التعدُّدية الحزبية بهياكل بديلة، مثل لجان شعبية أو مجالس تقليدية تدين بالولاء للنظام العسكري.
وهو ما قد يؤدي إلى استمرار تعليق الدستور وتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، كما أنه يسوق الوضع إلى مزيد من التضييق على الحريات العامة والإعلام، إضافة إلى ازدياد الاعتماد على بُدلاء من شركاء أمنيين.
وأما السيناريو الثاني، بحسب المركز، فيتمثل في انفجار اجتماعي وتمرد سياسي، موضحا أنه "مع استمرار القمع وتضييق المجال السياسي، يمكن أن تتطور الأزمة إلى مواجهة مفتوحة بين السلطة العسكرية وقطاعات من المجتمع المدني والنخب المعارضة".
ويشمل ذلك "بعض القادة الدينيين وزعماء الحركات الشبابية، وهو ما ينتج عنه تأجيج حركات المعارضة مع تصاعد موجة الاحتجاجات والإضرابات في المدن الكبرى"
ومن ناحية أخرى، من المحتمل حدوث انشقاقات داخل الجيش أو المؤسسة الأمنية؛ ما يعني استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني داخل الدولة.
وأوضحت الباحثة في المركز أن السيناريو الثالث يتمثل في "تفاوض على مرحلة انتقالية جديدة"، وذلك تحت ضغط داخلي وخارجي متزايد، لأجل تحديد خارطة طريق جديدة تشمل إعادة هيكلة النظام السياسي بطريقة مضبوطة.
وتابع، "كما أنه من الممكن أن يتمَّ وضع دستور جديد أو تعديل الدستور الحالي، إضافة إلى إجراء انتخابات مشروطة وغير تنافسية بشكل كامل".
وخلص المركز إلى أن حل الأحزاب السياسية يعد ضربة قاضية للتعددية السياسية، ومؤشرا واضحا على عرقلة عملية التحول الديمقراطي، كما يكشف عن تعمق التحول السلطوي للنظام.
وأوضح أنه في ظل التحديات الأمنية والاقتصادية المعقّدة، لا يمكن تصوُّر خروج مالي من أزمتها الحالية دون استعادة الشرعية الدستورية، وفتح المجال أمام حوار وطني شامل يفضي إلى انتقال ديمقراطي حقيقي.
وشدد على أن البلاد بدون ذلك، مهددة ليس فقط بالركود السياسي، بل أيضا بانفجار أمني قد يمتد تأثيره إلى عموم منطقة الساحل وغرب إفريقيا.