الهزات الأولى.. هل اقتربت فرنسا والمملكة المتحدة من حافة الحرب الأهلية؟

منذ شهرين

12

طباعة

مشاركة

ركزت دراسات حديثة على الانقسامات المتزايدة داخل المجتمعات الغربية؛ حيث حذرت من خطر اندلاع حروب أهلية في الدول الأوروبية، لا سيما في فرنسا والمملكة المتحدة.

وفي هذا السياق، ناقش موقع "أتلانتيكو" الفرنسي مخرجات دراسة أستاذ الإستراتيجية العسكرية في كلية كينجز لندن، ديفيد بيتز، أشار فيها إلى أن حربا أهلية على الأبواب في فرنسا والمملكة المتحدة.

مخاوف واقعية

وفي هذا الصدد، يرى الخبير الاقتصادي والإنثروبولوجي، مدير الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، فيليب ديريبارن، أن التاريخ حافل بأمثلة على العيش المشترك بين شعوب لا تشعر بالانتماء القومي لبعضها بعضا، الأمر الذي آل إلى حروب أهلية.

وضرب مثلا بما حدث في الهند، حين أدى ذلك إلى تقسيم البلاد مع باكستان، وكذلك في سريلانكا حيث انتهى الأمر بسحق التاميل، ما خلّف مئات الآلاف من القتلى. 

وأضاف ديريبارن أن “فكرة الحرب الأهلية تبدو بعيدة عن فرنسا كتجربة؛ إذ لم تشهد البلاد وضعا مشابها منذ حروب فونديه”، مشيرا إلى أن "الكومونة لم تكن في الحقيقة حربا أهلية". 

لكنه شدّد على أن "هذا لا يعني زوال خطر الحرب الأهلية". 

وأكّد قائلا: "خلال أحداث يونيو/ حزيران 2023، بدت أعمال الشغب الحضرية أقرب إلى انتفاضات"، بل إن بعض المسؤولين المحليين -كما في ليموج وغيرها- تحدثوا عن مخاوفهم من نشوب حرب أهلية.

وأوضح الباحث الفرنسي أن "هذه المخاوف أصبحت أكثر واقعية مع وقوع أحداث غير مسبوقة". مشيرا إلى وجود مجموعات منظمة تنفذ أفعالا لا يمكن وصفها إلا بأنها "أعمال حرب".

وفي معرض تعليقه على دراسة بيتز، أكد  الباحث في قضايا الأمن الداخلي، أوريليان مارك، أن "ما يُقال عن الانقسامات التي تعصف بالمجتمعين البريطاني والفرنسي صحيح تماما". 

لكنه أعرب عن تحفظه إزاء بعض التفاصيل الاستشرافية، خاصة فيما يتعلق بالاحتمالات العددية التي أعلنها بيتز. مشيرا إلى أنه يود معرفة كيفية حسابها.

وأضاف أن تركيز بيتز على إنجلترا وفرنسا أمر متوقع، لكنه استغرب غياب بلجيكا عن تحليله.

وتساءل عما "إن كان هذا الغياب بسبب رؤية أكثر تفاؤلا، أم على العكس أكثر تشاؤما (بمعنى: لن ننتظر حربا أهلية؛ لأن العدو انتصر بالفعل)".

كما شدد على أن "خطر الحرب الأهلية في فرنسا أمر واقعي للغاية"، مذكرا بما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه عام 2022 في مناظرة مع اليمينية المتطرفة مارين لوبان، بأن فرض حظر على الحجاب في الفضاء العام سيؤدي إلى "حرب أهلية".

انفجار داخلي

من جانبه، قال أستاذ القانون الجنائي والعلوم السياسية، المحامي لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، جيرالد بانديلون: إن "بيتز يذكّر بحقيقة تاريخية تتجاهلها النخب، وهي أن الحضارات الكبرى لا تموت بسبب غزو خارجي، بل بالانفجار الداخلي". 

وضرب مثالا بروما التي لم تسقط عام 410 على يد القوط لقوتهم، بل لأن الإمبراطورية كانت منهارة داخليا بفعل انقسام النخب وفقدان الشرعية وانفصال الأقاليم. 

وأضاف أن الوضع نفسه يُرى اليوم في فرنسا وبريطانيا. 

واستشهد أيضا بسقوط بيزنطة عام 1453، وبحروب فرنسا الدينية (1562-1598)، وكذلك بانهيار يوغوسلافيا في التسعينيات.

وأوضح بانديلون أن "بيتز يسلط الضوء على عدة عوامل قائمة بالفعل: أولها انعدام الثقة بالمؤسسات (أقل من 10 بالمئة ثقة في الأحزاب بفرنسا، و27 بالمئة في البرلمان)".

وثانيها -حسب بانديلون- ما وصفه بـ"الانفصال الإقليمي"، (الضواحي الفرنسية، والجيوب المجتمعية في بريطانيا).

وثالثها "تصاعد العنف"؛ حيث أشار إلى وجود ألف هجوم بالسكين سنويا في بريطانيا، وكذلك ارتفاع العنف العشوائي في فرنسا بنسبة 53 بالمئة خلال عشر سنوات. 

وأكّد أن قوة مقاربة بيتز تكمن في وضوحها العسكري وربطها بالسياق التاريخي، بينما ضعفها قد يكمن في "إيمانه بوجود متسع من الوقت".

وشدّد على أنه "في كل مرة تنهار فيها الثقة السياسية، تفلت الأراضي من سيطرة الدولة، ويصبح العنف لغة، وتندلع حرب أهلية".

وفي هذا الصدد، تساءل موقع "أتلانتيكو": “هل يجب التركيز فقط على منع الصراعات الداخلية، أم استباق اندلاعها لنتمكن من مواجهتها بشكل أفضل؟ هل يكفي السعي لتجنب الحرب الأهلية، أم ينبغي الاستعداد لها؟”

وقال بانديلون: إن "الاكتفاء بالمنع يعد رفاهية للمجتمعات المزدهرة، ونحن لم نعد في هذه المرحلة". 

وخلص إلى القول: إن "التاريخ يعلّمنا أن الذين يريدون منع الأحداث دون استباقها يموتون مسحوقين بالعاصفة"، مشددا على أنه "من الملح والعاجل استباق اندلاعها؛ لأن كل المؤشرات تدل على قرب حدوثها". 

وأضاف: "أحداث الشغب في 2005 و2018 و2023 في فرنسا، وكذلك أحداث لندن 2011، ليست حوادث عابرة، بل هي الهزات الأولى لزلزال قادم".

أما فيليب ديريبان، فأشار إلى أن هناك بالفعل من يستعد لذلك.

وقال: إن القادة والسلطات يحاولون استباق مثل هذا السيناريو للأزمة، لكنهم لا يريدون الحديث عنه أو جعله قضية عامة. 

وأضاف أنه "توجد شائعات حول هذا الموضوع، وأن الصليب الأحمر يستعد لذلك، وهناك حديث عن تعزيز حماية الثكنات". 

وأكد أن "السلطات العامة ليست لديها الرغبة في وضع هذا الملف على الطاولة، فليس من المجدي الكشف عن خططها".

مرآة فارغة

وأكد بانديلون أن "فرنسا وبريطانيا ضعيفتان لأنهما لم تعودا تعرفان من هما ولا ما الذي تريدان حمايته". 

وشدد على أن "الغرب فقد قدرته على الرؤية"، وأن "الإنسان الحديث لم يعد ينظر إلى العالم، لكن تركيزه منصبّ على نفسه، يتأملها في مرآة فارغة مشبعة بالصور، لكنها خالية من المعنى".

ورأى أن هذا الحال يعد انتصارا للعدمية التي وصفها نيتشه بقوله: "مجتمع لم يعد يؤمن بشيء، ولم يعد يميز بين الحق والباطل، والعدو والصديق، والعدل والظلم".

ولفت بانديلون إلى أن "فرنسا اليوم تشبه (روما المحتضرة)، لا لأنها فقط مهددة بضغوط خارجية وانقسامات داخلية، بل لأنها (كفّت عن الإيمان بنفسها)". 

وأضاف أن "الحرب الأهلية المقبلة ليست فقط نتيجة للعنف في الشوارع أو الانقسام العرقي، بل نتيجة لانتحار ميتافيزيقي". 

وأكد بانديلون أن "فرنسا لن تواجه فقط أعداءها، بل ستواجه الفراغ الداخلي الذي حفرته نخبها خلال خمسين عاما". 

وشدد على أن "أي انتصار عسكري أو أمني سيكون وهميا ما لم يُملأ هذا الفراغ ويُعاد تأسيس الجمهورية على أساس (الذاكرة التاريخية والهوية)".

وختم بانديلون بعبارة: "الهمجية لا تظهر حين لا يملك الإنسان إرثا، بل حين يتخلى عنه".

من جهة أخرى، قال الباحث أوريليان مارك: إن "النظام الجمهوري لم يعد موجودا أصلا في كثير من مناطق البلاد". 

وأكد أن القضية لم تعد "الحفاظ عليه"، بل "إعادته". 

وأضاف مارك أنه "من المهم التذكير بأن الجمهورية ليست غاية في ذاتها، بل مجرد نظام سياسي، وأداة في خدمة الأمة". 

واستشهد بقول الجنرال شارل ديغول: "هناك أولا فرنسا، ثم الدولة، وأخيرا، طالما أن المصالح الكبرى لكليهما محفوظة، يأتي القانون".