ضغوط متصاعدة.. هل يقود الغموض النووي الإيراني إلى أزمة دولية جديدة؟

"الوضع الراهن يعكس مرحلة انتقالية هشّة تمهّد لأزمة أكبر"
تحول جذري أحدثته تداعيات المواجهات الأخيرة بين إيران وإسرائيل؛ حيث أدت إلى الحد من قدرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على متابعة البرنامج النووي لطهران.
ونشر مركز "إيرام" مقالا للكاتبة التركية أمينة غوزدة توبراك، قالت فيه إنه "منذ بدء القتال غادر المفتشون الدوليون البلاد لأسباب أمنية، ما أدى إلى انقطاع الرقابة عن منشآت محورية مثل فوردو ونطنز وأصفهان".
قلق متصاعد
في الوقت نفسه، واصلت طهران رفض طلبات التفتيش في هذه المواقع وفي مواقع أخرى حساسة، خصوصا في منطقة "جبل بيك-آكس"، التي تشهد منذ عام 2020 أعمال حفر وبناء تحت الأرض بوتيرة متسارعة بعد عودة العقوبات.
هذا التعليق الطويل للرقابة أثار قلقا متصاعدا في العواصم الغربية؛ إذ بدا أن إيران تستخدم "الظرف الأمني" ليس فقط لتقليص الوصول إلى منشآتها الرئيسة، بل أيضا لحجب الأنشطة الجارية في مواقع يزداد الاهتمام الدولي بها.
ومع استمرار إصرار طهران على أن هذه الإجراءات مجرد ردّ مؤقت على الوضع الأمني، تزايدت الأسئلة حول ما تحاول إيران تجنّب كشفه للوكالة.
واستدركت الكاتبة التركية قائلة: إن “الحالة الأكثر خطورة تتعلق بمصير 408 كلغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمئة، وهو مستوى قريب للغاية من التخصيب العسكري”.
وأكد تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي قدّمه مديرها رافاييل غروسي أن هذا المخزون لم يخضع للتحقق منذ خمسة أشهر، وأن الوكالة فقدت "استمرارية المعلومات" بشأنه، وهو وضع غير مسبوق لمواد بهذه الحساسية.
وأشارت تقديرات سبتمبر/ أيلول 2025 إلى أن المخزون يبلغ نحو 440.9 كلغ، أي ما يكفي في حال رفع التخصيب لإنتاج وقود يصلح لعشر قنابل نووية.
وتقول إيران: إن معظم هذا المخزون مدفون تحت أنقاض منشآت تعرضت لهجمات أميركية وإسرائيلية، بينما تفيد بيانات الوكالة بأن الجزء الأكبر منه ما يزال في مواقع معروفة مثل أصفهان وفوردو.
وبين هذين الموقفين، فقدت الوكالة القدرة على التحقق، ما يخلق فجوة معلوماتية تُعد الأخطر منذ بدء البرنامج النووي الإيراني، وفق الكاتبة غوزدة توبراك.

إنذار مبكر
وفي 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، اعتمد مجلس محافظي الوكالة مشروع قرار تقدمت به الولايات المتحدة والدول الأوروبية الثلاث، والذي يطالب إيران بالامتثال الكامل لقرارات مجلس الأمن والتعاون غير المشروط مع الوكالة واستئناف عمليات التحقق.
ورغم أن قرارات مماثلة صدرت سابقا، إلا أن القرار الحالي جاء محمّلا بدلالات جديدة؛ لأنه صدر بعد انهيار شبه كامل لآليات التفتيش.
وقالت غوزدة توبراك: إن "القرار يحذر من أن استمرار عدم القدرة على التحقق من مخزون اليورانيوم شديد التخصيب يمثل "مصدر قلق بالغ" للمعاهدة الدولية.
كما شدد على ضرورة أن تقدم إيران معلومات دقيقة ومحدّثة عن كمية المواد ومواقعها وصيغها الكيميائية ودرجة تخصيبها.
وتعبّر تصريحات غروسي عن انتقال الملف من النطاق الفني إلى السياسي.
وقال: إنه "لا يمكن لدولة طرف في معاهدة عدم الانتشار أن تتوقع معاملة خاصة بسبب الحرب". مؤكدا أنه قد يضطر إلى إعلان "فقدان كامل للرؤية" بشأن المواد النووية إن استمر الوضع هكذا.
ويُعد هذا الإعلان، في سياق الوكالة، نقطة الانهيار التي ستقود بشكل شبه حتمي إلى إحالة الملف إلى مجلس الأمن.
ورغم محاولة غروسي تأجيل التصعيد بالإعلان أن الإحالة ليست وشيكة، فإن أفق الحل الدبلوماسي يبدو مسدودا.
فالولايات المتحدة تطالب بوقف كامل وقابل للتحقق لعمليات التخصيب وفرض قيود على برنامج الصواريخ الباليستية، بينما تعدّ طهران ذلك خطوطاً حمراء وترفض حتى التفاوض المباشر.
حيث يؤكد المرشد الأعلى علي خامنئي أن عداء أميركا لإيران أمر ثابت، وأن واشنطن لن ترضى إلا باستسلام طهران، وهذا يجعل قدرة إيران على المناورة السياسية أو تقديم تنازلات شبه معدومة.
في المقابل، تنظر إسرائيل إلى الوضع بصفته فرصة خطيرة لإيران للقيام بـ"اختراق صامت" للعتبة النووية، مما يبرر زيادة الضغط الدبلوماسي وربما إعادة طرح الخيارات العسكرية.

نحو أزمة جديدة
وعلقت الكاتبة التركية بأن الوضع النووي الإيراني الراهن "لا يشكل توازنا مستقرا بقدر ما يعكس مرحلة انتقالية هشّة تمهّد لأزمة أكبر".
فعلى المستوى الفني تتوالى عناصر الضغط التي تعمّق حالة الغموض وتضعف قدرة المجتمع الدولي على تقييم البرنامج النووي الإيراني.
ويبرز في مقدمة هذه العناصر الغموض المتزايد حول مخزون اليورانيوم عالي التخصيب والذي يُفترض أنه تحت أنقاض المنشآت التي تعرضت لهجمات، في حين لا تتوافر أي وسيلة للتحقق من وجوده أو من حجم الأضرار التي لحقت به.
ويتزامن ذلك مع تأخير واضح ومنهجي في تقييم الأضرار داخل المنشآت المستهدفة، ما يعرقل قدرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على إعادة بناء الصورة الكاملة للتطورات.
ويضاف إلى ذلك استمرار أعمال البناء المتسارعة تحت الأرض في منشأة جبل بيك-آكس قرب نطنز، وهو ما يثير الشكوك حول نوايا طهران ويعمق المخاوف من احتمالات نقل أو حماية أنشطة حساسة بعيدا عن أعين الرقابة الدولية.
نتيجةً لهذه العوامل مجتمعة، تتسع فجوة "استمرارية المعلومات" التي تعتمد عليها الوكالة، فتغدو أي محاولة لتقدير الحجم الحقيقي للبرنامج النووي الإيراني عرضة للشك.
أما على المستوى السياسي، فتتزايد التوترات بطريقة تجعل المشهد أكثر هشاشة.
فهناك تقارير تفيد بأن قيادة الحرس الثوري تمارس ضغوطا لرفع مستوى الجاهزية النووية، في وقت تصعّد إسرائيل خطابها محذّرة من أن غياب التفتيش يمنح إيران فرصة لإعادة بناء قدراتها وتجاوز العتبة النووية بصمت.
في المقابل، يسعى اللوبي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة إلى إعادة تعزيز خطاب “التهديد النووي الإيراني”، خصوصا لدى إدارة الرئيس دونالد ترامب، وذلك بما يعيد إنتاج بيئة سياسية مهيأة للتصعيد.
وترى غوزدة توبراك أنه “رغم أن المواجهة الأخيرة قد تكون خففت قليلا من التوتر الظاهر، إلّا أنّها لم تمسّ جذور الأزمة الكامنة”.
واستطردت: “بل على العكس، فقد أدى غياب الرقابة وتزايد الضبابية إلى تراكم ضغوط جديدة بوتيرة متسارعة، وهو ما يعجّل من احتمال انفجار أزمة مقبلة في فترة أقصر بكثير مما استغرقته الأزمات النووية السابقة”.
ويعزز هذا السيناريو تراجع الردع الإيراني وازدياد استعداد القوى المناوئة لطهران للمخاطرة.
وهكذا يظهر أن الوضع النووي الإيراني اليوم" لا يحمل أي مؤشرات على حل مستدام أو مسار تفاوضي فعّال، بل يعلن بداية مرحلة أكثر تقلبا قد تكون لها انعكاسات بعيدة المدى على الأمن الإقليمي والدولي. وفق الكاتبة التركية، غوزدة توبراك.















