الشوادفي.. داعية مصري عابر للقارات يقضي بعملية اغتيال غامضة في الفلبين

عرف الشوادفي خلال سنوات إقامته في الفلبين بلقب معلم السلام
في حادثة تحمل ملامح الاغتيال الموجَّه أكثر من كونها جريمة جنائية عابرة، قُتل الداعية الإسلامي المصري الدكتور عبد الرحمن الشوادفي محمد الفكي في مدينة زامبوانغا جنوبي الفلبين.
وقد لقي الشوادفي مصرعه مساء 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 إثر تعرّضه لإطلاق نار مباشر نفّذه مسلح مجهول كان يستقل دراجة نارية. ووثّقت كاميرات المراقبة الهجوم بالكامل، ما أعاد إلى الواجهة سلسلة طويلة من عمليات استهداف الدعاة والقيادات الدينية الإسلامية في جنوب الفلبين.
وأثار الحادث موجة تساؤلات حول دوافع الجريمة وخلفياتها، خصوصا في ظل التشابكات المعقدة بين المشهدين الديني والسياسي في مناطق مورو المسلمة التي شهدت تاريخا ممتدا من التوتر والصراع.
وتبرز أهمية هذه الواقعة في أنها لم تستهدف شخصية دعوية محلية فحسب، بل نالت داعية مصرياً معروفاً بنشاطه الواسع في إقليم بانجسامورو ومدينة كوتاباتو، وبإسهاماته في التعليم والعمل الخيري. ويرى كثيرون أن هذه الأدوار كان لها أثر واضح في تعزيز الحضور الإسلامي المعاصر داخل مناطق مختلطة يشترك فيها المسلمون والمسيحيون والسكان الأصليون.

كيف وقع الاغتيال؟
تشير المعلومات الأولية الصادرة عن الشرطة الفلبينية إلى أن الشوادفي (47 عاما) كان يقود سيارة تويوتا إنوفا رمادية اللون برفقة شخص لم تُكشف هويته بعد، وذلك أثناء مروره بأحد الطرق الفرعية في حي لومبانغان بمدينة زامبوانغا.
وبحسب المحققين، اقترب منه مسلح يستقل دراجة نارية، ثم ترجل بخفة ودقة قبل أن يتقدّم مباشرة نحو باب السائق ويطلق عدة رصاصات أصابت رأس وصدر الشوادفي من مسافة قريبة. وبعد تنفيذ الهجوم، عاد المهاجم إلى دراجته النارية ولاذ بالفرار خلال ثوانٍ معدودة.
ووثّقت كاميرات المراقبة المحيطة مسار الهجوم بوضوح، وهو ما عدته السلطات دليلا حاسما قد يساعد في تتبع خط سير الجاني. وقال شهود محليون: إنهم سمعوا طلقات متتالية قبل أن يشاهدوا الدراجة تغادر بسرعة باتجاه أحد الأزقة الداخلية.
وبحسب صحيفة "ذا فلبين ستار"، كان الداعية في طريقه لتفقد أحد العقارات لحظة وقوع الهجوم. وسارعت فرق الطوارئ إلى نقله إلى أحد مستشفيات زامبوانغا، إلا أنه تُوفي فور وصوله متأثرًا بالنزيف الحاد الناتج عن إصاباته البالغة.
وتتعامل الشرطة مع الحادث منذ ساعاته الأولى بصفته عملية اغتيال مخططة، مشيرةً إلى أن طريقة التنفيذ الاحترافية تعكس وجود متابعة مسبقة لتحركات الشوادفي، واستغلال وقت ومكان يقل فيهما الحضور السكاني.
وعُرف الشوادفي خلال سنوات إقامته في جنوب الفلبين بلقب "معلم السلام"، نظرا لدوره البارز في مشاريع التقارب بين المسلمين والمسيحيين والسكان الأصليين، إلى جانب نشاطه الواسع في مجالي التعليم والعمل الخيري.
وكان يشغل منصب المدير الإداري لمدرسة "آسيا الأكاديمية" التي تستقبل مئات الأطفال من الأسر الفقيرة، كما أسس قبل عام مدرسة إسلامية صغيرة في قرية بورفايرز بمدينة كوتاباتو.
ووفق الباحث في شؤون المسلمين الجدد على عبد الرازق، لم يكن الشوادفي داعية تقليديا، بل شخصية ميدانية تعمل يومياً وسط القرى والأحياء الفقيرة، وتشارك في حملات الإغاثة وتوزيع المساعدات وتنظيم حلقات العلم والدروس للمسلمين الجدد.
وقد أكسبته هذه الأنشطة احتراماً واسعاً في الأوساط المحلية، ليس بين المسلمين فحسب، بل أيضاً في أوساط مسيحية ومسؤولين أهليين أشادوا بخطابه المعتدل وعمله الاجتماعي.
وقال مدير شرطة شبه جزيرة زامبوانغا، العميد إدوين كويلاتس: إن الشوادفي كان معروف الحضور في كوتاباتو وإقليم بانجسامورو. مؤكدا أنه "أسهم في مشاريع الحوار والعيش المشترك خلال السنوات الماضية".
استهداف الدعاة
لم تضع الأوساط الفلبينية حادثة اغتيال الشوادفي ضمن إطار الجرائم الجنائية العادية، بل ربطتها بسلسلة طويلة من عمليات استهداف الدعاة والعاملين في الحقل الدعوي الإسلامي، سواء في جنوب البلاد ذي الغالبية المسلمة أو في شمالها ذي الأغلبية المسيحية.
ومن أبرز هذه السوابق مقتل الداعية الإسلامي الفلبيني عبد الله بيدجيم في 6 ديسمبر/كانون الأول 2018 بمدينة باغيو شمال الفلبين. وقد اغتيل بيدجيم أمام معهد تعليمي إسلامي بعدما أطلق عليه مسلح ملثّم أربع رصاصات في الرأس والصدر.
وكان بيدجيم شخصية محورية في "مركز اكتشف الإسلام"، وأشرف على برامج أسهمت خلال سنوات قليلة في اعتناق أكثر من 770 شخصا للإسلام، وفق بيانات المركز. كما عمل إماما متطوعا في الأكاديمية العسكرية الفلبينية، وهي المؤسسة التي تخرّج معظم قيادات الجيش، ما منح حضوره رمزية إضافية داخل مجتمع يحمل حساسية دينية وسياسية ممتدة.
وفي عام 2016، تعرّض الداعية السعودي عائض القرني لإطلاق نار عقب محاضرة ألقاها في مدينة زامبوانغا، مما أدى إلى إصابته وإصابة عدد من مرافقيه. ولم تتبنَّ أي جهة مسؤولية الهجوم آنذاك، غير أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أدانه وعدّه "عملا إرهابيا"، مطالبا الحكومة بالكشف عن المتورطين.
وعلى امتداد عقود طويلة، شهدت مناطق مورو المسلمة موجات متكررة من استهداف الدعاة والأئمة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، على يد مليشيات مسيحية متطرفة، في سياق صراع دامٍ ضد الحركات الإسلامية التي كانت تقود جهود المقاومة في الجنوب.
وتعد مذبحة مسجد مانيلي عام 1971 واحدة من أكثر هذه الجرائم بشاعة؛ إذ قُتل خلالها نحو 70 مسلما، بينهم دعاة ومعلمون، على يد مليشيات مسيحية متطرفة، في واقعة عدها كثير من الباحثين جزءا من محاولات منظمة للحد من انتشار الإسلام في مناطق محددة.

ويقدّم مراقبون عدة تفسيرات لهذا النمط المتكرر من الاغتيالات، من بينها أنّ الفلبين كانت خلال العقدين الأخيرين من بين أعلى الدول نموا في أعداد المسلمين الجدد. وتشير مراكز إسلامية إلى أن المناطق المختلطة، خصوصا في لوزون والشمال ذي الأغلبية المسيحية، شهدت زيادة لافتة في إقبال السكان غير المسلمين على اعتناق الإسلام.
ويبلغ عدد المسلمين في الفلبين نحو 5.1 ملايين نسمة، أي ما يعادل حوالي 6% من إجمالي السكان. ويتركز معظمهم في جنوب البلاد، في مناطق مثل مينداناو وأرخبيل سولو وبالاوان، وهي المنطقة المعروفة باسم بانجسامورو أو "منطقة مورو".
ويرى بعض الباحثين أن الدعاة الذين يحققون حضوراً واسعاً في هذه المناطق يصبحون أهدافاً محتملة، سواء لجهات متطرفة أو لأطراف تخشى تنامي النفوذ الديني الإسلامي، خاصة في المناطق التي تشهد تحولات اجتماعية ودينية متسارعة.
ويُضاف إلى ذلك أن مسلمي الفلبين تعرّضوا خلال القرن الماضي لتمييز واسع النطاق، بدءاً من مرحلة الاستعمار الأميركي وصولاً إلى حكومات ما بعد الاستقلال. فعلى الرغم من توقيع اتفاق طرابلس عام 1976 الذي نصّ على منح حكم ذاتي لمناطق مورو، فإن حكومات متعاقبة – وعلى رأسها حكومة فرديناند ماركوس – لم تلتزم بتنفيذ الاتفاق، ما أسهم في تدهور الأوضاع واندلاع مواجهات مسلحة استمرت عقوداً.
ومن أبرز الميليشيات التي استهدفت المسلمين جماعة "إلاجا" المتطرفة التي تُتَّهم بارتكاب جرائم واسعة ضد المسلمين، شملت حرق منازلهم ومساجدهم ومدارسهم، وتهجير آلاف العائلات. ولا يزال نفوذ بعض عناصرها قائما في مناطق محددة حتى اليوم.

اغتيال موجّه
وقال الدكتور محمد أبو زيد الأستاذ بجامعة الأزهر لـ"الاستقلال": إن مقتل الداعية المصري عبد الرحمن الشوادفي في الفلبين "يبدو أقرب إلى الاغتيال الموجَّه المرتبط بنشاطه الدعوي والاجتماعي، منه إلى كونه جريمة جنائية عابرة".
وأضاف: "الشوادفي استُهدف بشكل واضح بسبب نشاطه، وطبيعة عمله، وحضوره المتزايد في مناطق مختلطة دينياً؛ ومن الصعب فصل الجريمة عن سياق جهوده الدعوية والاجتماعية".
وتابع: "نحن أمام شخصية تركت أثراً ملموساً وسط المسلمين الجدد، وخصوصاً الشباب، وكذلك بين شرائح مسيحية رأت فيه نموذجاً للأخلاق والإنسانية. وهذا عامل شديد الحساسية في بلد يشهد تنافساً حاداً على الخطاب الديني والتأثير المجتمعي".
وأوضح أبو زيد أن الحادث "يكشف عن مجموعة من التحديات الخطيرة"، أبرزها تصاعد المخاطر الأمنية على الدعاة المحليين والأجانب في مناطق محددة من الفلبين، مضيفاً: "العمل الدعوي هناك أصبح محفوفاً بالمخاطر إلى درجة قد تدفع كثيراً من المؤسسات الإسلامية إلى إعادة النظر في إرسال مبعوثيها أو دعم مشاريع ميدانية جديدة".
وأضاف: "حين يتكرر استهداف دعاة ذوي حضور مجتمعي واسع، فإن الرسالة التي تصل للعاملين في المجال الدعوي هي أن الثمن قد يكون حياتهم".
وأشار إلى أن "اللافت أن الدعاة الذين يُستهدفون عادة هم الأكثر التصاقاً بالناس، والأكثر حضورا في التعليم والإغاثة والعمل الخيري". وشدَّد قائلاً: "غياب هؤلاء لا يعني فقدان خطيب أو محاضر فحسب، بل يعني فراغاً كبيراً في أحياء وقرى تعتمد عليهم في التعليم، وحل المشكلات، وإيصال المساعدات، واحتضان المسلمين الجدد. الفقراء هم أول من يدفع هذا الثمن".
وأكد أبو زيد أن هذه الاغتيالات تضع الحكومة الفلبينية أمام اختبار حقيقي، مضيفا: "العالم الإسلامي يراقب كيف ستتعامل السلطات مع هذه الجرائم: هل ستكشف خيوطها وتوفر حماية أفضل للعاملين في المجال الإسلامي؟ أم ستترسخ صورة الفلبين كمنطقة غير آمنة لدى المؤسسات والشخصيات الدعوية؟".
وختم تصريحه بالقول: "اغتيال عبد الرحمن الشوادفي يتجاوز كونه جريمة ضد شخص بعينه، فهو يعكس واقعا معقدا في الفلبين، حيث يتداخل الصراع الديني مع سياسات الدولة داخل شبكة معقدة من التفاعلات".













