كردستان العراق يتحول إلى "مثلث برمودا" بين أميركا وإيران.. ما القصة؟

منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

يوصف نفط إقليم كردستان شمال العراق بأنه "مثلث برمودا في السياسة الأميركية" بالمنطقة، بحسب مجلة “ريسبونسبل ستيتكرافت”، إضافة إلى احتمالية قيام حرب بسبب تضارب المصالح التي تتنافس عليه.

وفي مايو/أيار 2025، أعلن وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، أن وجود إقليم كردستان قوي ضمن عراق فيدرالي يُعد "عنصرا أساسيا وإستراتيجيا" في السياسة الأميركية. وبعد شهرين، أشعل الإقليم فتيل الأزمة.

وتصاعدت حملة متواصلة من هجمات الطائرات المسيرة التي تستهدف البنية التحتية العسكرية والمدنية والطاقة في كردستان العراق بشكل كبير في يوليو/تموز، حيث ضرب سرب من الطائرات المسيرة الإيرانية الصنع حقول نفط تديرها شركات أميركية ونرويجية.

وكانت الضربات السابقة قد ركزت على أهداف مثل مطار أربيل الدولي ومقر القوة السبعين لقوات البيشمركة في السليمانية.

وأدت الهجمات إلى خفض إنتاج النفط الإقليمي من مستوى ما قبل الهجوم، والذي بلغ حوالي 280 ألف برميل يوميا، إلى 80 ألف برميل فقط.

أزمة متصاعدة

وأوضحت المجلة الأميركية، في تقرير لها، أن وصول مستشار الأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي إلى أربيل جسّد التناقض الجوهري في هذه الأزمة.

فقد كانت مهمته قيادة تحقيق في هجوم كانت حكومة إقليم كردستان قد ألقت باللوم فيه علنا على جماعات مسلّحة مدمجة ضمن قوات الحشد الشعبي، وهي مكونات تنتمي إلى حكومته نفسها.

وقبل أسابيع، تجاوز مدير مكتب رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان، عزيز أحمد، القنوات الدبلوماسية ليتهم "المليشيات الإجرامية التي تتقاضى رواتبها من الحكومة العراقية" بتنفيذ الهجمات المدمرة بالطائرات المسيّرة.

ولم ينشأ هذا النظام القائم على زعزعة الاستقرار برعاية الدولة بين عشية وضحاها، فله جذورٌ تمتد عميقا في الشقوق التي فتحتها الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والذي حطم دولة البعث وخلق فراغا في السلطة سارعت إيران -التي تتشارك حدودا بطول 1400 كيلومتر مع العراق- إلى ملئه.

حيث رعت طهران مليشيات وكيلة، أصبحت اليوم مدمجة ضمن البُنى السياسية العراقية، بما في ذلك قوات الحشد الشعبي.

ومن أبرز هذه الفصائل المتشددة منظمة بدر التي تأسست في المنفى داخل إيران خلال حكم صدام حسين واكتسبت خبرة قتالية عالية، بعد أن قاتلت إلى جانب القوات الإيرانية في الحرب العراقية-الإيرانية.

ومنها أيضا جماعة عصائب أهل الحق، التي تُصنَّف كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة، والمسؤولة عن آلاف الهجمات ضد القوات الأميركية.

هذه الجماعات تُعد الآن جزءا أساسيا من الإطار التنسيقي الحاكم الذي يدعم رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني. ومع ذلك، فإنها متَّهمة في الوقت ذاته من قِبل مسؤولين أكراد وبعض المشرعين الأميركيين بالضلوع في الهجمات الأخيرة على حكومة إقليم كردستان الحليفة للولايات المتحدة.

وقد جاءت ضربات الطائرات المسيّرة في تموز/يوليو 2025 مباشرة بعد اتفاق في اللحظات الأخيرة بين أربيل وبغداد.

وتنص بنود الاتفاق على أن تسلّم حكومة إقليم كردستان كامل إنتاجها النفطي اليومي إلى مؤسسة تسويق النفط العراقية (سومو).

صفقة يائسة

وفي المقابل، أوفت الحكومة الاتحادية العراقية بوعدها بصرف رواتب شهر أيار/مايو، وهو شريان حياة حيوي طال انتظاره لمليون ومئتي ألف موظف كردي في القطاع العام لم يتقاضوا رواتبهم منذ شهور.

وقال التقرير: "كانت هذه الصفقة اليائسة نتيجة مباشرة لإغلاق خط أنابيب العراق–تركيا في آذار/مارس 2023، وهو المسار الوحيد لتصدير نفط إقليم كردستان".

وقد تسبّب في هذا الإغلاق حكم تحكيم دولي فرض غرامة على تركيا قدرها 1.5 مليار دولار بسبب تسهيلها مبيعات نفط الإقليم دون موافقة الحكومة العراقية منذ عام 2014.

وأدى إغلاق خط الأنابيب على الفور إلى قطع مصدر الدخل المستقل لحكومة إقليم كردستان، مما أجبرها على الاعتماد الكلي على الأموال الاتحادية القادمة من بغداد.

ورغم أن الفصائل التابعة للحشد الشعبي والمرتبطة بإيران نفت علنا ضلوعها في هجمات الطائرات المسيّرة في تموز/يوليو، إلا أن رجل الدولة الكردي المخضرم، هوشيار زيباري، وجّه اتهامات إلى "الفصائل الولائية".

وهو مصطلح يُستخدم تحديدا للدلالة على أن ولاء هذه الجماعات النهائي هو للمرشد الأعلى الإيراني، وليس للدولة العراقية.

ويُعزز هذا الاستنتاج خطاب بعض فصائل الحشد الشعبي، التي دأبت على تصوير الحكم الذاتي الكردي على أنه مؤامرة مدعومة من الخارج.

فبينما كانت حمولة الطائرات المسيّرة تضرب حقول النفط الكردية، نشر أبو علي العسكري، القيادي في كتائب حزب الله -إحدى أقوى فصائل الحشد- عبر منصة تليغرام، اتهامات لقوات البيشمركة بالحفاظ على علاقات مع "الكيان الصهيوني".

هذه العداوة الصريحة -بحسب التقرير- تغذّي التكهنات بأن الفصائل هي من نفّذت الهجمات، في حين يرى محللون أن نفيها العلني لاحقا ليس إلا مناورة تكتيكية لتفادي رد أميركي مباشر.

وقال التقرير: "بالنسبة لقوات الحشد الشعبي، يُعدّ ضعف كردستان الدائم ضرورة إستراتيجية، لأن استقلال الأكراد، في رؤيتهم للعالم، يعني وجود عسكري وتجاري أميركي معادٍ، وهو تصورٌ يعلنونه دون مواربة".

ففي خضم استفتاء الاستقلال عام 2017، صرّح جعفر الحسيني، المتحدث باسم كتائب حزب الله، بوضوح، قائلا إن "(رئيس إقليم كردستان العراق مسعود) بارزاني يمارس الخيانة العظمى والدكتاتورية على الشعب الكردي… الأميركيين والعدو الصهيوني يقفون خلف مشروع انفصال إقليم كردستان".

وأشار التقرير إلى أن هذا الاعتقاد الراسخ تعزز بشكل أكبر في الأشهر التي سبقت الهجمات، حين وقّع بارزاني، صفقات طاقة جديدة بمليارات الدولارات مع شركات أميركية، مما أكد عمليا رواية الحشد الشعبي، وربط اقتصاد الإقليم بالغرب بشكل أوضح.

ثلاثة فخاخ

وعلاوة على الأزمة الفورية داخل العراق، فإن سياسة واشنطن تجاه كردستان العراق عالقة في فخ إستراتيجي، تحدده ثلاثة فخاخ مترابطة، وفق التقرير.

الأول هو فخ الحكم الذاتي، النابع من حاجة واشنطن الماسة إلى كردستان مستقرة وموالية للغرب، ليس فقط كمنصة استخباراتية، بل كأداة رئيسية لتحقيق هدف إستراتيجي أميركي رئيس وهو مواجهة النفوذ الإيراني.

وقد كان هذا الموضوع محوريا في الاتصال الهاتفي الذي جرى في فبراير/شباط بين روبيو والسوداني، حيث رُبط صراحة مشروع "استقلال العراق في مجال الطاقة" -المعتمد على احتياطات الغاز في الإقليم- بهدف "تقليص النفوذ الإيراني الخبيث".

لكن من ناحية أخرى، فإن تمكين إقليم كردستان من لعب هذا الدور الاقتصادي، بسرعة وفاعلية، يثير مباشرةً مخاوف من أن كردستان، إذا أصبحت ذات سيادة وقوة عسكرية مكتفية، قد تُجدد سعيها للاستقلال.

وهذا هو الفخ الثاني الذي قد يمزق وحدة العراق ويزعزع استقرار سوريا المجاورة، حيث تعمل الولايات المتحدة في الوقت ذاته على دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن الجيش السوري.

وأكد التقرير أي تحوّل في إقليم كردستان نحو مزيد من القوة والاستقلال قد يُشعل ردّ فعل عنيف من تركيا، الحليف في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث يخوض "حزب العمال الكردستاني" مرحلة حساسة من نزع السلاح بعد عقود من الصراع المسلح مع الحكومات التركية المتعاقبة من أجل دولة كردية مستقلة.

وهذا ما يجعل "فخ الحكم الذاتي" يقود مباشرةً إلى "مفارقة الدفاع". فالخشية من تشجيع تطلعات الاستقلال تدفع واشنطن إلى التردد في تزويد الإقليم بمنظومات دفاع جوي متقدمة، رغم المناشدات العلنية المباشرة من قادة الإقليم.

ومع ذلك، فإن تزويد واشنطن لإقليم كردستان بهذه القدرات الدفاعية ستفسّره بغداد على أنه تسليح لكيان دون الدولة في مواجهة الحكومة المركزية، ولهذا فإن المساعدات العسكرية الأميركية إلى الإقليم تأتي محدودة ومقصودة بهذا الشكل، وفق التقرير.

أما الفخ الثالث، فتحت سطح الأزمة الحالية، تلوح معركة أطول أمدا حول الطاقة، إذ إن إقليم كردستان يملك احتياطات ضخمة وغير مستغلة من الغاز الطبيعي، تمثل مطمعا لشركات أميركية تعمل وفق عقود موقعة مع حكومة الإقليم.

لكن كل برميل نفط يُنتج خارج رقابة المركز يُنظر إليه من قبل بغداد كتهديد مباشر لسلطتها، وقد سارعت وزارة النفط العراقية إلى تقدير سلسلة من صفقات النفط والغاز التي أبرمها الإقليم بشكل منفرد مع شركات أميركية بمثابة "انتهاكات صارخة" للقانون العراقي.

ويضع هذا الصراع السوداني في قلب العاصفة -وفق التقرير- فبقاؤه السياسي مرهون بالائتلاف الشيعي الحاكم الذي يضم بعض الجماعات المسلحة ذاتها التي يُعتقد أنها دبرت الهجمات.

ومع ذلك، فإن قدرة حكومته على العمل تعتمد كليا على الولايات المتحدة، إذ لا تزال عائدات النفط العراقي تتدفق إلى حساب في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك.

وأوضح التقرير أن مطالب "روبيو" تضمنت محاسبة المعتدين وضمان انتظام دفع رواتب حكومة إقليم كردستان، بالإضافة إلى استئناف صادرات النفط عبر تركيا. لكن الأهم من ذلك كان حظر التشريعات المعلقة التي من شأنها أن تُرسّخ رسميا قوات الحشد الشعبي وترسخ "النفوذ الإيراني".

هذه المطالب لم تكن مجرد تذكير بالتبعية السياسية، بل شكّلت مجموعة شروط من المستحيل على رئيس الوزراء السوداني الوفاء بها، نظرا للتعقيدات السياسية والضغوط الإقليمية التي يواجهها، وفق التقرير.

وقال: "هذا الجمود يعكس بشكل واضح التناقضات العميقة والتي لا يمكن التوفيق بينها في سياسة الولايات المتحدة تجاه العراق خلال العقدين الماضيين".

وختم بالتأكيد على أن هذا المسار أدى إلى إنشاء نظام من الجمود الدائم، حيث لا يستطيع أي طرف منفرد -سواء بغداد أو أربيل أو الفاعلون المرتبطون بإيران أو الولايات المتحدة- تحقيق انتصار حاسم.