خالف دستوره ولائحة الأزهر.. لماذا احتكر السيسي تعيين مفتي مصر؟

محمد السهيلي | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، شعار الثورة الفرنسية (1789 –1799)، الذي يعبر اليوم عن مشاعر مصريين رافضين لدور مفتي الديار المصرية شوقي علام في خدمة أغراض النظام الحاكم.

علام، وطوال 8 سنوات قدم فتاوى وصفت بالمسيسة، وصدق على نحو 1100 حكما بالإعدام بحق معارضين أغلبهم إسلاميون -وفق منظمة هيومن رايتس ووتش- ما دفع رأس النظام عبدالفتاح السيسي للتمسك به رغم انتهاء مدته القانونية.

وقرر السيسي في 12 أغسطس/آب 2021، مد خدمة علام مفتي الجمهورية لمدة عام، ليكون أول مفت بتاريخ مصر يصدر بحقه قرار جمهوري بمد خدمته بعد السن القانوني.

وفي أول رد فعل له قال علام: "هذا الدعم الكبير من سيادته يمثل حافزا كبيرا وفرصة عظيمة لخدمة الوطن، والعمل على استكمال مسيرتنا في تجديد الخطاب الإفتائي، وتحقيق الريادة الإفتائية".

مخالفة صريحة

وفي مخالفة صريحة لمواد في الدستور وقانون الخدمة المدنية ولائحة "هيئة كبار العلماء" بالأزهر بشأن اختيار منصب المفتي؛ أصدر السيسي قبلها بيوم، قرارا جمهوريا باعتبار دار الإفتاء "جهة ذات طبيعة خاصة".

أكد في قراره أن الوظائف القيادية والإشرافية بدار الإفتاء لا يسري عليها أحكام المادتين (17 و20) من قانون الخدمة المدنية، لتلحق الدار بمؤسستي الرئاسة والوزراء اللتين جرى استثناؤهما أيضا في 12 يناير/ كانون الثاني 2017.

المادة 17، من قانون الخدمة المدنية تنص على طريقة التعيين في الوظائف القيادية والإدارة الإشرافية، وتختص المادة 20، بطريق إنهاء عمل أصحاب تلك الوظائف.

لكن الأمر لا يخلو من إثارة التساؤلات بشأن انعكاسات القرار على منصب المفتي مستقبلا، ومدى انفصاله عن الأزهر وهيئة كبار العلماء صاحبة الحق في اختياره قانونا، وكذلك ارتباط تعيين المفتي باختيارات أمنية وسياسية وفكرية توافق النظام.

الكاتب العلماني المصري خالد منتصر كان من أهم مؤيدي قرار السيسي معبرا عن سعادته بتعيينه للمفتي بعيدا عن الأزهر، واصفا القرار عبر "تويتر" بأن "له دلالة ومغزى"، متسائلا: "هل هكذا أفلتت دار الإفتاء من سطوة الأزهر؟".

مراقبون ومتحدثون رأوا في حديث لـ"الاستقلال"، أن قرار السيسي باستثناء المفتي من قانون الخدمة المدنية يأتي في ظل سعيه للسيطرة على المؤسسة الدينية بشكل عام، وتقليص دور الأزهر ونفوذه وفصل الدار والفتوى تماما عن المشيخة.

وأكدوا أنه بموجب القرار يصبح اختيار المفتي اختصاصا مباشرا للسيسي ينهي دور هيئة كبار علماء الأزهر في اختيار المفتي من بين ثلاثة كان يجري ترشيحهم داخلها.

ويعتقدون أن فيه تحديا للأزهر، الذي صدقت هيئة كبار علمائه في 24 فبراير/ شباط 2021 على الاقتراع السري الخاص بانتخاب منصب المفتي قبل انتهاء مدته الثانية في نفس الشهر والعام؛ لكن لم يدخل الاختيار حيز التنفيذ.

لطالما حاول النظام السيطرة على المؤسسات الدينية بتمرير قوانين عبر البرلمان، مثل "تنظيم دار الإفتاء"، و"بيت الزكاة والصدقات"، و"إعادة تنظيم هيئة الأوقاف"، و"تنظيم الفتوى العامة"، و"إنشاء صندوق الوقف الخيري".

لكن أكثرها إثارة للجدل كان "قانون دار الإفتاء" الذي ناقشه البرلمان في أغسطس/آب 2020، وقوبل باعتراض الأزهر كون مواده تمس استقلال المشيخة وهيئاتها، كما رفضه "مجلس الدولة" لمخالفته الدستور.

مشروع القانون كان يمنح السيسي سلطة اختيار المفتي على غرار ما منحته التعديلات الدستورية الشهيرة في 2019 سلطة اختيار رؤساء الهيئات القضائية والنائب العام، وهو ما حصل عليه بقراره الأخير.

الفتاوى الجدلية

دار الإفتاء المصرية أنشئت عام 1895، كهيئة مستقلة ماليا وإداريا وملحقة بوزارة العدل. ووفق بسطاء المصريين يقتصر دور المفتي على الإعلان عن هلال رمضان والعيدين؛ ويجهل البعض دوره في إقرار أحكام الإعدام.

ولذا فإن علام، المفتي رقم 19 في مصر والذي تولى المنصب بانتخاب هيئة كبار العلماء له 11 فبراير/شباط 2013، خلفا للمفتي السابق علي جمعة.

يطلق عليه معارضون لقب مفتي "الدم" و"الإعدامات".

وفي فبراير/ شباط 2020، أكد المركز المصري للإعلام أن القضاء المصري أحال 2400 معارضا محكوما بالإعدام للمفتي، جرى الحكم بالإعدام فعليا على 1103 منهم.

ومع انقلابه منتصف 2013 أقر السيسي بوجود علام على رأس الإفتاء، وجدد تعيينه بعد انتهاء فترته الأولى عام 2017، ليجدد له ثانية لمدة خمسة أشهر في 22 فبراير/ شباط 2021.

لطالما أثارت فتاوى علام الجدل بداية من تأييده تظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013 ضد الرئيس الراحل محمد مرسي، ثم رفضه التظاهر ضد السيسي في سبتمبر/ أيلول 2019.

علام وصف أيضا ما حدث في 30 يونيو/حزيران، و3 يوليو/ تموز 2013، بـ"معجزة نبوية ظاهرة كشف النبي عنها".

في سبتمبر/ أيلول 2020، اعترف بأنه أفتى بجواز هدم 30 مسجدا بشاطئ ترعة المحمودية -أحد الترع النيلية شمال غرب مصر- بحجة أنها أرض مغتصبة، مؤكدا أن من يصلي بها آثم.

مع قرارات السيسي بهدم آلاف المنازل لمخالفتها تصاريح البناء صيف 2020، أفتى بأن مقاومة الجهات المعنية بالهدم: "إرجاف واعتداء وتفويت للمصلحة العامة".

مسلموا أوروبا الذين يواجهون قيودا على العبادة وتصاعدا لظاهرة الإسلاموفوبيا لم يسلموا من علام الذي اتهم أبناءهم بالانتماء لـ"تنظيم الدولة".

وزعم عبر فضائية مصرية، 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، أن دراسة أجريت عام 2016 أثبتت أن أعداد عناصر تنظيم الدولة من المسلمين في أوروبا تتزايد، و50 بالمئة من أبناء الجيلين الثاني والثالث من المسلمين هناك أعضاء بالتنظيم.

في ظل علاقات مصرية تركية سيئة، أفتت الدار في فبراير/شباط 2020، بتحريم مشاهدة المسلسلات التركية مثل "قيامة أرطغرل" و"وادي الذئاب".

وفي 7 يوليو/ تموز 2020, زعمت بأن الفتح العثماني للقسطنطينية احتلال، قبل أن تتراجع وتصفه بـ"فتح إسلامي عظيم".

انقلاب على الأزهر

المحامي والبرلماني المصري السابق ممدوح إسماعيل يقول: إن "السيسي بقرار اعتبار دار الافتاء ذات طبيعة خاصة واستثنائها من مواد قانون الخدمة المدنية؛ يطيح كعادته بكل ما أمامه من دستور وقوانين".

ويضيف لـ"الاستقلال": "تماما كما انقلب على حكم الرئيس مرسي، والدستور المصري، والقانون العسكري، وعلى شريكه في الانقلاب صدقي صبحي فأقاله رغم تحصين منصبه بالدستور".

إسماعيل يؤكد أن السيسي "بهذا ينقلب على لائحة (هيئة كبار العلماء)، الخالية من أية بنود يمكن بها المد للمفتي"، مشيرا إلى البنود الأربعة التي تنص عليها لائحة اختيار المفتي، والتي خالفها رئيس النظام.

ويجزم بأن "قرار السيسي يشبه قانون تنظيم دار الإفتاء، الذي اعترض عليه الأزهر لمخالفة مواده للدستور والمساس باستقلالية الأزهر والهيئات التابعة له".

"السيسي استخدم شوقي علام كغطاء ديني على ظلمه واستبداده وسفكه للدماء المعصومة، ولذا جعله المرجعية الأعلى للفتوى متجاوزا دور الأزهر"، وفق قول المحامي المصري.

ويبين أنه "لذلك فإن اثنين فقط صاحبا السيسي منذ الانقلاب حتى الآن ولم يتغير موقعهما بجانبه هما المفتي علام ووزير الأوقاف مختار جمعة، لولائهما وتبعيتهما التي تجاوزت كل المبادئ وأذهلت كل المتابعين".

السياسي المصري يؤكد أن "تفريط السيسي في علام كان أمرا صعبا عليه، ولذا صنع له قرارا بقانون يخالف الدستور، وقانون الخدمة، ولائحة هيئة كبار العلماء".

من جانبه يرى إمام "مسجد الهدى" بمدينة مينابولس بأميركا الشيخ شعبان أبو بدرية، أن "قرارات السيسي تدخل في إطار تكوين الدولة العميقة لدولة العسكر عموما، وبها يريد صنع دولته التي تدين له بالولاء".

ويضيف لـ"الاستقلال": "دولة السيسي داخل الدولة العميقة تسعى لتمسك بزمام الأمور بإحكام شديد، في صراع أجنحة ربما تعجل بهدم النظام وتفكيكه داخليا".

"وعن تغيير السيسي القوانين وتصادم هذه التغييرات مع ما سبق وأقره البرلمان؛ فهذا ليس بغريب على الأنظمة الشمولية ولا السيسي، فهو لا يؤمن بجدوى هذه المجالس، ولا قيمتها"، وفق قول الشيخ.

ويؤكد أن "ثقته تكمن فقط في العسكر؛ ولعل حديثه عن تعيين ضابط جيش لكل قرية يؤكد هذا المعنى، إذ إنه على وعي كامل بفساد أجهزة الدولة الأمنية والقضائية وأجهزة الحكم المحلي".

الداعية الإسلامي يضيف: "شوقي علام صاحب الطوام في فتاويه وتوقيعه على أحكام الإعدام بقضايا مسيسة واضحة الكيد؛ جمع بين الجهل بطبيعة منصبه وبأحكام الواقع، وقبل أن يوجهه مخبر بالأمن الوطني".

ويتساءل الشيخ: "ولماذا يغير السيسي رجلا كان أطوع له من بنانه، وقام بإضفاء شرعية دينية وقانونية على أحكام ظالمة (الإعدام) يقر العالم كله بظلمها؟".

أبو بدرية يربط بين "قرار السيسي ومحاولة التخلص من شيخ الأزهر أحمد الطيب لما أبداه من مقاومة لبعض رغباته بقضايا الطلاق الشفهي، وتكفير جماعة الإخوان، وتجديد الخطاب الديني، وغيرها".

ويرى أنه "ومنذ اختيار المفتي سيد طنطاوي بعهد (رئيس النظام الأسبق) حسني مبارك ومخالفته فتاوى المجامع الفقهية بإباحة فوائد البنوك؛ والنظام يبحث عن شخصيات ضعيفة تستجيب لرغباته وتضفي مشروعية عليها رغم مخالفتها الشرع".

"هذا في رأيي استجابة للهجمة العالمية على الإسلام وإحلال القيم العلمانية مكانه، وتمرير هذه التوجيهات دون صدام مع رجال الدين الرسميين كشيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء"، يعتقد أبو بدرية.

ويتابع: "لعل ما حدث للشيخين السلفيين محمد حسين يعقوب ومحمد حسان أمام محكمة مصرية (استجواب على جرم ومعتقدات آخرين) كان لتخويف كل الدعاة، وتهديدا صريحا لمن يقف أمام توجهات الدولة العسكرية، وتقليصا لدور الإسلام فى حياة الناس".

لهذا لا يستبعد الداعية الإسلامي أن يكون "قرار السيسي بشأن دار الإفتاء وغيره من القوانين بهدف تحقيق ما سبق"، متوقعا أن "تشهد الساحة تغييرا بالمناصب الدينية لتناسب المرحلة الجديدة للعسكر وتفريغ المجتمع من محتواه الإسلامي".

ويعتقد أن المرحلة المقبلة "ستشهد تكريس الخطاب الوطني الانفصالي عن الأمة الإسلامية والعربية والانكفاء على الذات، وتجفيف منابع الإسلام الصحيح، والإبقاء على صور التدين المريح، مثل التصوف، وسلفية حزب النور".