لوموند: مصرف لبنان "دولة داخل الدولة" لا يمكن المساس به

12

طباعة

مشاركة

قالت صحيفة لوموند الفرنسية: إن البنك المركزي اللبناني، قد يكون متورطا في "هندسة مالية" معينة دفعت إلى التهرب من التدقيق في حساباته وممارساته، مقابل استفادة النخبة في دولة الأرز من تلك السياسية.

وأوضحت الصحيفة في تقرير لها أن رئيس الجمهورية ميشال عون قد جعل من هذا الأمر شأنا شخصيا، تسانده في ذلك حكومة حسان دياب، التي أطلقت رغم استقالتها منذ الانفجار الذي وقع في ميناء بيروت في 4 أغسطس/آب 2020.

وفي واحدة من هذه الاختلالات المؤسسية التي يختص بها بلد الأرز والتي تعد خطرا محدقا به، يعتبر التدقيق الجنائي لمصرف لبنان (البنك المركزي للبلاد)، عنصرا أساسيا في الإنقاذ الاقتصادي للبلد، تقول الصحيفة.

وسلم مجلس الوزراء المكلف في 20 نوفمبر/تشرين الثاني زمام الأمور للشركة الأميركية "ألفاريز ومارسال"، بعد أن رفض مصرف لبنان فتح حساباته، بحجة السرية المصرفية.  

تقول الصحيفة: إن مدير مصرف لبنان، رياض سلامة الذي لا يمكن عزله بعد بقائه في منصبه لمدة سبعة وعشرين عاما، يقاوم هذه العملية التي تهدف إلى تسليط الضوء على إفلاس القطاع المصرفي في البلاد، والذي تقدر خسائره بنحو 68 مليار دولار.

تصف وزيرة العدل ماري كلود نجم التي تواصل التعامل مع الأمور الجارية شأن باقي الوزراء الأمر بقولها: "إنها صفعة على وجه الدولة اللبنانية"، في الوقت الذي عُين فيه سعد الحريري مجددا لتشكيل الحكومة.

تتابع ماري كلود نجم قولها: إن "مصرف لبنان قد تطور إلى دولة داخل دولة ترفض الخضوع للمساءلة"، مضيفة أن ذلك يرسل إشارة سيئة للغاية، وهي أنها مؤسسة لديها ما تخفيه. ومع ذلك، كما تذكر لوموند، فإن القول بأن هناك حالة طارئة في لبنان ليس أمرا هينا.  

وأوضحت أن أزمة السيولة، التي اندلعت في أواخر صيف 2019، قد أدت إلى انهيار العملة الوطنية وارتفاع حاد في أسعار السلع الأساسية، مشيرة إلى ارتفاع نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر من 30٪ عام 2019 إلى 55٪ اليوم.

ممارسات غير تقليدية

وترفض الدول الغربية والعربية، التي استمرت في إنقاذ لبنان على مدار العشرين عاما الماضية، إخراج دفاتر الشيكات الخاصة بها إلى أن توقع البلاد اتفاقية مع صندوق النقد الدولي.

وتشير الصحيفة إلى أن الصندوق الذي تفاوضت معه الحكومة دون جدوى في الربيع، يطلب جملة من الإصلاحات، بما في ذلك مراجعة حسابات مصرف لبنان.

هذا الإصلاح ينقسم بحسب الصحيفة، إلى ثلاثة أجزاء: جزء مُحاسبي بحت، يُعهد به إلى شركة  الخدمات المهنية كي بي إم جي، ويهدف إلى معرفة الميزانية العمومية لمصرف لبنان بدقة. 

القسم الثاني معني "بالامتثال" المنسوب إلى شركة "أوليفر وايمان" العالمية للتحقق من أن ممارسات المؤسسة النقدية لا تحيد عن معايير البنوك المركزية. والقسم الثالث يتعلق بالمحاسبة الجنائية للكشف عن الاختلاس المحتمل.

وهذه الإجراءات بدأت من قبل حكومة حسان دياب في نهاية مارس/آذار 2020، والتي كانت ترد على غضب الشارع بإلقاء اللائمة في الأزمة على الأوليغارشية السياسية المالية.

وبذلك، أظهر حسان دياب الوافد الجديد على الساحة السياسية، شجاعة سياسية، وفق الصحيفة الفرنسية.

ولتمويل عجز الموازنة والحفاظ على تكافؤ الليرة اللبنانية مع الدولار، لجأ مصرف لبنان إلى ممارسات غير تقليدية وصفت بـ "الهندسة المالية".

وهو بحسب الصحيفة نظام مصمم لامتصاص الودائع بالدولار من البنوك التجارية، بسعر فائدة مرتفع للغاية، والذي أطلق عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بنفسه "سلسلة بونزي"، وهي طريقة شهيرة للاحتيال.

المناطق الرمادية 

وتابعت لوموند: "قبل التعجيل بسقوط القطاع المصرفي، جعلت هذه الترتيبات من مساهمي البنوك، ومن بينهم العديد من السياسيين أصحاب ثروة"، مشيرة في هذا الإطار إلى بنك ميد، الذي يضم رأس مال سعد الحريري، أحد المستفيدين الرئيسيين.

 في عام 2016 وحده، ربحت "هندسة" مصرف لبنان للمؤسسات المالية اللبنانية 5 مليارات دولار، وفقا لصندوق النقد الدولي، وهو ما يعادل 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، دون أي تعويض للدولة.

وكشف تقرير تدقيق "كلاسيكي"، أجرته شركتا إرنست وِيونغ وديلويت عام 2018، عن أساليب تطرح إشكاليات أخرى.

ويشير المدققون إلى أنهم غير مخولين لإجراء جرد لمخزون مصرف لبنان من الذهب، بقيمة 10 تريليونات جنيه إسترليني في ديسمبر/كانون الأول 2018 (5.5 مليار يورو).

وينوه تقريرهم أيضا إلى زيادة مشبوهة في أصوله، في حدود 6 مليارات دولار، بناء على ممارسات محاسبية مشكوك فيها.

ويعتقد منتقدو رياض سلامة أن هذه المناطق الرمادية ليست سوى الجزء الأصغر من نظام أكبر، استفادت منه النخبة اللبنانية.

تقول الصحيفة: إنه في مخيلة شركتي التدقيق، فإن مصرف لبنان هو الصندوق الأسود للنظام السياسي المفترس الذي جعل البلاد في غاية السوء.

ويوضح الخبير الاقتصادي توفيق غاسبار: "لقد اخترق مصرف لبنان كل الدوائر الاقتصادية في البلاد واستفادت الطبقة السياسية بشكل كبير".

ورد رياض سلامة، كتابيا على أسئلة صحيفة لوموند بقوله: "لقد أوفى مصرف لبنان بمهمته وعمل لصالح لبنان"، مضيفا: أن "العجز المزدوج الذي أدى إلى الضعف أو العجز في الميزانية أو عجز الحساب الجاري ليس مسؤوليته".

وفي وقت سابق من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أكد المحافظ أن "لبنان ليس دولة مفلسة"، وقد عزا الأزمة الحالية إلى التوترات الإقليمية.

وهو إعلان بأن اللبنانيين، الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى مدخراتهم لمدة عام تقريبا، بالكاد يقدرون على ذلك الآن. 

نهاية صعبة

وبخصوص التدقيق الجنائي، أكد سلامة للصحيفة أن "بنك لبنان تعاون مع ألفاريز ومارسال"، لكن "لوموند" أوضحت أن مسار الإجراءات يثير الشكوك، حيث ضاعف المحافظ العقبات عبر وسطاء داخل المؤسسة اللبنانية.

وتحدثت هنا عن أحد أتباعه، رئيس مجلس النواب وزعيم حزب أمل الشيعي  نبيه بري، الذي كان ضد ترشيح أول شركة تدقيق، وهي أميركان كرول، بقوله: إنها مرتبطة بـ"الكيان الصهيوني".

وهي كما تقول لوموند شائعة لا أساس لها من الصحة، والتي لم تقلق حتى حزب الله، الحركة الشيعية الموالية لإيران، العدو الشديد للدولة العبرية.

سعد الحريري، رئيس الوزراء المكلف وزعيم الطائفة السنية، يعارض أيضا التدقيق الجنائي، وهو بحسب الصحيفة موقف منطقي نظرا لتورطه مع مجموعة البحر المتوسط البنكية وقربه من سلامة، الذي كان لفترة طويلة المدير في حقيبة والده، رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، الذي اغتيل في عام 2005.

 يقول توفيق غاسبار: إن الرسالة الضمنية التي قالها رياض سلامة مرسلة إلى الطبقة الحاكمة، حيث إنه "إذا غرقت، تغرقون أيضا"، مضيفا: أن " الكارثة اللبنانية هي نتيجة عقود من سوء الإدارة والفساد بقيادة النخبة الأوليغارشية".

وعلى الرغم من الضغوط، فقد صمدت حكومة دياب، حيث إنه في يوليو/تموز 2020، اختار مرشحا جديدا للتدقيق وهي شركة، ألفاريز ومارسال.

 في بداية شهر سبتمبر،أيلول، أرسلت هذه المؤسسة إلى مصرف لبنان قائمة بـ 129 طلبا.  كان رد البنك المركزي اللبناني أقرب إلى الاعتراض.

ورفض البنك تلبية 58٪ من طلبات الشركة الأميركية سواء كانت مالية (تقديم مستندات محاسبية)، أو إدارية (تقديم قائمة بموظفي مصرف لبنان منذ 2015) أو حتى لوجستية (وضع مكتب في خدمة المستمعين).

تشير لوموند لما قاله محلل مالي لبناني طلب عدم الكشف عن هويته: "أدركت ألفاريز ومارسال أن الوضع سيكون جحيما، ولهذا السبب استسلمت".

في رده على صحيفة لوموند ، يبرر رياض سلامة موقفه بالمادة 151 من قانون العملة والائتمان التي "تمنع البنك المركزي من الكشف عن حسابات الآخرين المفتوحة لديه".

كما ادعى أنه طلب من وزير المالية تفويضا كتابيا لتسليم الحسابات السيادية وأن هذا لم يصله أبدا.

التفاهمات وراء الكواليس

يقول المدير العام السابق لوزارة المالية اللبنانية آلان بيفاني، الذي أغلق باب المفاوضات مع صندوق النقد الدولي احتجاجا على عرقلة القطاع المصرفي: إن "الحسابات السيادية تعود إلى الدولة التي فوضت ألفاريز ومارسال"، مضيفا: أنه "لا يوجد تصريح بالطلب".

ونوهت لوموند أن المجلس الاستشاري الأعلى لوزارة العدل قرر أن حجة السرية المصرفية التي استخدمها مصرف لبنان غير مقبولة. 

ومنذ أيام قليلة، قال الوفد المرافق لرياض سلامة: إن تدقيق مصرف لبنان سيُجرى من قبل بنك فرنسا، وهي فكرة اقترحها الصيف الماضي إيمانويل ماكرون، الذي يرقى بقوله إلى التقليل من أهمية التدقيق الجنائي.

لكن وفقا لمعلومات لوموند، لا ينوي بنك فرنسا تنفيذ هذه العملية، حيث التزمت باريس فقط بتقديم المساعدة اللوجيستية، بصفتها "طرفا ثالثا موثُوقا به".

وتخشى الأوساط الإصلاحية اللبنانية، عقب هذا التقارب، من تفاهمات خلف الكواليس بين المانحين ورئيس مصرف لبنان في "صفقة" من شأنها دفن التحقيق الجنائي، الذي يُعتبر مسيسا للغاية، مقابل الشركاء الآخرين في المراجعة، وفق لوموند.

وقال مصدر موثوق في الحكومة اللبنانية: إن المجتمع الدولي قام بتغطية طبقتنا السياسية لمدة ثلاثين عاما، مضيفا في تساؤل: هل يمكن أن تعرض عليه الإفلات من العقاب مقابل تعهد بسيط بتغيير ممارساته؟ 

ويوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني، خلال جلسة استثنائية في البرلمان، تنافس أعضاء البرلمان الأوروبي في الإعلانات لصالح التدقيق الجنائي، في "تعبئة رسمية بحتة، دون مشاركة ملموسة، تهدف إلى منحهم الدور الريادي في مواجهة الرأي العام".

 تذكر الصحيفة أنه كان بإمكان المسؤولين المنتَخَبيِن التصويت لصالح نص ملزم ولكنهم لم يفعلوا ذلك. وتقول ختاما: "نحن لا نلمس مصرف لبنان"، الذي وصفته بصندوق باندورا بالنسبة للنظام اللبناني.

وباندورا في الميثولوجيا الإغريقية، هو صندوق يتضمن كل شرور البشرية من جشع، وغرور، وافتراء، وكذب وحسد، ووهن، ووقاحة ورجاء، وفق الأساطير المروية عنه.