استثمارات بنحو 2.6 مليار يورو.. كيف يلوي النظام الجزائري ذراع فرنسا؟
.jpg)
تقرير حصري بعنوان "الجزائر بلد كل الثورات" بثته قناة "m 6" الفرنسية مؤخرا، أثار غضبا عارما على شبكات التواصل الاجتماعي في الجزائر، وزاد من تصعيد التوتر القائم أصلا بين الجزائر ومستعمرتها القديمة فرنسا.
تزامن ذلك مع إعلان السلطات الجزائرية، في 20 سبتمبر/ أيلول 2020، اعتزامها عدم تجديد التعاقد مع شركة "راتيبي باريس" الفرنسية المكلفة بتسيير وصيانة مترو أنفاق العاصمة منذ عام 2011.
الجزائر من جانبها تطالب منذ سنوات باعتذار رسمي من فرنسا عن جرائم الاستعمار وحل ملفات مرتبطة به مثل الأرشيف وتعويض ضحايا تجارب نووية في الصحراء فيما تدعو باريس إلى طي صفحة الماضي والتوجه نحو المستقبل.
ويربط النظام الجديد في الجزائر وجود علاقات طبيعية مع باريس بمعالجة مخلفات الحقبة الاستعمارية (1830 - 1962)، وينعكس هذا التوتر والأزمات المتتالية بين البلدين على الجانب الاقتصادي، وتحديدا على الاستثمارات الفرنسية التي تجاوزت 2.5 مليار دولار، في بداية 2018.
مترو العاصمة
في 20 سبتمبر/ أيلول 2020 أعلنت الجزائر، اعتزامها عدم تجديد التعاقد مع شركة "راتيبي باريس" الفرنسية المكلفة بتسيير وصيانة مترو أنفاق العاصمة منذ عام 2011.
وأوضحت مؤسسة مترو الجزائر، في بيان، أن عقد تسيير وصيانة مترو أنفاق الجزائر العاصمة مع الشركة الفرنسية، ينتهي رسميا في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2020.
وأضافت أن عقد الشركة الفرنسية لن يتم تجديده، وستحل محلها أخرى جزائرية مائة بالمائة مملوكة لمؤسسة مترو الجزائر، وأفادت بأن جميع علاقات العمل الحالية ستستمر مع الشركة الجديدة، مع الاحتفاظ بنفس الرواتب والحقوق والمزايا الاجتماعية للعمال.
وقعت الشركة العقد مع شركة "راتيبي باريس" عام 2007، لكن بداية نشاطها الفعلي كان في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، بعد تدشين أول خط لمترو أنفاق العاصمة.
وشركة "راتيبي باريس" متخصصة في النقل بالسكك الحديدية ومترو الأنفاق، وتتولى إدارة وتسيير وتشغيل هذا النوع من وسائل نقل الركاب في العاصمة الفرنسية باريس وضواحيها.
تحقيق حصري
وفي 21 سبتمبر/ أيلول 2020، أعلنت السلطات توقيف قناة M6 الفرنسية عن العمل في الجزائر، غداة بث تقرير في شكل تحقيق حصري بعنوان "الجزائر بلد كل الثورات" اعتبرته السلطات تحريضا عليها.
وزارة الاتصال الجزائرية انتقدت هذا التقرير "الذي أنتجه الفريق بتصريح تصوير مزيف"، لأنه يحمل "نظرة منحازة من الحراك الشعبي (الذي أسقط نظام بوتفليقة في ربيع 2019)"، ووعدت الوزارة بملاحقة منفذي التقرير بتهمة "التزوير في الكتابة الأصلية أو العامة".
وقالت السلطات الجزائرية: "في النهاية، من المفترض أن يكشف المحتوى عن إفلاس النظام الجزائري، فهو عبارة عن خلاصة لثلاث شهادات مملة مستوحاة من الكليشيهات الأكثر اختزالية".
وأوضحت في سياق متصل أن "المعنيين الرئيسيين اتصلوا بالمجلس الأعلى للقطاع السمعي البصري الفرنسي (CSA) واستغلوا خدمات السفارة الفرنسية في الجزائر، من أجل تقديم شكوى للتلاعب، دون أي مهنية، أو أخلاق أو مبادئ".
تزامن الحدثين رجح أن يكون فك التعاقد مع شركة المترو ردا على استفزاز القناة الرسمية الفرنسية للسلطة في الجزائر، خصوصا وأنه ليس الأول من نوعه.
نشبت أزمة دبلوماسية مصغرة بين الجزائر وباريس عندما استدعت الأولى سفيرها لدى فرنسا "للتشاور" في 27 مايو/أيار 2020، بعد بث قناة "فرانس 5" فيلما وثائقيا عن الشباب والحراك، وتحدثت الجزائر حينذاك عن "اعتداءات على الشعب الجزائري ومؤسساته".
تراجع واضح
تعتبر فرنسا مستثمرا رئيسيا في الجزائر خلاقا لمناصب الشغل، حيث بلغت 64 مليون يورو سنة 2016، و182 مليون يورو سنة 2017، وقفزت الاستثمارات الأجنبية المباشرة لفرنسا في الجزائر إلى 283 مليون يورو سنة 2018، أما أعلى مستوى تم تسجيله فكان سنة 2019 بمبلغ 432 مليون يورو.
يبلغ رصيد الاستثمار الأجنبي الفرنسي في الجزائر (مجموع الاستثمارات حسب سعر الصرف) 2.656 مليار يورو، وهذه الاستثمارات مركزة أساسا في 3 قطاعات: النشاطات المالية والتأمينات بنسبة 36%، التصنيع بين السيارات، الصيدلة، الصناعات الغذائية والكيميائية، بنسبة 29%، الصناعات الاستخراجية بنسبة 23%.
وهذا المبلغ لا يشمل الاستثمارات الممولة من طرف المؤسسات المالية المحلية التي تعتبر اليوم رافعة رئيسية لاستثمارات الشركات الفرنسية.
وهناك حوالي 450 شركة ومقاولا فرنسيا في الجزائر، يشغلون حوالي 40 ألف عامل ويخلقون أكثر من 100 ألف منصب عمل غير مباشر، وتعيد الشركات الفرنسية استثمار نسبة كبيرة من أرباحها في الجزائر (حوالي 80% بالنسبة للشركات الكبرى).
وتعتبر الجزائر شريكا هاما بالنسبة لفرنسا التي هي أيضا الزبون الأول للجزائر، حيث بلغت الصادرات الفرنسية نحو الجزائر 4.925 مليون يورو سنة 2019، وتراجعت بنسبة 7% مقارنة بسنة 2018، تغلب عليها الحبوب والمواد الصيدلانية والسيارات والوقود.
وتعد فرنسا هي ثاني ممون للجزائر، بعد الصين، وتملك حصة مستقرة في السوق الجزائرية منذ 2015، بحوالي 10%.
ورغم ارتفاع سنوي منتظم للصادرات، فإن حصة فرنسا في السوق الجزائرية قد تقلصت إلى أكثر من النصف منذ سنة 2000 (كانت تقدر آنذاك بنسبة 24%)، وهذا يدل على وجود منافسة شرسة لاسيما من طرف الصين التي تملك 18% من السوق سنة 2019، إيطاليا بنسبة 8% وإسبانيا بنسبة 7%.
لكن تبقى الجزائر السوق الأول للشركات الفرنسية في إفريقيا وفي المرتبة 20 عالميا، وهناك حوالي 8 آلاف شركة فرنسية تصدر نحو الجزائر.
بلغت الصادرات الجزائرية نحو فرنسا 4.195 مليون يورو سنة 2019، تطورت بنسبة 1% مقارنة بالسنة التي قبلها، وهي مشكلة بنسبة 95% من المحروقات (بترول خام، غاز طبيعي، وقود). وهي تتطور حسب سعر برميل البترول.
في سنة 2019، أصبحت فرنسا أول زبون للجزائر، بعد أن كانت في المرتبة 3 سنة 2018، وذلك راجع إلى زيادة حجم مشترياتها من البترول الخام والوقود، كما سجلت فرنسا فائضا يفوق 730 مليون يورو في علاقتها الثنائية مع الجزائر.
تقليم أظافر
منذ وصول تبون إلى الحكم في انتخابات 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، بدا واضحا أن هناك تحولا في مستوى العلاقات مع فرنسا على كافة المستويات، بدت فيه السلطة الجديدة وكأنها تريد فرض علاقة الند للند مع باريس.
كما ظهر وكأن هناك توجها جزائريا لوضع حد لموقع باريس "كشريك بامتيازات خاصة"، فلم يتردد الرئيس الجديد في القول، خلال عدة تصريحات إعلامية سابقة، بأن "ضمان علاقات طبيعية واستعادة فرنسا لمكانتها الاقتصادية في الجزائر مربوط بمدى جاهزيتها لمعالجة ملفات الذاكرة (ذاكرة الاستعمار)".
بهذا الإعلان تكون العلاقات الجزائرية الفرنسية دخلت حالة من البراغماتية، شعارها التعاون بالمسائل المتفق عليها، وترك الملفات المختلف فيها، وذهب البعض إلى حد اعتباره "تقليما لأظافر باريس بعد تغولها في عهد الرئيس بوتفليقة".
من جهته يرى المحلل والخبير الاقتصادي، فارس مسدور، أنه ابتداء من 2018 بدأ الوضع يتقهقر ثم ازداد سوءا في 2019 خاصة بعد الحراك، أما الآن فإن العلاقات الفرنسية الجزائرية متذبذبة كثيرا وهناك عدم تأكد من مدى استقرارها.
ويميل مسدور في حديث مع الاستقلال، إلى أن "الوضع يؤول إلى التراجع شيئا فشيئا، فالاستثمارات الفرنسية تتراجع خاصة وأن الوضع الاقتصادي بيّن بأن الفرنسيين كانوا المستفيدين الأوحد من هذه الاتفاقات وتلك الاستثمارات التي تمت".
لم تفهم فرنسا بعد أن الجزائر استقلت وأنها تملك سيادتها، يقول الخبير: وبالتالي يتمادون في استعمال أساليب معينة بغية الوصول إلى تحقيق مآربهم من خلال الاستثمارات واستغلال ثروات الجزائر، خاصة في مجال الصناعات الاستخراجية، وتحديدا الغاز والبترول، إذ استفادوا أكثر من أي دولة أخرى.
وشدد مسدور على أن استثمار فرنسا في الصناعات الغذائية وغيرها من المجالات، غير أن هذا النوع من الاستثمارات لا يقدم قيمة مضافة للاقتصاد الجزائري.
وتجاوز عدد الشركات الفرنسية في الجزائر الـ500، منها شركات كبرى، لكنها في النهاية لا تقدم نقلة نوعية في الاقتصاد الجزائري، إنما يضر الجزائر بالدرجة الأولى، لأنها في أمس الحاجة إلى أن يكون هناك تنوع في الاستثمارات.
هذا التنوع، يوضح البروفيسور، لن يُطبق إلا بالشراكة، مشددا على أن الاستثمار الأجنبي المباشر فيه كثير من الاستغلال لثرواث البلد وطاقاتها، ولا يوجد فيه نقل حقيقي للخبرات واستفادة البلد منها.
من المتضرر؟
أما تراجع الاستثمارات الفرنسية، فالمتضرر الأكبر منه هو الجزائر، يقول الخبير: "علما بأن تطور الاستثمارات كانت فيه خسارة جبائية وجمركية للجزائر بشكل كبير جدا، فاتفاقية الشراكة كانت لصالح الاتحاد الأوروبي ولم تكن لصالح الجزائر التي خسرت الكثير نتيجة الإعفاءات الجمركية التي استفاد منها الفرنسيون والأوروبيون بالدرجة الأولى".
أما عن استخدام الاستثمارات للي ذراع فرنسا، فيقول المحلل: "من المعروف أن الأساليب الدبلوماسية هي أساليب ضغط لطيف أحيانا بغية الوصول إلى تحقيق أهداف معينة، ولكن الإشكال أن الشركة التي كانت متعاقدة مع مترو الجزائر لم تف بالتزاماتها خاصة في مجال تكوين الكوادر الجزائرية بغية إدارة المشروع مستقبلا من طرف الجزائريين 100 بالمئة".
يضاف إلى ذلك قضية الصيانة، لم تكن بالمستوى الذي تم الاتفاق عليه، وبالتالي الجزائر لم تجدد العقد، مع الملاحظة بأن الشركة الفرنسية تم إنقاذها من الإفلاس بالمشروع، الذي تم في عهد بوتفليقة، وكان يمكن للجزائر شراؤها بدلا من التعاقد معها على إنجاز مترو الجزائر.
وأوضح الخبير أن العلاقات المتكافئة هي جزء لا يتجزأ من الدبلوماسية الاقتصادية والسياسية بالدرجة الأولى، لكن أرى أن ما يحصل الآن هو أن الفرنسيين يحاولون الضغط على الجزائر بشكل أو بآخر، بغية الاستمرار في استغلالهم لثرواث الجزائر، سواء تعلق الأمر بالغاز أو البترول، أو المناجم وغيرها.
وأضاف مع ملاحظة أن هناك العديد من الاتفاقيات التي تمت في عهد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند خلال زيارته للجزائر في 2015، والتي تجاوزت 30 اتفاقية كلها تتعلق بالصناعات الاستخراجية والتحويلية، ولكن جزءا كبيرا منها لم يتم إنجازه على أرض الواقع.
النقطة الأساسية، التي ختم بها مسدور حديثه للاستقلال، هي ضرورة أن ينفتح الجزائر على العالم، وليس فقط الفرنسيين أو الأوروبيين بشكل خاص، يجب التوجه إلى القارة الآسيوية، وعقد استثمارات أوسع مع الصينيين والأتراك أيضا الإندونيسيين والماليزيين والكوريين، وعدد كبير من الدول التي تريد توسيع دائرة الاستثمار في الجزائر، ومستعدون بأن ينقلوا خبراتهم بشكل جاد، عكس الفرنسيين".
يكاد يكون هذا العنصر، بحسب الخبير، الأهم أو المكسب الحقيقي من الشراكات والاستثمارات، والتي تؤثر على الناتج الداخلي الخام الجزائري.
المصادر
- الجزائر وفرنسا.. عهد جديد للعلاقات عنوانه "التقارب له ثمن" (تقرير)
- hausse les investissements directs français en algérie
- L’Algérie, un partenaire important de la France
- Investissements en Algérie : de « la règle 51/49 » aux « secteurs stratégiques »
- قيمة الاستثمارات الفرنسية في الجزائر في 15 سنة اقل من 300 مليون يورو
- فرنسا تريد فتح صفحة تعاون جديدة مع الجزائر!
- الجزائر: لن نجدد التعاقد مع شركة إدارة المترو الفرنسية