محمد غني حكمت.. فنان عراقي كره السياسة ولمست بصمته كنائس أوروبا

يوسف العلي | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في 12 سبتمبر/ أيلول 2020، تمر ذكرى وفاة النحات العراقي الشهير محمد غني حكمت، الذي زينت أعماله النحتية معظم ميادين وشوارع بغداد، ووصلت إلى عدد من البلدان العربية، فضلا عن كونه أول نحات عربي مسلم ينحت أبواب كنائس في العالم بالعصر الحديث.

حكمت الذي رحل عام 2011، يعد من أبرز فناني العراق في مجال النحت خلال العقود الخمسة الأخيرة، حتى لقب بـ"شيخ النحاتين"، إضافة إلى أن مواقفه الرافضة للاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.

تميّز مبكر

ولد محمد غني حكمت في مدينة الكاظمية ببغداد عام 1929، ومنذ أن كان صغيرا وتحديدا في عمر الرابعة بدأت ميوله واهتماماته الفنية بالظهور فكان يقوم بتشكيل التماثيل والأشكال من الطين المتشكل أثناء فيضان دجلة.

التحق بمدرسة الكاظمية الأميرية عام 1936، وتعلم صنع القوالب من الجِبس من عبد الحسين محروس، والذي كان موظفا حينها في متحف التاريخ الطبيعي.

عندما كان طالبا في المرحلة الثانوية علمه أستاذه، رشاد حاتم، كيف يرسم المنظور فكان لهذا الأستاذ أثر كبير عليه وتأثر بأسلوبه.

بعد أن أنهى دراسته في مدرسة الكاظمية، التحق محمد غني حكمت بمعهد الفنون الجميلة في بغداد، وهناك تأثر كثيرا بمدرّسه جواد سليم، الذي كان عائدا حديثا من دراسته في إنجلترا، وتحولت العلاقة بين التلميذ والمعلم إلى صداقة عميقة خاصة بعد انضمام حكمت لـ"جماعة بغداد للفن الحديث".

بعد أن تخرج من المعهد سنة 1953، سافر حكمت لروما لاستكمال دراسته، ليحصل على شهادة من معهد لازكا في صناعة الميداليات عام 1956، وعلى دبلوم في النحت سنة 1959.

انتقل بعد ذلك إلى فلورنسا الإيطالية من أجل الاختصاص في صب البرونز، وحصل على شهادة في اختصاصه سنة 1961.

يعد محمد غني حكمت، أول أستاذ نحت في تاريخ العراق، وتم تعيينه في معهد الفنون الجميلة عام 1962. وأدخل أشكالا وطرقا جديدة لأول مرة في النحت على الحجر والخشب وطرق النحاس وصب البرونز.

تزوج محمد غني من غاية الراوي الرحال، وهي امرأة عراقية شقيقة النحات العراقي الكبير خالد الرحال. ورزقا بابنهما الأكبر ياسر وبنت اسمها هاجر.

مشوار حافل

بدأ مشواره المهني بعد عودته من إيطاليا عام 1961، من بيت والده في الكاظمية، إذ خصص محمد غني حكمت غرفة ليحولها إلى مشغل وورشة خاصة امتلأت بعد فترة قصيرة جدا بالتماثيل والقوالب الجبسية والبرونزية والمنحوتات المصنوعة من الخشب.

في عام 1964 انتقل إلى مشغله الجديد الكائن بمنطقة المنصور في بغداد والذي في حينه كان الأستوديو الأول من نوعه في العراق بتصميمه الإيطالي المميز.

سجل غني بصمة راسخة في أعماله الفنية، ومن أبرز إنجازاته إشرافه على صب البرونز للتماثيل التي كونت "نصب الحرية" وسط بغداد. كذلك أخذ على عاتقه إتمام العمل إثر وفاة أستاذه جواد سليم المفاجئ عام 1961.

ومن أبرز أعماله أيضا، نصب "كهرمانة" و"شهريار وشهرزاد" و"المتنبي" و"جدارية عند مدخل مدينة الطب"، والتي تعتبر إحدى المعالم التي كانت ضحية السلب والفوضى التي عمت عام 2003 بعد الاحتلال الأميركي للعراق، ومن أعماله الأخرى 14 لوحة جدارية في إحدى كنائس بغداد تمثل "درب الآلام للسيد المسيح".

وبخصوص نصب "قوس النصر" الشهير، الذي يمثل نهاية الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات،  يقول حكمت: "الحكومة في ذلك الحين أعدت مسابقة شارك فيها الكثير من النحاتين العراقيين، أنا شخصيا لم أشارك، فاز بها خالد الرحال لكنه مات قبل أن ينجز النصب".

وأضاف: "بعدها اتصل بي محمد فاضل وزير الإسكان، وقال لي (محمد، تقرر تكليفك بتنفيذ هذا العمل). اعتذرت بلا جدوى، لذلك تم تنفيذه من قِبلي لكني لست صاحب الفكرة. أنا لم أحب السياسة يوما، لأني ببساطة فنان كل مصيبته أنه يهوى العراق".

"إنقاذ العراق"

كانت خاتمة الإنجازات للنحات العراقي، هو إنشاء 4 نصب في بغداد بعد عام 2003، وهي: "إنقاذ العراق"، و"بغداد"، و"الفانوس السحري" أو "مصباح علاء الدين"، و"أشعار بغداد"، وهو شكل كروي من الحروف العربية الإسلامية يتضمن في محيطه بيتا للشاعر العراقي مصطفى جمال الدين يقول فيه: "بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرُ إلا ذوت ووريق عمرك أخضرُ".

على المستوى العربي والدولي، تتعدد إنجازات محمد غني حكمت التي زينت أكثر من مدينة عربية وأوروبية، نذكر منها جدارية الثورة العربية في العاصمة الأردنية عمان، وأعمال مختلفة في البحرين مثال ذلك إنجازه 5 أبواب لمسجد قديم، وتماثيل.

في عام 1987، نحت حكمت جدارية فنية في البوابة الرئيسية المسماة بباب السلام لمبنى منظمة اليونسكو في العاصمة الفرنسية باريس، كما يعتبر محمد غني حكمت أول نحات عربي مسلم في العالم الحديث ينحت أبواب كنائس، حيث أنجز 3 بوابات لكنيسة تيستا دي ليبرا في روما.

في عام 1972 دونت الكاتبة السورية غادة السمان عن محمد غني حكمت بأنها وجدته "الفنان العراقي الوحيد الذي يستلهم من تراثه الحضاري في حين إن معظم الفنانين العرب كانوا أكثر اهتماما بتيارات الحداثة المتمثلة بالمدارس الأوروبية".

ويعلق غني على حديثها، بالقول: "أنا سليل حضارة وادي الرافدين فمن الطبيعي جدا أن أستلهم أفكاري ومواضيعي من حضارتي. نعم هي صادقة، فأنا أتعامل مع المدارس الغربية بنظرية لكم دينكم ولي ديني. وبطبيعة الحال أنا أحترم كل المدارس الفنية".

معارض وجوائز

أقام النحات غني حكمت، الكثير من المعارض، سواء على المستوى الشخصي أو بالمشاركة مع فنانين آخرين. نذكر منها: مشاركته في معرض أقيم في نيودلهي في الهند في آذار/ مارس 1955. وفي قاعة لافونتانلا في روما اشترك في معرض ماركوتا مع الرسام تاتو في آيار/مايو 1956.

في آذار/ مارس 1958، شارك حكمت في 3 معارض تفصل بين كل واحد منها أيام قليلة، الأول في مدينة باليرمو، صقلية بإيطاليا عرض فيها 23 قطعة من السيراميك الملون. 

والمعرض الثاني أقيم في قاعة (ماركوتسيما ) بروما، وعرض فيه 30 تمثالا من الخشب والبرونز، أما المعرض الثالث للنحت فأقيم في قاعة أوتيل باريس في سان ريمو.

وفي يونيو/ حزيران 1959 أقام محمد غني حكمت، معرضا شخصيا للنحت في قاعة ميريكا بروما احتوى على 30 تمثالا من الخشب.

أقام حكمت معرضه الشخصي الأول للنحت بعد عودته إلى العراق في 22 يناير/ كانون الثاني 1962، في دار الدكتور محمد مكية الكائن بمنطقة المنصور، وعرض فيه 40 تمثالا تم إنجازها عندما كان في روما، ويعتبر المعرض الأول من نوعه لنحات في تاريخ الحركة التشكيلية الحديثة بالعراق.

في العام نفسه، وبدعوة من صديقه علي الركابي أقام المعرض الشخصي الثاني، لكن المختلف هذه المرة أن أعماله كلها كانت مأخوذة من إرث حضارة بلاد ما بين النهرين، الحضارة والتراث الإسلامي، وكذلك عرض مواضيع شعبية للحياة اليومية للناس خصوصا في بغداد.

وفي مارس/ آذار 1963، أقام معرضا شخصيا للنحت في بيروت ضم 23 تمثالا من الخشب والبرونز والنحاس، وكذلك أقام في أبريل/نيسان 1981 معرضا شخصيا للنماذج البرونزية البارزة في لندن ضم 85 تمثالا من البرونز.

وفيما يخص الجوائز، حصل حكمت على جوائز عدة: جائزة تقدير من عمدة روما بإيطاليا عام 1958، وجائزة تقدير من المعرض العالمي "فيا مارغوتا" في روما عام 1959، وجائزة كولبنكيان كأفضل نحات عراقي عام 1964، وجائزة الدولة اللبنانية من وزارة الثقافة "رشانا" لبنان عام 1994.

كذلك حاز جائزة تقدير من جامعة الدول العربية عام 2002، إضافة إلى حصوله على جائزة تكريم للإبداع العربي عن إنجازات العمر – قطر عام 2010.

وقت الرحيل

عانى حكمت من فشل كلوي خلال السنة الأخيرة التي سبقت وفاته، وفي الأشهر الأخيرة تدهورت صحته إلى درجة كبيرة سببت مشاكل في المعدة والقلب والرئتين، وفي الفترة بين مايو/ آيار وأغسطس/آب 2011 أدخل إلى مستشفى الخالدي بالعاصمة الأردنية عمان لتلقي العناية الطبية والعلاج.

وفي مساء الاثنين 12 سبتمبر/أيلول 2011، أصيب حكمت بجلطة مع فشل كلوي تام أدت إلى وفاته عن 82 عاما، وكانت وصيته أن يُدفن في بغداد، إذ جرى تشييعه بحضور وزير الثقافة آنذاك سعدون الدليمي، وجموع من زملاء ومحبي الفنان الراحل إلى مثواه الأخير.

وبعد وفاته، تم اختيار نصب "كهرمانة" للتراث الوطني العالمي عام 2015، في الذكرى الـ70 للأمم المتحدة، وفي أبريل/نيسان 2016، احتفت شركة "جوجل" بذكرى ولادة الفنان الراحل بوضع رسم لنصب "إنقاذ العراق" على الصفحة الرئيسية لها.