التطبيع مع إسرائيل لم يكن مطلبه.. كيف خان حكام السودان الشعب؟
.jpg)
الطبيعي والمنطقي أن أي أنظمة حكم تأتي بها ثورات الشعوب وحراكه، يجب أن تلبي طموحات هذه الثورات وتعبر عن رغبة هذا الحراك الشعبي، لكن الغريب أن هذا ما لم يحدث في السودان عقب الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير.
فهل كانت الثورة السودانية تطالب بالتطبيع مع إسرائيل حتى يأتي رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان ويلتقي برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؟ هل خرج المواطن السوداني رافعا لافتة تطالب بالتطبيع، أم خرج من حنجرته هتافا فهم منه حكام السودان الجدد أنه دعوة لإقامة علاقات طبيعية مع تل أبيب؟.
السودان من الدول التي لا تقيم علاقة ثنائية رسمية مع إسرائيل، وبينهما تاريخ من العداء، وصل في أحيان إلى عمليات عسكرية، وعدوان من تل أبيب على أهداف مدنية وعسكرية داخل الحدود السودانية، والتاريخ النضالي للخرطوم في مساندة القضايا العربية والفلسطينية لا يمحى.
ومع سعي بعض الأطراف والجهات داخل السودان إلى التطبيع، تأتي رسائل ناصحة من قيادات فلسطينية مثل خالد مشعل الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس، بأن الاقتراب من إسرائيل من أجل المصلحة بمثابة "سراب زائف".
مشعل عبر عن صوت الشعب العربي والسوداني، الرافض للتطبيع، والذي أظهر عن مواقفه الوطنية وهويته الإسلامية تلك مرارا وتكرار وفي مناسبات عديدة خلال مسيرة تاريخه النضالي العريق.
سراب زائف
في 23 مايو/ آيار 2020، عبر بث على صفحة حزب المؤتمر الشعبي السوداني بـ"فيسبوك"، قال خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس): "رسالتي للنظام السوداني، أنت حر في سياستك الداخلية والخارجية، ونحن لا نملي على أحد شيئا، التطبيع مع إسرائيل من حيث البعد المصلحي سراب زائف".
وشدد بأن "الخرطوم في الذاكرة الفلسطينية لها مكانة عظيمة، فلا نريد أن تفجعونا بأي تنازلات".
كما أعرب مشعل عن "جاهزية حماس لتطوير العلاقة مع نظام الحكم الجديد في السودان من دون تدخل في شؤونه الداخلية أو شؤون أي دولة عربية".
وأضاف: "لا توجد علاقة لحماس مع النظام السوداني الجديد، حصلت اتصالات هاتفية بين الأخ إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس، مع مسؤولين في السودان، من بينهم رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان".
وأردف: "لكن هذا لا يعتبر علاقة سياسية حقيقة، نحن منفتحون مع كل الدول العربية وفي العالم. ونظام الحكم في السودان هذا شأن وطني ونحترم إرادة أي شعب في الوطن العربي، ونتعامل مع الأنظمة الرسمية ومع الشعوب".
وفي نهاية حديثه رفض مشعل أي لقاء لزعيم عربي مع قادة العدو الصهيوني (إسرائيل)"، ووصف لقاء البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو بـ"المؤلم".

محاولات حثيثة
كانت أبرز محاولات التطبيع بين النظام السوداني، وإسرائيل بعد الحراك، في 3 فبراير/ شباط 2020، عندما التقى نتنياهو، بالفريق أول عبد الفتاح البرهان، في أوغندا، وهو اللقاء الذي جاء مفاجئا، حيث لم يتم الإعلان عنه مسبقا، ومثل صدمة لمعظم الأوساط السياسية والإعلامية في العالم العربي.
أعلنت الحكومة الإسرائيلية حينها أن اللقاء، تم برعاية الرئيس الأوغندي يوري موسوفيني، وذكرت في بيان "يؤمن رئيس الوزراء نتنياهو بأن السودان يسير في اتجاه جديد وإيجابي، وعبر عن رأيه هذا في محادثاته مع وزير الخارجية الأميركي (مايك بومبيو)".
بينما غرد نتنياهو، على تويتر "يريد رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان مساعدة دولته في الدخول في عملية حداثة وذلك من خلال إخراجها من العزلة ووضعها على خريطة العالم".
ذلك اللقاء شهد احتفاء من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية، وذكرت صحيفة هآرتس أن "التحركات السياسية تشهد في العادة تسارعا من أجل أن تؤتي ثمارها إبان الحملات الانتخابية، وفي حالة السودان، فإن جليد العلاقات معه بدأ في الذوبان".
كان للقاء تداعياته، إذ أحدث غضبا شعبيا عارما داخل السودان، وفي 5 فبراير/ شباط 2020، شهدت الحكومة الانتقالية أول استقالة احتجاجية بسبب الواقعة، تقدم بها السفير رشاد فراج الطيب، مدير إدارة السياسة الخارجية بمجلس السيادة الانتقالي.
وقال فراج في خطاب استقالته: "بعد سنوات حافلة بالبذل والعطاء من أجل وطني وشعبي العظيم، أجد اليوم عسيرا ومستحيلا على نفسي، الاستمرار في موقعي كمدير لإدارة السياسة الخارجية، بأمانتكم الموقرة، إذ يتعين علي أن أخدم في حكومة يسعى رأسها للتطبيع والتعاون مع الكيان الصهيوني، الذي يحتل القدس الشريف، ويقتل أهلنا في فلسطين، ويعربد في أوطاننا العربية والإسلامية دون رادع".
ثورة أم انقلاب؟
لم ينفصل سعي السودانيين في ثورتهم عن مآثر الربيع العربي الطامح إلى نموذج ديمقراطي، وحرية، وتعددية سياسية، وتثبيت الهوية الوطنية للشعب.
لم يخرج الثوار من أجل أن يأتوا بأنظمة تطبع مع إسرائيل، خاصة وأن الدبلوماسية الخارجية لتل أبيب وصفت الربيع العربي بأنه "شتاء أصولي مليئ بالمفاجآت والخبايا، ينبغي الاستعداد للتصدي له لحماية إسرائيل من هذا الخطر".
واعتبر المخططون الإسرائيليون، أن الثورة المصرية (على سبيل المثال)، مصدر خطر إستراتيجي، لأنها تهدد مصير اتفاقات كامب ديفيد والشراكة الإستراتيجية مع إسرائيل، التي أرساها نظام حسني مبارك، وحضوا الدولة العبرية على الضغط على العسكر في مصر، لفرض قيود على انتقال السلطة إلى الإسلاميين.
وفي 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، أصدر مركز "مسارات" للأبحاث والدراسات الإستراتيجية في فلسطين، كتابا بعنوان "إسرائيل والبيئة الإقليمية: التحولات الإستراتيجية والحالة الفلسطينية".
تناول الكتاب ضمن أجزائه، محور متعلق بالمسألة السودانية، وذكر سعي إسرائيل كجزء من محاولتها مواجهة التغيرات الإقليمية، إلى إعادة إحياء "سياسة الأطراف" وفق منظور بن غوريون، وتتضمن هذه السياسة دعم دولة كردية (في الشمال السوري والعراقي والجنوب التركي)، ودولة في جنوب السودان.
وكان الدعم الإسرائيلي لإقامة دولة في جنوب السودان تاريخي، حيث دعمت التمرد الذي كان يقوده الجنرال جوزيف لاقو في جنوبي السودان، عسكريا وماليا، خلال ستينيات القرن العشرين، وبطبيعة الحال كانت من الدول التي ساهمت في انفصال دولة جنوب السودان بعد ذلك، وأول من اعترف بها، وأقام معها علاقات متجذرة.
ويأتي استهداف وحدة الأراضي السودانية من قبل تل أبيب، وفقا للتاريخ العدائي المتجذر ضد دولة الاحتلال، وهو الأمر الذي جعل السودان من أكثر الدول العربية نفورا من إقامة علاقات مع إسرائيل.
صدام وتوتر
على مدار التاريخ لا يوجد علاقة رسمية ثنائية بين السودان وإسرائيل، وفي 6 فبراير/ شباط 2020، أورد الكاتب الإسرائيلي يوسي ميلمان في مقال بصحيفة هآرتس العبرية، عن طبيعة العلاقات السودانية الإسرائيلية، التي تخللتها عقود من الصدام والتوتر.
ميلمان قال: "قبل عام 1958 كانت هناك علاقات سرية بين الأنظمة الحاكمة في البلدين، لكن بعد انقلاب الجنرال إبراهيم عبود، أصبح السودان وبسبب نفوذ الناصرية آنذاك من أعداء إسرائيل إلى الحد الذي أعلن الحرب ضدها وشارك بقوات في حرب الأيام الستة يونيو/حزيران 1967، وخلال العقد الذي تلا تلك الحرب لم تكن هناك أي علاقات ولا اتصالات بين البلدين".
ووصف الكاتب الإسرائيلي فترة الرئيس السوداني السابق عمر البشير، بأنها كانت مقلقة لتل أبيب، وخص بالذكر الفترة "من 1990 إلى 1996، عندما احتضن السودان تنظيم القاعدة، وأنشأ علاقات قوية مع إيران، وجعل أراضيه ممرا للأسلحة التي يهربها فيلق القدس الإيراني إلى قطاع غزة".
وبلغت العلاقات السودانية الإسرائيلية، ذروة تأزمها عام 2009، عندما تعرض السودان لسلسلة غارات عن طريق القوات الجوية الإسرائيلية بدأت في يناير/ كانون الثاني، وفبراير/شباط 2009، وحسب ادعاءات تل أبيب في ذلك الوقت، أن الهدف من الغارات هو ضرب شاحنات تحمل أسلحة إيرانية كانت في طريقها إلى قطاع غزة عن طريق السودان.
وأفادت حينها مجلة التايمز الأميركية أن الضربات قامت بها مقاتلات F-16 تصاحبها مقاتلات F-15 وطائرات بدون طيار، وفي 8 أبريل/ نيسان 2009، نسبت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، لمصدر أميركي، أن "قوات الكوماندوز البحرية الإسرائيلية (شايطيت 13) شاركت في العملية، التي تضمنت غارة على سفينة الأسلحة الإيرانية الراسية في ميناء بورتسودان".
وفي مايو/ آيار 2012، قصفت طائرة إسرائيلية سيارة مواطن سوداني اتهمته بأنه يهرب الأسلحة إلى قطاع غزة.
وفي 23 مايو/ آيار 2012، هاجم سرب من طائرات F-15 الإسرائيلية، مدينة الخرطوم ودمر مصنع اليرموك للذخائر، وهو أحد المؤسسات التابعة لهيئة التصنيع الحربي السوداني.
وسارعت إسرائيل، عقب تدمير المصنع في "الإعلان عبر مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية بالتصريح أن السودان دولة إرهابية خطيرة".
المصادر
- مشعل للحكم الجديد بالسودان: التطبيع مع إسرائيل "سراب زائف"
- هآرتس: رشاوى وثري سعودي وتهريب أسلحة.. التاريخ السري للعلاقات بين إسرائيل والسودان
- ضرب اليرموك السوداني ومأزق نتنياهو الداخلي
- كيف تتحرّك إسرائيل لضمّ السودان إلى "قائمة التطبيع"؟
- إسرائيل تعتبِر الربيع العربي "شتاءً سلفِيا مليئا بالمفاجآت"
- "إسرائيل والبيئة الإقليمية".. كيف استغلت الربيع العربي؟