كورونا أعاد الجدل مرة أخرى في المغرب.. حكومة أحزاب أم تكنوقراط؟
.jpg)
أيهما أفضل في العمل الحكومي، الوزير المنتمي لحزب سياسي بعينه؟ أم الوزير التكنوقراط؟، هذا الجدل والنقاش عاد مرة أخرى للواجهة في المغرب، مع ظهور جائحة فيروس كورونا.
الجائحة رفعت من قدر وزراء وهوت بآخرين، ما جعل البعض يتساءل عن التغييرات التي يمكن أن تعرفها الخارطة السياسية في المغرب ما بعد كورونا. خاصة مع قرب انتخابات 2021.
رسائل 2021
وزير الصناعة والتجارة حفيظ العلمي، يحرص على الظهور الإعلامي المستمر من خلال مساهمة وزارته في مواجهة كورونا، وهو ما اعتبره البعض رسائل سياسية سابقة لأوانها.
صرح العلمي أن دولا أوروبية طلبت شراء الكمامات من المغرب، لكنه رفض الصفقة وإن كانت مربحة للمغرب، لأن المواطن أولى بهذه الكمامات.
يظهر العلمي أكثر من وزير الصحة نفسه، خالد آيت الطالب، رغم أن الأزمة صحية تتعلق بقطاعه في المقام الأول، يتجاهل العلمي خلال حديثه رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، ويشير فقط إلى وزير المالية محمد بن شعبون ووزير الداخلية عبد الوافي لفتيت.
وهو ما أشار إليه الكاتب والناشط خالد البكاري في تدوينة له، معتبرا أن العلمي "يبعث برسائل لمن يهمهم الأمر، مفادها أن التكنوقراط هم من يخدمون البلد، في حين "البقية مجرد منفذين أو كومبارس".
استقرأ البكاري من خطاب العلمي داخل البرلمان، أن المنافسة السياسية المقبلة لن تكون بين حزب العدالة والتنمية (إسلامي) وحزب التجمع الوطني للأحرار (ليبرالي)، الذي يمثله وزير الفلاحة عزيز أخنوش.
من جهتها رأت صحيفة "أخبار اليوم" المغربية، أن تثمين دور التكنوقراط وتبخيس دور السياسيين في لحظة إجماع وطني لمواجهة كورونا، لا يبدو مجرد صدفة.
ورجحت أن وراءها طبخة انتخابية، لأن بعض من روجوا لها كتبوا في نفس الوقت عن امتعاضهم من استمرار حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة لولاية ثالثة، وأن المرحلة تقتضي تغييرا، ليس بحزب التجمع الوطني للأحرار، وهي الورقة التي يبدو أنها أحرقت، بل جرى الإيعاز بالبديل، من خلال التنويه بدور التكنوقراط.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة وجدة، عباس بوغالم، قال في تصريحات صحفية: "من الطبيعي أن تبرز القطاعات الأكثر ارتباطا بحاجات المواطنين الحيوية، لكن التركيز الإعلامي يتم على أشخاص بعينهم دون آخرين. وهو توجه يسمح بالتموقع بشكل أفضل في المرحلة المقبلة".
وتوقع بوغالم أن تدبير الجائحة قد يسهم في بروز شخصيات جديدة على الساحة السياسية، مقابل تراجع أخرى.
حكومة إنقاذ
رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية، سعدالدين العثماني، رد على الدعوات التي طالبت بحكومة للإنقاذ أو حكومة وحدة وطنية، مؤكدا أن هناك محاولة لتبخيس العمل السياسي، ومحاولة بث نوع من عدم الثقة في المؤسسات". وشدد العثماني على أن "كل تقدم وتطور، يبنى على مدى قوة المؤسسات السياسية وثقة المواطنين فيها".
أقر العثماني بوجود هجوم غير مفهوم، على كل ما هو سياسي والترديد بأنه لا حاجة للأحزاب السياسية، وأن هناك من ينادي بحكومة وحدة وطنية أو حكومة تكنوقراط، ومنهم من يصرح بذلك علنا.
رئيس الحكومة قال: "هناك من ينادي بذلك، من خلال خطابات مقَنَّعة، وهؤلاء غير قادرين على مواجهة الجمهور، ولا شرح أي أطروحة بديلة، ولا أثر لهم في الساحة لمواجهة التغليط والتبخيس، بل هم من يمارسون ذلك أحيانا".
وبخصوص الدعوة إلى حكومة إنقاذ وطني، اعتبر العثماني أن "لا معنى لذلك، فحكومة الإنقاذ الوطني تكون في ظل الأزمة السياسية التي لا توجد في المغرب الآن، ولم يقل بذلك أحد".
وأضاف العثماني: "في جميع دول العالم التي تعرف أزمة فيروس كورونا، لم تلجأ إلى ذلك، جميعها واجهت الأزمة بحكومتها وبرلمانها، ونحن نواجهها بنفس الأدوات".
وقال أيضا: "هناك بناء دستوري متكامل، لا يمكن أبدا أن نخرج عنه، وأن نبخس الأحزاب السياسية، لكن من حق المواطنين المطالبة بالمصداقية وبتواصل الأحزاب معهم".
ويرى العثماني أنه بالمقابل، "على الأحزاب أن تتملك الديمقراطية الداخلية، وأن يكون بيدها القرار السياسي، ولا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في غياب الديمقراطيين".
النموذج الديمقراطي
الكاتب والمحلل السياسي بلال التليدي، تساءل "أي نموذج نريد للمغرب؟". واستطرد قائلا: "نموذج ديمقراطي تقوم فيه الأحزاب بدورها، وتسأل الحكومة فيه عن كل الملفات، بما في ذلك المآسي والكوارث التي تتطلب استدعاء الإجماع الوطني؟ أم نريد نموذج الإجماع، الذي تتوحد فيه المشاعر عند الأزمات، وتستدر فيه ثقافة التضامن والتوافق لتغطي على أخطاء التدبير؟"
وفي مقال الرأي، المنشور بصحيفة "اليوم 24" أكد التليدي أنه "ينبغي أن نحسم الجواب، فإذا كنا نريد النموذج الديمقراطي كما هو معروف في التجارب الديمقراطية، فهي أمامنا ناطقة، وما علينا إلا أن نقوي أحزابنا، ونضمن استقلالية قرارها الحزبي، ونقوي المؤسسات التي تستطيع أن تصمد عند الاحتكاكات القوية التي يحدثها هذا النموذج ويحقق بها الخروج الآمن من الأزمات".
وختم الكاتب مقاله قائلا: "إذا كنا نثق في نموذج الإجماع، المتأتي من الاختلاط بين النموذج السلطاني ونموذج الدولة الحديثة بسلطة مركزية قوية، فينبغي على الأحزاب أن تفتح عينها على مراقبة هذا الإجماع، ورصد كل من يريد أن يتلصص عليه ويستغله لتفكيك ما ترسم من منظومات الحكامة، وما جرى تركيمه من منظومة الحقوق، وأن تحذر من العودة الكلية إلى منظومة الريع".
تاريخ التكنوقراط
في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1956، شكل ملك المغرب الأسبق محمد الخامس، أول حكومة بعد الاستقلال برئاسة البكاي بن مبارك لهبيل، وهو عسكري دافع عن العرش خلال فترة الاستعمار وساند الملك في منفاه بمدغشقر.
كافأ الملك حينها البكاي، وهو رجل سياسة مستقل، لم ينتم لأي حزب، فأعطاه شرف تأسيس حكومة الاستقلال، التي قادها لمرتين متتاليتين، وختم بتجربته نجاح الاستعانة برجال الدولة ممن يحملون كفاءات علمية وبعيدين عن صراعات الأحزاب السياسية.
كان البكاي أول رجل سياسة تكنوقراط في المغرب، فجاء بعده العشرات من النخب الذين تقلدوا مناصب عليا في البلاد، وأشرفوا على أكبر مؤسسات الدولة تنظيما وحساسية.
هذه النخبة هي مجموعة من الأغنياء وأبنائهم الذين درسوا في فرنسا خلال فترة الاستعمار فعادوا إلى الوطن برصيد معرفي كبير ولسان تمرس على الحديث باللغات الأجنبية.
بعد تربع الملك السابق الحسن الثاني على العرش خلفا لوالده، استعان برجال السياسة المستقلين، لكن هذه المرة تحت مسمى "التكنوقراط"، عقابا لأحزاب الحركة الوطنية التي ضمت نخبا سياسية كانت على صراع دائم مع النظام الملكي، حينها قرر الملك استبعادها من تدبير الشأن السياسي وتقليص دور الأحزاب التي تنتمي إليها.
فضل الحسن الثاني أن تكون حكومات عهده الأولى ترتكز بالأساس على التكنوقراط، فأوكل لهم أهم الوزارات في الحكومة، كوزارة الداخلية التي لم يحمل حقيبتها أي حزب سياسي نظرا لحساسيتها والدور الذي لعبته في عهد الحسن الثاني في تسيير البلاد، وأيضا وزارة الخارجية، بالإضافة إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي ظلت حكرا على التكنوقراط إلى يومنا هذا.
مع توالي الحكومات في المغرب، وتعاقب الملوك الثلاثة منذ فترة ما بعد الاستقلال إلى اليوم، لم تخل الحكومات المغربية من التكنوقراطيين، الذين يتميزون بقربهم من السلطة العليا التي تُسير الدولة، وبمؤهلاتهم العلمية العالية وكفاءاتهم الأكاديمية الاستثنائية، كل هذه معايير تجعلهم الأسهل لمسايرة اختيار الدولة في برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
موازين القوى
عبد الإله السطي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس في الرباط، يقول: "ملوك المغرب استعانوا بخدمات التكنوقراط لتدبير الشأن العام بالمغرب، وهو خيار إستراتيجي اتبعته المملكة، لسد الفراغ المؤسساتي الذي كانت تعاني منه المؤسسات الدستورية جراء الصراع السياسي الذي كان قائما آنذاك بين المؤسسة الملكية وأحزاب الحركة الوطنية المعارضة".
ونفى السطي في حديثه لـ"الاستقلال" أن يكون اختيار التكنوقراط "حلا ترقيعيا لجأت له السلطة، إذ اعتبره: خيارا منهجيا لتوطيد ثوابت الحكم والسلطة السياسية الملكية، في خضم ظروف سياسية واجتماعية تخللها صراع سياسي حول الحكم بالمغرب. ليتحول فيما بعد إلى أسلوب ملكي في تدبير الشأن العام من داخل الحكومة، وأيضا لترجيح موازين القوى داخل المؤسسة الحكومية".
استمرت ظاهرة التكنوقراط إلى عهد الملك الحالي، محمد السادس، فمنذ توليه الحكم اختار أن يستعين بكفاءات البلاد لتسيير الحكومات في عهده، خصوصا أول حكومة، التي عرفت إدماج المعارضين وقادها عبدالرحمن اليوسفي تحت مسمى حكومة التوافق.
مع أول حكومة قادها الإسلاميون لأول مرة في تاريخ المغرب تضمنت الحكومة وزراء من 4 أحزاب بالإضافة إلى 3 وزراء تكنوقراط، وهما الأمانة العامة للحكومة والوزارة المنتدبة لإدارة الدفاع الوطني ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وكانت تلك المرة الأولى التي أُوكلت فيها وزارتا الداخلية والخارجية إلى أحزاب سياسية منتخبة.
صلب النقاش
السطي قال: "وضع مسألة تعيين التكنوقراط مقابل حضور الديمقراطية أو غيابها لا يستقيم، لسبب بسيط هو أن اللجوء إلى كفاءات لتحمل حقائب وزارية من دون أن يكون لها غطاء حزبي أمر معمول به داخل أعرق الديمقراطيات".
وتابع: "ليس بالإمكان أن تتوفر جميع الأحزاب السياسية الفائزة بالانتخابات على جميع الكفاءات المطلوبة لتدبير الشأن العام، لكن الإشكال هنا هو: هل اللجوء لتوظيف كفاءات تكنوقراطية داخل حكومة السيد سعد الدين العثماني كان نابعا عن خيار وقناعة، أم هو نابع عن توجيه من خارج المؤسسة الحكومية؟".
واستطرد المتحدث: "الاستعانة بالتكنوقراط لغياب الكفاءات في الأحزاب السياسية هو صلب النقاش الذي يجب أن يطرح داخل الأحزاب السياسية، فلماذا في كل نسخة حكومية يتم اللجوء إلى كفاءات من خارج تنظيماتها المؤسساتية؟ هل الأحزاب المغربية لم تعد قادرة على فرز نخب قادرة على خلق الفارق في تدبير الشأن العام؟".
الجواب، بحسب السطي: "نجده في تقلص دور الأحزاب في عملية التأطير والتعبئة، إذ كانت تلهم الأفكار والنقاشات السياسية الواعية بشأن هموم وانشغالات المواطنين، النخب للانخراط في المشاريع الحزبية، وهو ما أفرز لنا في سنوات سابقة كفاءات حزبية متمكنة من أدوات تدبير الشأن العام والسهر على احتواء مطالب وإرادة المواطنين".
وردا على توقع الكاتب الصحفي إسماعيل الحمودي، بأن المغرب يقبل على حكومة تكنوقراط في انتخابات 2021، اعتبر أستاذ العلوم السياسية الأمر مخالفا للدستور المغربي الذي يعتبر واضحا في هذا الباب، "فتعيين رئيس الحكومة يكون من الحزب الفائز بأعلى نسبة من المقاعد الانتخابية، ومن صلاحيات هذا الأخير اقتراح أعضاء حكومته، وبالتالي مسألة حكومة تكنوقراط لا تستقيم مع روح الدستور ومضمونه".