التراث الكتابي لجمال خاشقجي.. تاريخ لا يستطيعون قتله

أحمد مدكور | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

يوم الأربعاء 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أكدت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية الواسعة الانتشار، أنها لا تزال غير قادرة على الوصول لكاتبها الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، الذي اختفى قبل يوم داخل قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول التركية، ولم يعثر له على أثر.

وعبر حسابها الموثّق على موقع تويتر، غردت "واشنطن بوست" بفقرة مقتبسة من مقال نشرته محررة الشؤون الدولية بالصحيفة، كارين عطية، جاء فيها: "جمال.. إذا كانت لديك الفرصة لقراءة هذا، فرجاؤنا أن تعلم أننا نأمل أن تظهر آمنا معافى.. لن أرتاح حتى تكون أنت كذلك".

لم يجب جمال، ولم يظهر منذ ذلك الحين مرة أخرى، ففي 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أعلنت السعودية لأول مرة عبر نائبها العام مقتل الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده بإسطنبول.

مات الشخص وبقيت القصة، وتظل كلماته ومقالاته التي دونّها شاهدة له وعلى الذين قتلوه، وكما قال يوما: "قل كلمتك.. وامش"، إذ كانت "واشنطن بوست" المنفّذ الأبرز الذي اختاره خاشقجي لينشر من خلاله مقالاته وقراءاته لما آلت إليه حال بلاده، وأوطانه العربية، وهي المقالات التي كان لها أثر بارز في الرأي العام السعودي والعربي.

وهي المقالات نفسها التي أزعجت نظام المملكة، وولي العهد محمد بن سلمان الذي اختار سياسة قمع معارضيه كمنهج لحكمه، ما دفع ثمنه خاشقجي من حياته عندما قُتل بطريقة بشعة، وقُطّع جسده داخل قنصلية بلاده في إسطنبول.

صعوبة البداية وتراجيدية النهاية

في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، كانت الزيارة الأولى من جمال خاشقجي؛ بصفته كاتبا في صحيفة "واشنطن بوست" إلى مقرها، ونشر تغريدته الأولى معبرا عن سعادته بالمهمة الجديدة.

وفي سبتمبر/ أيلول 2017، غادر خاشقجي السعودية في ظروف صعبة وقاسية، وكتب أولى مقالاته للصحيفة: "السعودية لم تكن قمعية إلى هذا الحد. أصبحت الآن لا تطاق".

وقال في خاتمة مقاله: "هذه المرة، اتخذت خيارًا مختلفًا. لقد تركتُ بيتي وعائلتي ووظيفتي ورفعتُ صوتي. ولو فعلتُ غير ذلك، فهذا يعني أنني أخون أولئك الذين يقبعون في السجن. أنا أستطيع أن أرفع صوتي عندما لا يستطيع الكثيرون ذلك. أريد أن تعرفوا أن هذا لم يكن حال السعودية على الدوام. نحن السعوديون نستحق ما هو أفضل".

اختار خاشقجي "واشنطن بوست" لتكون منفذه الأهم والأخير لكتابة مقالاته إلى الرأي العام السعودي والعالمي؛ وذلك من خلال تواصله مع كارين عطية محررة الآراء الدولية بالجريدة التي ساعدته على نشر مقالاته.

وفي 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، وفي نفس يوم اختفاء خاشقجي، كتب محرر الآراء الدولية في الصحيفة، جيسون رازيان، مقاله بعنوان  "المساهم في صحيفة واشنطن بوست، والناقد السعودي البارز جمال خاشقجي مفقود في تركيا".

وذكر رازيان في معرض حديثه أن الصحيفة، حرصت خلال الأشهر الأخيرة على ترجمة مقالاته إلى اللغة العربية؛ من أجل الوصول إلى جمهوره الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، كتبت كارين عطية مقالاتها التي جاءت بعنوان "إسكات جمال خاشقجي"، وقالت: "لقد تواصلتُ معه في سبتمبر/ أيلول 2017، من أجل كتابة أول مقال له على واشنطن بوست، التي أعرب فيها عن [أسفه لأن قمع السعودية أصبح لا يطاق؛ إلى حد أنه قرر مغادرة البلاد، والعيش في منفاه بواشنطن]".

وتابعت عطية: "جذب المقال انتباها كبيرا في السعودية والمنطقة المحيطة بها، وكان أيضا أول مقال نترجمه للغة العربية في قسم الآراء العالمية".

انتقد سياسات المملكة

في مقاله الأول لواشنطن بوست الذي نشر بتاريخ 18 سبتمبر/ أيلول 2017، بعنوان "السعودية لم تكن قمعية إلى هذا الحد.. أصبحت الآن لا تطاق"، تحدث خاشقجي عن "إجراءات القمع والترهيب والتخويف العلني للمثقفين ورجال الدين الذين يجاهرون بآرائهم".

وعن طبيعة الأوضاع الاستبدادية داخل المملكة، قال جمال: "في الأشهر الأخيرة، اتخذت السعودية سلسلة من السياسات الجديدة والمتشددة بدءًا بالمعارضة الكاملة للإسلاميين، وصولًا إلى تشجيع المواطنين على اقتراح أسماء لإضافتها إلى قائمة الحكومة السوداء. وكانت أسماء المعتقلين مدرجة في تلك القائمة؛ فقد طالب كتّاب الرأي المقربين من القيادة السعودية مرارا باجتثاث الإسلاميين".

وفي خاتمة المقال قال: "أريد أن تعرفوا أن هذا لم يكن حال السعودية على الدوام.. نحن السعوديون نستحق ما هو أفضل".

"ما الذي يمكن للسعودية أن تتعلمه من "بلاك بانثر"؟"، كتب جمال خاشقجي هذا المقال بتاريخ 18 أبريل/ نيسان 2018، الذي استوحاه من الفيلم الأمريكي "بلاك بانثر".

وقال خاشقجي: "إن أرادت المملكة اتخاذ خطوة أخرى إلى الأمام، فهي بتشجيع الديمقراطية والمشاركة الشعبية في الشرق الأوسط، فسوف يكون ذلك الوسيلة الأكثر فعالية لضمان استقرار المنطقة، وأيضا تحمي نفسها من تهديدات جيرانها. سيبدو غريبا دعوة بلاد تفتقر للديمقراطية مثل السعودية، أن تستخدمها لاستعادة السلام من حولها، الفرق هنا أن السعودية تحتاج الديموقراطية للوصول الى حكم راشد، بينما السوريون واليمنيون يحتاجونها لكي يتوقفوا عن قتل بعضهم البعض".

وفي 9 سبتمبر/ أيلول 2018، وعبر مقال له نشر في صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، انتقد الإعلامي السعودي، تعامل المملكة خلال أزمتها الأخيرة من كندا، معتبرا أن سياسات المملكة هي من جلبت لها الانتقادات الدولية المتتالية.

وقال: "في الساعات الـ48 الماضية، يبدو أن السعودية أخطأت في التعامل مع كندا، وهي عضو في مجموعة الدول السبع وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، وحليف بارز للعديد من الدول الأوروبية".

وتابع في نفس المقال: "وفي الأسبوع الماضي، اعتقلت المملكة سمر بدوي، شقيقة المدوّن المسجون رائف بدوي؛ ما دفع وزارة الخارجية الكندية لإصدار بيان باللغة العربية عبر حسابها على تويتر حثّ السلطات السعودية على الإفراج فورا عنها، إلى جانب زميلتها الناشطة نسيمة السادة".

البيان الكندي أثار غضب السلطات السعودية ودفعها إلى اتخاذ إجراءات ضد كندا؛ حيث ردت المملكة باستدعاء سفيرها في أوتاوا، وتجميد العلاقات التجارية مع كندا، وسحب الطلاب السعوديين من جامعاتها، وحتى إلغاء الرحلات الجوية بين البلدين.

وعندما دعمت سفارة كندا في الرياض بيان حكومتها باللغة العربية، اعتبر المسؤولون السعوديون ذلك تحديا للسيادة الوطنية، وذلك على وسائل التواصل الاجتماعي المحلية، التي أصبحت على نحو متزايد ساحة معركة للسيطرة على الرأي العام الوطني وتعزيز النزعة الوطنية.

وفي ختام مقالته قال: "بدلا من أن نهاجم كندا، ألا يدفعنا ما حدث للتساؤل لماذا تحولت كندا المحبة للسلام ضدنا؟ نحن -السعوديون- بحاجة لرؤية الصورة الأكبر".

خاشقجي وبن سلمان.. ضربات السيف والقلم

في 4 نيسان/ أبريل 2018، كتب خاشقجي مقالا على "واشنطن بوست"، انتقد فيه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وتداولته عدد من وسائل الإعلام العربية. وأفاد المقال أن "ولي العهد يقدّم رواية محرّفة للتاريخ السعودي بادعائه أن المملكة كانت دولة عادية قبل عام 1979، وأن قيام الثورة الإيرانية هو ما دفع بلاده إلى التشدد"، مشيرا إلى أنه في ذلك التوقيت، وعلى عكس رواية ولي العهد، لم يكن يسمح للمرأة بالقيادة، ولم تكون دور السينما في البلاد رسمية.

وقال خاشقجي: "إن ولي العهد -في طريقه لتحديث المملكة- ويرسي أسسا راديكالية سلطوية جديدة؛ لتحل محل الراديكالية التقليدية لرجال الدين".

وفي ختام مقاله صرح: "في السعودية الحالية، لا يجرؤ الناس ببساطة على الكلام؛ حيث تضع السلطات أي شخص يجرؤ على رفع صوته على القائمة السوداء، بالإضافة إلى سجنها المفكرين المنتقدين المعتدلين والشخصيات الدينية، مع الحملة المزعومة لمكافحة الفساد على العائلة المالكة ورجال الأعمال الآخرين".

وفي 23 مايو/ آيار 2018، كتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي مقالا آخر، مهاجما حملة الاعتقالات التي شنها ولي العهد السعودي ضد مجموعة من الناشطين والصحفيين في المملكة، وفي مقدمتهم المعتقلة الحقوقية، لجين الهذلول.

واعتبر خاشقجي، أن الاعتقالات تسلط الضوء على أكبر مأزق يواجه السعوديين؛ وهو التخلي عن حريتهم السياسية وحقهم في إبداء الرأي مقابل الحصول على بعض الحقوق الاجتماعية. كما أشار مقال الصحفي السعودي إلى أن فرص الإصلاح السياسي والحريات الشخصية في السعودية صارت تتضاءل يوما بعد يوم.

وفي مستهل مقاله، قال خاشقجي: "من العجيب رؤية رموز الإصلاح، الذين بلغوا 60 و70 عاما من العمر، يوصفون بالخونة على الصفحات الأولى من الصحف السعودية، وجرى اعتقال النساء والرجال الذين دافعوا عن نفس الحريات الاجتماعية التي يقدمها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الآن في المملكة العربية السعودية، الأسبوع الماضي. ولقد صدمت حملة القمع حتى المدافعين الأكثر قوة عن الحكومة".

وأضاف في مقاله اللاذع: "فهل هناك طريق آخر يمكن أن نسلكه؟ هل يجب على السعوديين الاختيار بين دور السينما وحقوقهم كمواطنين للتحدث بصوت عال، سواء في دعم أو انتقاد أفعال الحكومة؟ هل كل دور السعوديين هو الاحتفاء بقرارات القائد الفذ ورؤيته المستقبلية، في مقابل الحق في العيش والسفر بحرية لأنفسهم ولزوجاتهم وأزواجهم وأطفالهم أيضا؟".

وزاد متسائلا: "هل يجب أن نقبل، مع الامتنان، بالإصلاحات الاجتماعية التي طالبنا بها منذ فترة طويلة، مع التزام الصمت بشأن مسائل أخرى، بدءا من المستنقع اليمني، والإصلاحات الاقتصادية المنفّذة على عجل، وحصار قطر، والمناقشات حول التحالف مع إسرائيل لمواجهة إيران، وسجن العشرات من المثقفين ورجال الدين السعوديين؟".

وفي 5 يناير/ كانون الثاني 2018، ومع اندلاع الاحتجاجات الإيرانية العارمة التي اجتاحت العاصمة طهران وعدد من المدن الإيرانية الأخرى، كتب خاشقجي مقالا بعنوان "لماذا على ولي العهد السعودي أن يقلق من الاحتجاجات الإيرانية؟".

وقال فيه: "لقد حان الوقت أن يتحرر بن سلمان من مخاوفه من الديمقراطية والربيع العربي الحقيقي، بعدما تحرر من قلقه المستحق من التوسع الإيراني. ما الذي يمنع السعوديون من التساؤل عن سبب قبول الدولة باحتفالات الحرية والديمقراطية والعدالة فقط للإيرانيين؟".

وفي 13 سبتمبر/ أيلول 2018، نشر الصحفي مقالته الأشرس، منتقدا سياسة بلاده وولي العهد السعودي إزاء حرب اليمن، وقال في مقال بعنوان "على ولي عهد السعودية حفظ كرامة بلاده بإنهاء الحرب المتوحشة في اليمن": "على السعودية أن تواجه الأضرار التي نجمت عمّا یزید عن ثلاثة أعوام من الحرب في الیمن. فقد تسبب الصراع في تخريب علاقة المملكة بالمجتمع الدولي وأثّر على الوضع الأمني الإقليمي، وأضر بسمعة المملكة في العالم الإسلامي".

وتابع: "ينبغي على ولي عهد السعودية أن یقبل أيضا بدور الحوثيين والتجمع اليمني للإصلاح والانفصاليين الجنوبيين في حكم الیمن مستقبلا. من الطبيعي ألّا تتمكن الرياض من الحصول على كل ما تریده، وينبغي أن تترك الیمنیین ليحلوا خلافاتهم مع الحوثیین ضمن مؤتمر وطني، بدلًا من سفك الدماء في ساحات الوغى".

"ما الذي يمكن أن يتعلمه ولي العهد السعودي من الملكة إليزابيث الثانية؟" هذا المقال كتبه خاشقجي بتاريخ 2 مارس/ آذار 2018، وقال فيه: "يحب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إعلان إصلاحاته كما لو كانت نوعاً من العلاج بالصدمة. لقد تعهد بتطليق المتطرفين الإسلاميين، معلنا بشكل مسرحي "سوف ندمرهم".

وواصل في المقال ذاته: "كان قد أعلن حربه على الفساد، التي شمل سجن عدد من الأمراء في فندق ريتز كارلتون الرياض، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وصار ذلك بمثابة عضّ على الأنامل بالنسبة للمواطنين السعوديين، بل وحتى بالنسبة للآلاف من أفراد العائلة الملكية الحاكمة ولكبار الأثرياء في قطاع التجارة والأعمال من غير الأمراء".

كيف وصفه زملاؤه؟

محررة الشؤون الدولية في "واشنطن بوست"، كارين عطية، والزميلة الأقرب إلى جمال خاشقجي من خلال تعامله المباشر معها؛ حيث كانت هي المسؤولة عن نشر مقالاته، وصفته قائلة: "إنه متحمس ويعمل بجد، وربما الأكثر أهمية أنه شخص طيب للغاية. كصحفية ومحررة، فقد تعلّمتُ الكثير منه ومن تجاربه. أنا لا أراه زميلا في مجالنا فقط، بل أراه مصدر إلهام أيضا".

بينما قال المحرر في الشؤون الأمنية بالصحيفة، ديفيد إغناتيوس: "من ذكرياتي المفضلة مع جمال يناير/ كانون الثاني 2011، عندما بدأ الربيع العربي في الاشتعال، وكان في غاية الابتهاج، كانت تلك بمثابة اللحظة التي انتظرها طوال عمره، وما أتمنى أن يفهمه الناس عن جمال كم كان إنسانا لطيفا ومحترما وذو ذهن وقّاد".

مقطع لزملاء جمال خاشقجي في الواشنطن بوست وهم يتحدثون عنه

إلى أي مدى أقلقت مقالات خاشقجي النظام السعودي؟

21 مقالا كتبه جمال خاشقجي في صحيفة "واشنطن بوست"، 11 منها متعلقة بشكل مباشر بسياسات ولي العهد السعودي، وكان يمدح وينقد، ويعترض ويوافق، ويؤيد بعض الإصلاحات التي يقوم بها محمد بن سلمان، ويعارض بعضها أيضا.

لم يكن راديكاليا، ولم يطالب بإسقاط حكم العائلة السعودية للبلاد كما يفعل غيره من المعارضين في الخارج؛ ما جعل صوته مسموعا بقوة داخل البلاد، مع تمتعه بعلاقات واسعة تضم معارضين، ومسؤولين حكوميين، وإعلاميين وصحفيين غربيين، وأكاديميين ومثقفين ذوي شهرة وتأثير عالمي.

ويعكس عموده الأسبوعي في الصحيفة الأميركية، مدى شهرته وتأثيره، الأمر الذي جعل الجريدة الكبرى تُبقي عمود مقاله فارغا في الموعد الأول لنشره بعد اختفائه.

ربما هذه الأسباب مع أخرى، دفعت النظام السعودي إلى تصفية جمال خاشقجي؛ الذي كانت مقالاته في "واشنطن بوست" بمثابة شهادة بارزة على ذلك العصر في المملكة، عصر محمد بن سلمان.