الموقف الدولي من انقلاب تونس.. خريطة معقدة وتأثيرات مستمرة
.png)
المحتويات
المقدمة
أولا: مقدمات الأزمة التونسية والمواقف الدولية منها
أ. البواعث الداخلية للأزمة
ب. المواقف الدولية الاستهلالية
صناعة جذور الأزمة
الموقف في أعقاب الأزمة مباشرة
خريطة المواقف الإقليمية
خريطة المواقف العالمية
ثانيا: تطورات المواقف الدولية
أ. تطور المواقف الإقليمية
ب. تطور المواقف الدولية
خاتمة
المقدمة
المواقف الإقليمية والدولية من الأزمة التونسية المرتبطة بقرارات الرئيس قيس سعيد من مجلس نواب الشعب (البرلمان التونسي) والحكومة وحتى مؤسسة القضاء التونسية، مرت بثلاث مراحل، بدأت بصناعة هذه الأزمة، ثم تأسيس المواقف الاستهلالية، وانتهاء ببلورة المواقف التي نراها اليوم.
الفرضية الأساسية في هذه الدراسة أن الأزمة مصنوعة، وأنه جرى فيها استغلال عوامل شتى بدءا من طبيعة النظام التونسي الهجين، وحداثة العهد بالديمقراطية، واختلال منهج التعاطي مع أبعاد الأزمة ما بين الأيديولوجي والاجتماعي – الاقتصادي.
وبذل أطراف هذه الأزمة جهودا سنأتي على ذكرها لتجفيف منابع الاستقطاب، وتقديم التنازلات المتبادلة، إلى أن سلمتها تفاعلات الداخل التونسي إلى الفاعلين الخارجيين بعيدا عن الإرادة التونسية.
وبشكل عام، فإن ما أدى لصناعة هذه الأزمة، واستقرار غالبية المواقف الدولية فيها بالاتجاه لدعم توجه الرئيس قيس سعيد هما مساران.
أولهما أيديولوجي ثنائي العوامل (الأنظمة المحافظة تعادي التغيير وتشوهه – لا بد من استبعاد التيار الإسلامي المعتدل من العقل السياسي العربي)، وثانيها جيوإستراتيجي.
فكيف حكم هذان المساران ردود الأفعال الدولية؟ الدراسة تقدم اجتهادا في الإجابة على هذا السؤال.
أولا: مقدمات الأزمة التونسية والمواقف الدولية منها
لا يمكن فصل المواقف الدولية من الأزمة عن بواعثها، حيث كان الاستثمار في المشكلة ودوافعها التي تحدثنا عنها في المقدمة هي الحاكمة؛ ليس فقط لتعزيز مواقف الدول التي صنعتها، ولكن أيضا لدعم استمرارية مواقفها، واتجاه تطور هذه المواقف.
كيف تطورت المواقف الدولية من صناعة الأزمة إلى مرحلة المواقف الأولية؟
أ. البواعث الداخلية للأزمة
يمكن القول إن الأزمة السياسية التي شهدتها تونس تجد تفسيرا لها في عدد من المحددات التي يمكن إجمالها فيما يلي:
1. النظام السياسي الهجين وتداعياته: اتجهت تونس منذ عام 2014، إلى التموقع بين النظامين البرلماني والرئاسي، ما ساهم في تعميق الخلافات بين رأسي السلطة التنفيذية (رئيس الدولة المنتخب ورئيس الحكومة الحائز على ثقة "مجلس نواب الشعب التونسي" / البرلمان)، فيما يتعلق بالصلاحيات الدستورية.
ويحد النظام الذي أقره دستور 2014، من هيمنة رئيس الجمهورية على الدولة، بينما تتوزع السلطة السياسية وفقه، على ثلاث مؤسسات، هي البرلمان "المنتخب مباشرة من الشعب"، ورئيس الجمهورية المنتخب أيضا مباشرة، إضافة إلى حكومة يمنحها البرلمان الثقة[1].
وأثار النظام الهجين إشكالا من زاويتين؛ أولاهما اتباع هذا النظام في دولة حديثة عهد بنظام رئاسي مفرط في القوة والقمع، ورئيس يميل لتفتيت سلطة الشعب وفق نموذج حكم شعبي يراه الأكثر جدوى في مواجهة أية تحديات يمر بها أي بلد.
2. الوضع الاقتصادي الاجتماعي: رغم أن الوضع الصحي لتونس كان العماد الرئيس للجوء الرئيس التونسي قيس سعيد لقرارات 25 يوليو/تموز 2021، إلا أنه لم يكن وحده السبب المباشر للأزمة.
إذ يعاني التونسيون أيضا من تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ومن تعثر عمل مجلس نواب الشعب، الذي تحول إلى ساحة خلاف أيديولوجي حادة، حالت دون إيلاء الاهتمام الكافي لمؤشرات اجتماعية قوية التأثير على قرار الناس وخياراتهم.
ومن ذلك، ارتفاع نسبة البطالة أكثر من 17 بالمئة، وتراكم الديون الخارجية التي تجاوزت 35 مليار دولار، وعجز ميزانية الدولة بما يفوق ملياري دولار، وهجرة العقول التونسية بالآلاف، وتدهور للقدرة الشرائية للدينار (العملة المحلية).
وأيضا، تدهور خدمات الإدارة العمومية، وشريحة سياسية موروثة عن نظام ما قبل الثورة، تمكنت بفضل عوائد الفساد من تعطيل تفعيل الهيئات الدستورية[2].
تلبية الاحتياجات الاجتماعية للناس تمثل محورا مهما في كسب الرضا عن الوضع السياسي القائم، وهو ما أدى للتأثير في التجربة التونسية لأن النخبة السياسية الراهنة انشغلت بالشأن السياسي عن الاقتصادي الاجتماعي.
لا يمكن التقليل من أهمية صوغ الوفاق الذي شرعت القوى السياسية في استحداثه، لكن قدما واحدة لم تكن تكفي لتستمر الثورة التونسية في طريقها بغير انتهاز سياسي.
3. الانقسام المدعوم خارجيا: رغم جهود حركة النهضة الإسلامية في مواجهة محاولات بث الاستقطاب الأيديولوجي السافر في أوساط الشريحة السياسية، وتمكنها من عقد تفاهم مع قطاع واسع من هذه النخبة، فإن قطاعا من هذه النخبة كان مدفوعا بحرارة زائدة عن الحد، وتخوفات غذتها أطراف إقليمية، لمنع الإسلاميين من أن يكونوا شركاء في إنجازات المشهد التونسي[3]، ما أدى إلى حالة من الجمود المؤسساتي القوي والصراع السياسي الداخلي[4].
عطفا على المحور الفرعي السابق، وبعيدا عن محاكمة نوايا "سعيد"، فإن الوضع الاقتصادي الاجتماعي المتدهور أدى للتأثير في التجربة التونسية.
تمثل ذلك في أن النخبة السياسية الراهنة تغافلت عن واقع أن تونس حديثة عهد بالديمقراطية، وأن موروث القوة التنفيذية المرتبط بتلبية الحد الأدنى من ضروريات الحياة بالغ التأثير في ملامح المستقبل الآخذ في التشكل، وأن الفكر السياسي للرئيس التونسي قد ينحو لانتهاز هذا الوضع، وأن الوضع الإقليمي سيسانده في هكذا خطوة.
وأدت تدخلات الرئاسة في هذا الوضع إلى تعميق الأزمة، ما بلغ حد مطالبة حزبي "التيار الديمقراطي" و"الشعب" بسحب الثقة من رئيس البرلمان الذي يعتبر شريكهم في الحكم، ما دفع لاستمرار سير تونس في مسار الجمود السياسي المصطنع[5].
4. التدخل الإقليمي: لا يمكن فصل تونس عن محيطها الإقليمي الذي كان يرغب في التأثير بالتجربة التونسية من مدخلين.
المدخل الأول يرتبط بمسار محور الثورة المضادة الذي كان يريد تشويه التجربة التونسية من زاويتين؛ أولاهما زاوية نجاعة منهج الثورة الشعبية في معالجة ميراث الاستبداد، وهو ما يحيل إلى منهج معالجة الاستبداد السيئ بآخر جيد، أو إلى تفضيل الاستبداد على حالة السيولة.
ويرتبط بالمدخل الأول كذلك الرغبة في إقصاء التيارات الإسلامية الوسطية من المشهد، ورفع التكلفة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لحضورهم في مشهد ديمقراطي فعال[6].
أما المدخل الثاني فيتمثل في رغبة القوى الإقليمية في التمهيد للمشهد الرئاسي في ليبيا[7]، ما اقتضى أن يكون الشمال الإفريقي بأكمله رئاسيا؛ وهو ما يقلص فرص الضغط من أجل تسوية يناور بها قطاع من الليبيين مطالبين بنموذج نيابي على غرار تونس.
وهذا سيؤدي – بنظر القطاع المذكور – إلى الحد من احتمال توجه طرابلس مجددا نحو إعادة تكرار فترة النظام الأسبق بقيادة العقيد معمر القذافي، أو سائر خبرات الاستبداديات العربية[8].
وكانت تقارير قد أشارت إلى قلق الإمارات من وضع الحدود التونسية - الليبية التي تخضع لسيطرة "حكومة الوحدة الوطنية" آنذاك، والتي يدعمها خبراء أتراك، علاوة على أن قطاعا كبيرا من التونسيين الجنوبيين يتعاطفون مع القوات الليبية بدافع كره العسكري الليبي المنقلب "خليفة حفتر"[9].
ب. المواقف الدولية الاستهلالية
كيف حكمت الاعتبارات السابقة تطور الموقف الدولي من الوضع في تونس؟ صاغت هذه العوامل تفاعلات الأزمة على مرحلتين.
الأولى تمثلت في عملية صناعة الأزمة نفسها عبر وسيط داخلي. ليأتي الدور على الدول صانعة الأزمة في تكريس نتائج هذه الأزمة، كيف؟
1. صناعة جذور الأزمة: رغم أن هذه الدراسة تعنى بالمواقف الدولية من الأزمة التونسية وتطوراتها، فإن البدء بالحديث عن مسبباتها كان أحد أبرز المداخل للتطرق إلى الدور الإقليمي والدولي في إنضاج المشكلة، التي كان مفتاحها الدور السياسي لدولة الإمارات العربية المتحدة.
لم يكن دور الإمارات بعيدا عن جذور الأزمة في تونس، رغم أن السلطة التنفيذية فيها لم تستجب لطلبات التدقيق في تمويلات "الحزب الدستوري الحر".
وبرغم غياب تحقيق وإدانة واضحين لدورها في تونس، يبدأ التدخل الإماراتي في الأزمة بالتعاون مع "الحزب الدستوري الحر"، وهو ما يمكن الكشف عنه عبر عدة تحركات.
فمن ناحية، حضر سفير دولة الإمارات بتونس، راشد جمعة محمد المنصوري، الندوة الصحفية التي نظمها "الحزب الدستوري الحر" للإعلان عن برنامجه الاقتصادي والاجتماعي، في 26 أبريل نيسان 2019، وهو ما أثار آنذاك جدلا واسعا واستياء واستنكار العديد من السياسيين التونسيين[10].
ومن جهة ثانية، كشف مراقبون عن وجود تقارير إعلامية إماراتية مكثفة ومنتظمة تصل إلى حد الترويج إلى سيناريو اغتيال زعيمة الحزب عبير موسي تحيل إلى دعم رسمي إماراتي لها[11].
حملة من هذا القبيل، وبتلك المواصفات تعني الانحياز الواضح إلى طرف، ومحاولة "شيطنة" الآخر، واستغلال "فزاعة الإرهاب" التي دأبت الأنظمة العربية على استخدامها لوصف المعارضين والناشطين، وخاصة من التيارات الإسلامية.
ومن جهة ثالثة، يمكن الحديث عن الناشطة البلجيكية من أصول تونسية "منال المسلمي"، وهي عضو في الحزب البلجيكي الحاكم، وسبق لها أن زارت الكيان الصهيوني تحت لافتة "الحوار"[12].
شنت المسلمي حملة ضغط واسعة في البرلمان الأوروبي دعما لرئيسة "الحزب الدستوري الحر" عبير موسي، فضلا عن أن أحد مرتكزات دعايتها تطرقت لوجود تمويل قطري - تركي لـ"حركة النهضة" التونسية.
اجتماع المدخلات الثلاثة من زيارة الكيان واتهام "النهضة" بحصولها على تمويل، ودعم حزب لا يعنيه من السياسة التونسية إلا التربص بحركة النهضة، يشير إلى وجود علاقة بين هذا الحزب ودولة الإمارات التي عرفت بتمويلها أحزابا أوروبية، ورعاية الحوار الإسلامي– الإسرائيلي، ومحاربة المشاركة الإسلامية في المشاهد السياسية العربية.
وكان "مركز الإمارات للسياسات" نشر وثيقة مُؤرخة في الأول من يونيو/حزيران 2017، بعنوان "الإستراتيجية الإماراتية المقترحة تجاه تونس"، تضمنت الإشارة لـ"الحزب الدستوري الحر" باعتباره يضم المجموعات التي لا تزال تحافظ على "الوفاء" للرئيس السابق بن علي[13].
وخلال جلسة حوار نظمها مجلس نواب الشعب التونسي في نوفمبر/تشرين ثان 2020، مع محافظ البنك المركزي مروان العباسي حول موقفه الأخير من تمويل الميزانية التعديلية لعام 2020، أشارت "عبير موسي"، إلى تلقي حزبها تمويلات خارجية لم تفصح عن مصدرها.
وفي تصريحات لوسائل الإعلام التونسية بعدها أوضحت "موسي": "قلنا للبنك المركزي إننا لسنا مسؤولين عن إيداع أموال خارجية في حساب الحزب الدستوري الحر"[14].
وقبل أربعة أيام من إجراءات "سعيد" ضد مجلس نواب الشعب والحكومة، نشر "ضاحي خلفان"، نائب رئيس شرطة دبي، تغريدة حول "ضربة جديدة للإخوانجية"[15]، وبعد الإجراءات؛ نشر تغريدة أخرى بأنه كان يستشعر هذه الضربة قبل وقوعها[16]؛ عطفا على تغريدته السابقة.
وكانت فاتحة التدخل الإماراتي المباشر لإنتاج الأزمة التونسية ممثلة في زيارة وزير الخارجية الإماراتي "عبد الله بن زايد آل نهيان" لتونس في 28 يناير/كانون ثان 2020، واستقبال "سعيد" له، وأشارت وسائل الإعلام لمناقشة الشأن الليبي ضمن الملفات خلال تلك الزيارة[17].
وفي 14 مارس/آذار 2021، التقى "سعيد" بالحكومة الليبية الجديدة، لتدخل الترتيبات النهائية للانقلاب الدستوري في تونس بزيارته إلى القاهرة في 10 أبريل 2021، بدعوة من رأس سلطة انقلاب 3 يوليو عبد الفتاح السيسي.
وكانت العلاقات بين البلدين قد تدهورت بعد الانقلاب على الرئيس المدني المنتخب في مصر محمد مرسي. وتفيد التقارير المختلفة التي رصدت هذه الزيارة إلى أن موضوعها تمثل في النظرة إلى ليبيا ومستقبلها المرتبط بتغييرات سياسية في تونس، وأن مفتاح جرها لهذا الموقف تمثل في مشاركتها في كعكة "إعادة إعمار ليبيا"[18].
ومع اكتمال الترتيبات، جرى اتصال هاتفي بين "سعيد" وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان، قبل قرارات الأول بنحو الأسبوعين، في 12 يوليو/تموز 2021.
وأشارت بعض الصحف الإماراتية إلى موضوع الزيارة ليكون نفس مبرر "سعيد" لقرارات 25 يوليو، ألا وهو "تداعيات جائحة كوفيد 19"[19].
وفي نفس الإطار لعبت فرنسا دورا في التمهيد لهذه الأزمة ودعمها سياسيا، خاصة عن طريق الاتحاد الأوروبي.
وتميل فرنسا للتعاطي مع أنظمة استبدادية، ما يكشفه تحالفها مع سلطة 3 يوليو في مصر، وتعاطيها معها، وتمهيد الأجواء الأوروبية لاستيعاب هذه السلطة في المجال الدبلوماسي، وصولا لمجال التعاون العسكري عبر مشتريات الأسلحة.
وكانت فرنسا قد احتفظت بموطئ قدم من النفوذ لها في تونس بعد اتفاق الشراكة الإستراتيجية العسكرية الأميركية - التونسية (2020 - 2030) الذي وقعه البلدان في سبتمبر 2020[20].
واحتفظت فرنسا لنفسها بمجال حيوي مع كل من وزارة الداخلية التونسية، وقطاع من رجال الأعمال والمجتمع المدني.
إذ ترتبط باريس مع قطاعي الأمن ورجال الأعمال التونسيين بعلاقات تعود لفترة ما قبل استقلال تونس في مارس 1956، وشاب هذه العلاقات قدر عال من الفساد، كان آخرها "قضية البنك الفرنسي التونسي"؛ والتي يعدها مراقبون أكبر عملية فساد في تاريخ البلاد[21].
كما تهتم فرنسا بالشأن التونسي من باب آخر، وهو ليبيا، تحوطا لمناورات الأتراك الذين يتحركون لمحاصرة الحضور الفرنسي في حوض المتوسط وإفريقيا.
2. الموقف في أعقاب الأزمة مباشرة: تباينت مواقف القوى الدولية والإقليمية حيال إجراءات "سعيد" تجاه مجلس النواب والحكومة التونسية. ويمكن رسم ملامح خريطة المواقف فيما يلي:
خريطة المواقف الإقليمية:
سارعت الدول العربية لتقديم مساعدات لتونس خلال ذروة أزمة "جائحة كوفيد 19"، وكان واضحا أن أغلب الدول العربية حرصت على تقديم المساعدات عبر الرئيس قيس سعيد، كما كان لافتا أن المساعدات زادت بسرعة بعد عزل سعيّد لرئيس الحكومة وتجميد البرلمان.
وكانت أبرز الدول التي قدمت مساعدات صحية لتونس، هي الإمارات والسعودية ومصر والجزائر والمغرب والأردن والكويت وقطر، علاوة على مساعدات مالية قدمتها دولة إقليمية واحدة.
ويمكن إيجاز ملامح خريطة المواقف الإقليمية من الأزمة التونسية فيما يلي:
* موقف أبو ظبي: بعد إجراءات "سعيد" جرى اتصال بين وزير الخارجية الإماراتي ونظيره التونسي، عثمان الجرندي في 29 يوليو/تموز 2021، حيث أكد "بن زايد" دعم الإمارات لدولة تونس في ظل التطورات التي تعيشها حاليا.
وأعرب "عن ثقة دولة الإمارات ودعمها الكامل لتونس وتضامنها معها في مجابهة التداعيات الصحية والاقتصادية والاجتماعية لجائحة "كوفيد 19"[22]. ومع ما سبق تفصيله من موقف الإمارات في مرحلة صنع الأزمة، تعد هذه المكالمة كافية للتعبير عن موقف الدولة الخليجية.
* موقف القاهرة: لم يكن أقل تعبيرا من الموقف الإماراتي عن التضامن مع إجراءات "سعيد".
وكان لافتا أن الموقف المصري المعلن قد تبلور في نفس يوم إجراء المكالمة بين وزيري خارجية الإمارات وتونس.
وجرت مكالمة هاتفية كذلك بين وزيري خارجية مصر سامح شكري وفرنسا جان إيف لودريان، وليس تونس.
وذكر بيان للخارجية المصرية أن اتصالا بين الوزيرين أكدا فيه على "أهمية احترام إرادة الشعب التونسي ودعم مؤسسات الدولة في مسعاها لتحقيق الاستقرار والأمن للشعب"، ومعالجة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، خاصة في ظل تداعيات جائحة "كوفيد 19"[23].
واتجه الموقف المصري نحو التبلور مع صدور بيان وزارة الخارجية المصرية في مطلع أغسطس /آب 2021، والذي أعربت فيه عن ثقتها بقدرة الرئاسة التونسية على الخروج بالبلاد من الأزمة السياسية التي تمر بها. ودعت أطراف الأزمة إلى تجنب العنف[24].
* موقف الجزائر: يعد من أهم المواقف الإقليمية فيما يخص الأزمة، وهو موقف في ظاهره الحياد الذي ركزت وسائل الإعلام على حضوره، وفي باطنه مساندة "سعيد" فيما ذهب إليه من إجراءات.
والاتصال الهاتفي الأول لوزير الخارجية التونسي بعد تدابير "سعيد" كان مع الجزائر.
وخلال أقل من شهر، عقب التدابير التي أقدم عليها الرئيس التونسي قيس سعيد، أجرى وزير الشؤون الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، ثلاث زيارات إلى قصر قرطاج منها زيارتان في أقل من أسبوع (بين 26 يوليو/تموز والأول من أغسطس/آب).
أكد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في مقابلة مع وسائل إعلام محلية، في 8 أغسطس أن التواصل الدائم والمستمر بين بلاده وتونس "ليس تدخلا في الشأن الداخلي التونسي".
وأضاف: "نحن لا نستطيع التدخل في الشؤون الداخلية للشقيقة تونس، لأنها قادرة على حل مشاكلها بنفسها، ونحن معها في السراء والضراء".
واستطرد "تبون": "لكن لا يجب أن يضغط عليها أحد، ونحن لا نقبل أن يضغط عليها أي طرف مهما كان".
تقول مديرة جريدة "الفجر" الجزائرية (خاصة)، "حدة حزام"، إن الجزائر اختارت الحياد من خلال حصر التواصل على الرئيس التونسي دون غيره من الأطراف السياسية".
ولفتت إلى نفى "لعمامرة" تلقي بلاده طلبا من رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي زيارتها، وصرحت بأن الوزير أكد لها أن بلاده "لن تستقبل أي سياسي تونسي في الوقت الراهن، ولن تدعم أي جهة سياسية على حساب أخرى"[25].
الموقف الجزائري لم يقف عند حدود المساندة السياسية، بل تعداها للدعم التمويلي، فقد أعلنت الجزائر عن تقديمها قرضا ماليا بقيمة 300 مليون دولار، إلى تونس قبل يوم من زيارة الرئيس عبد المجيد تبون لتونس في 15 ديسمبر/كانون أول 2021[26].
ويمكن تفسير الموقف الجزائري في إطار التحفظ تجاه نموذج الحرية الذي عبر عنه
"حراك الجزائر"؛ ما بدا في تصريحات "تبون" حول النموذج الذي لا يناسب دول العالم الثالث. هذا فضلا عن حساسية الجزائر حيال التدخلات الخارجية.
ويضاف لما سبق، ثالثا، رغبة الجزائر في استقرار حدودها، علاوة على العرفان الذي تكنه للقيادة التونسية التي فتحت الباب لها في مواجهة التطويق الإستراتيجي الذي ضربته أوروبا حولها خلال الفترة الأخيرة[27]. ومن جهة خامسة، فإن مكافحة الإرهاب واحتواء التطورات السلبية في ليبيا يجمع البلدان[28].
* الموقف التركي: بعد قرارات سعيد، سرعان ما أكدت رفضها ما حصل في تونس، إذ علق المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن قائلا: "نرفض تعليق العملية الديمقراطية وتجاهل إرادة الشعب التونسي الصديق والشقيق، وندين المبادرات التي تفتقر للشرعية الدستورية والدعم الشعبي، ونعتقد أن الديمقراطية التونسية ستخرج أقوى".
ومن جهة اخرى، أبدت وزارة الخارجية التركية "قلقها البالغ جراء تجميد عمل البرلمان في تونس"، وأعربت عن أملها في إعادة إرساء الشرعية الديمقراطية في إطار أحكام الدستور التونسي بأسرع وقت"، وشددت على أن حماية هذه المكانة الاستثنائية لتونس ومكتسباتها الديمقراطية تحمل أهمية كبيرة بالنسبة للبلاد والمنطقة أيضًا.
وبدوره أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في اتصال هاتفي بنظيره التونسي قيس سعيد، أن استمرار البرلمان بأعماله رغم كل الصعوبات أمر مهم لديمقراطية تونس والمنطقة.
وأشار أردوغان إلى أهمية الحفاظ على استقرار تونس وسلمها الداخلي المهم لاستقرار المنطقة، لافتا إلى متابعته التطورات الأخيرة التي شهدتها مؤخرا من هذا المنظور[29].
ومرجع القلق التركي يتمثل بالعلاقة الأيديولوجية بين حزب العدالة والتنمية وحركة النهضة. وربما ترى تركيا أن أي إضعاف للتيار الهوياتي في العالم العربي يؤثر سلبا على علاقات تركيا بهذا المجال الحيوي لها.
هذا فضلا عن أن الفكر السياسي للرئيس "سعيد" عروبي يحمل هوى فرنسيا كبيرا، وهو ما جرى لمسه في علاقته معها ومضمون زياراته لها، وتجاهله "وثيقة طلب الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية" التي أعدها عدد من المفكرين والسياسيين التونسيين قبيل زيارته باريس وهي الوثيقة التي امتنع نواب النهضة عن التصويت ضدها لدواع سياسية داخلية وخارجية[30].
خريطة المواقف العالمية:
ومن جهة ثانية، يمكن إيجاز ملامح خريطة المواقف الدولية من الأزمة التونسية فيما يلي:
* موقف الولايات المتحدة: كان الموقف الاستهلالي لواشنطن متمثلا في إرجاء تقدير الموقف المرتبط باعتبار ما جرى في تونس انقلابا أم خلافه، وصرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي، في أعقاب الإجراءات مباشرة بأن "واشنطن قلقة إزاء التطورات"، وحثت على الهدوء في البلاد[31].
ولم يلبث وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلينكن" أن اتصل بقيس سعيد، ليخرج بيان وزارته متضمنا حث الرئيس التونسي على احترام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتشجيعه على "الاستمرار في الحوار المفتوح مع جميع الأطراف السياسية والشعب التونسي"، وتعهده بدعم الاقتصاد ومساعدة البلاد في مواجهة جائحة "كوفيد 19"[32].
وفي 31 يوليو، أجرى مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، اتصالا هاتفيا، مع سعيد، حيث "نقل فيه دعم الرئيس جو بايدن القوي للشعب التونسي وللديمقراطية التونسية القائمة على الحقوق الأساسية والمؤسسات القوية والالتزام بسيادة القانون".
وشدد سوليفان "على وجود حاجة ماسة لدعوة القادة التونسيين لرسم الخطوط العريضة لعودة سريعة إلى المسار الديمقراطي في تونس، وأن هذا سيتطلب تشكيل حكومة جديدة بسرعة بقيادة رئيس وزراء قادر على تحقيق الاستقرار في الاقتصاد التونسي ومواجهة جائحة كوفيد-19، فضلا عن ضمان عودة البرلمان المنتخب في الوقت المناسب"[33].
وفي 13 أغسطس، زار "جون فاينر" نائب مستشار الأمن القومي، تونس، برفقة كبير الدبلوماسيين الأميركيين لشؤون الشرق الأوسط "جوي هود"، لنقل رسالة من بايدن طالب فيها الرئيس التونسي بالعودة السريعة إلى مسار الديمقراطية البرلمانية، وضرورة تعيين رئيس وزراء مكلف، لتأليف حكومة قادرة على معالجة الأزمات الاقتصادية والصحية العاجلة التي تواجه تونس[34].
وكان الرئيس التونسي قد أقال رئيس الوزراء هشام المشيشي من دون أن يكلف غيره برئاسة الحكومة في ذلك، ما يعني احتفاظه بمنصب رئيس الحكومة إلى جانب منصب الرئيس. وبعد الضغط عين نجلاء بودن المقربة منه بالمنصب.
وبغض النظر عن "تقدير" الرئيس الأميركي جو بايدن للديمقراطية، فإن نظرة بلاده الموافقة بشروط على الإجراءات تنبع من مخاوف من أن يؤدي تفاقم الأحداث في تونس إلى حالة من الانفلات الأمني والفوضى السياسية، وبما يجعلها مشابهة للحالة الليبية.
وهذا الوضع يمثل مخاطر كبيرة على المصالح الأميركية، وهو ما يفسر الانخراط الواضح والمكثف لمؤسسات الولايات المتحدة خاصة مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، في متابعة وإدارة الأزمة التونسية[35].
وتستضيف السفارة الأميركية في تونس عدة مكاتب إقليمية؛ من بينها "مكتب ليبيا الخارجي"، وهو الذي يدير ويتعامل مع الكثير من الملفات والبرامج المرتبطة بطرابلس.
* الموقف الفرنسي: شهد الموقف الفرنسي من الأزمة التونسية قدرا مبكرا من التذبذب. فمن جهة، سارعت وزارة الخارجية الفرنسية للإعراب عن تطلعها لعودة المؤسسات إلى عملها بسرعة وتشكيل حكومة قادرة على مساعدة تونس في تجاوز ظروفها الصعبة.
ولم يلبث الموقف الفرنسي أن اتجه لإبداء دعم شبه مباشر للرئيس التونسي، وذلك عبر البيان الذي أصدره قصر "الإليزيه"، في 7 أغسطس، وأفاد أن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" عبر لنظيره التونسي عن استعداد باريس الوقوف بجانب بلاده من أجل الحفاظ على سيادتها والدفاع عن حريتها.
وأكد البيان أن تونس بوسعها أن تعول على فرنسا لتجاوز التحديات الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي تواجهها.
ويمكن تفسير الموقف الفرنسي الذي يبدو متضاربا من خلال التمييز بين موقف "فرنسا الدولة" و"فرنسا الحزبية".
فموقف "فرنسا الدولة"، والذي عبرت عنه الخارجية الفرنسية، اتجه نحو بلورة موقف أخلاقي للخارجية الفرنسية، لتتلافى به باريس موقفها الذي لقى استنكارا واسعا، حين عارضت "ثورة الياسمين"، مع اقتراح وزيرة الدفاع الفرنسية "ميشال أليو ماري" آنذاك تقديم الدعم اللوجستي لنظام ابن علي لقمع الحراك في الشارع التونسي.
أما الموقف الفرنسي البراغماتي الحزبي، فقد عبر عنه مسلك "الإليزيه"، والذي هدف لتعزيز التوجه نحو الإطاحة بحركة النهضة، ممثلة بالإسلام السياسي، وعدو فرنسا الأول في البلاد هذه الأيام.
كما ترغب في الإبقاء على حضور قوي في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، للمشاركة في بناء مستقبل ليبيا بالأساس[36].
* موقف الاتحاد الأوروبي: حرص الاتحاد الأوروبي من جهته على الخروج ببيان مشترك أصدره في 27 يوليو 2021، حث فيه الرئيس التونسي على الرجوع السريع إلى الاستقرار المؤسساتي، واستئناف عمل البرلمان، والحفاظ على المكتسبات الديمقراطية والأطر التشريعية[37].
فألمانيا التي تعد من أشد الدول الغربية حرصا على نجاح الانتقال الديمقراطي، وعملت على دعم وتمويل عدد من المؤسسات الديمقراطية في البلاد، قالت إنها لا تريد تسمية ما حدث "بالانقلاب"، مُكتفية بوصف ما حدث "بالتفسير الفضفاض للدستور"، ومؤكِّدة في الوقت نفسه قلقها من خطر هذه الخطوة على الديمقراطية التونسية.
ورأت أن الوضع في تونس يؤكد الحاجة الملحة إلى معالجة الإصلاحات السياسية والاقتصادية بسرعة. وأضافت: "لا يمكن أن ينجح هذا إلا إذا عملت جميع الأجهزة الدستورية معا بشكل بناء"، مؤكدة ضرورة استعادة قدرة البرلمان على العمل بسرعة[38].
كما ذهبت إيطاليا للموقف نفسه، إذ أبدت قلقها من الأزمة حسب ما عبَّر عنه وزير خارجيتها "لويجي دي مايو"، الذي قال إنه يثق في قدرة تونس على تجاوز الأزمة داخل حدود الإطار الديمقراطي[39].
ثانيا: تطورات المواقف الدولية
أ. تطور المواقف الإقليمية
لا يمكن القول إن غالبية المواقف الإقليمية قد شهدت تحولات نوعية، بل اكتفى التطور على الصعيد الكمي، وفي حين اتخذت أغلب هذه المسارات الكمية مسار المساعدة المالية، فإن الجزائر تتجه لتقديم الدعم الأمني. ملامح تطورات الخريطة الإقليمية يمكن رصدها على النحو التالي:
1. الموقف الإماراتي: شهد الموقف الإماراتي تطورا كميا، حيث اتجهت الإمارات نحو تطوير نمط مساندتها لتونس باتجاه توفير مساعدات مالية. وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، لم تترجم المفاوضات باتجاه تدفقات مالية[40].
تطور نمط الدعم المقدم من دولة الإمارات باتجاه الدعم المالي في إطار سعيها لإخراج إسلاميي تونس من المجال العام، سواء عبر مصادرته منهم أو حتى عبر التشويه المعتاد من جانب محور الثورة المضادة ضد الجناح التقدمي الديمقراطي العربي الذي يشكل الإسلاميون أحد أبرز عناصره.
2. الموقف السعودي: كان مقتصرا على المساندة الصحية، ولم يصدر عن المملكة سوى التمني بالاستقرار لتونس. غير أن المملكة اتجهت نحو الدعم المادي للبلد المغاربي.
ففي أكتوبر/تشرين أول 2021، كشف مسؤول بالبنك المركزي التونسي أن بلاده تجري مفاوضات، مع كل من الإمارات والسعودية؛ من أجل إيجاد تمويلات إضافية لموازنتها المالية[41].
وبرغم ضيق نطاق نمط المصالح الذي يجمعهما، فإن العنصر الحاكم في اتجاه السعودية نحو دعم تونس في هذه المرحلة التي أعقبت إجراءات ردة "سعيد" عن الديمقراطية؛ إنما يعزى إلى قلق المملكة من الديمقراطية، وتخوفاتها من التيارات القادرة على قيادة الشارع العربي، شأنها شان أي نظام محافظ في منطقتنا العربية.
3. موقف الكيان الصهيوني: لم يتمكن الباحث من رصد رد فعل مبدئي لإدارة الكيان الصهيوني تجاه الإجراءات التي اتخذها "سعيد"، غير أن تطورات المواقف تشير إلى أن ثمة رضا داخله حيال هذه الخطوة.
موقف الكيان يرتبط بتطورات قدمها "سعيد" نفسه منذ انتخابه، وكان من أكثر القرارات الصادرة عنه إثارة للجدل؛ ذلك القرار برفضه منح الجنسية التونسية لأرملة الشهيد محمد الزواري الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي، بعد اكتشاف دوره في تصنيع الطائرات المسيرة التي استخدمتها حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
ويأتي هذا رغم منحه الجنسية، في الوقت نفسه، لفلسطينيين مرتبطين بمحمد دحلان القيادي المفصول من حركة التحرير الوطني "فتح"، والمعروف بعلاقاته الوثيقة بأجهزة الأمن الإسرائيلية ودوائر الحكم الإماراتية[42]، رغم أنه – طيلة حملته الانتخابية - كان يرفع شعار "التطبيع خيانة عظمى".
ومع إبعاد حركة النهضة، بدأت أصوات رسمية في الكيان تمهد للرأي العام العربي احتمالات تطبيع تونس، كان من بينها وزير التعاون الإقليمي في حكومة الاحتلال عيساوي فريج في حوار مع موقع “إرم” الإماراتي.
وقال فريج "أنا أرى في الأفق البعيد أن كل دول الشرق الأوسط ستكون ضمن اتحاد إقليمي وشرق أوسط جديد"، أشار فيه لأربع دول عربية وإسلامية على طريق التطبيع، كان من بينها تونس[43].
وفي إطار الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي تمر بها تونس، وبالنظر لمفاوضاتها المالية مع الإمارات، والتي تأتي في إطار تباطؤ مؤسسات التمويل الدولية في التعاطي معها، فإن مؤشرات عدة تونسية وإقليمية تشير إلى اتجاهها لتنفيذ نبوءة الوزير الصهيوني، لكن هناك من يشكك في ذلك.
وتبقى بقية المعطيات الإقليمية على نفس المنطلق الذي بدأت به الأزمة، حيث تتمسك تركيا بموقفها برغم اتجاهها لتصفير قطاع كبير من مشكلاتها الإقليمية، وبخاصة مع العالم العربي.
كما تفتقر مصر لأي دعم إضافي يمكنها أن تقدمه، حيث لا تمتلك المال، في الوقت الذي لا تستطيع فيه اقتحام المجال الحيوي الأمني الجزائري في تونس.
4. الموقف الجزائري: شهد الموقف الجزائري تطورا يقدره الخبراء بأنه يتجه لتعزيز الحضور في المجال الأمني.
ويقدر خبراء أن زيارة الرئيس الجزائري "تبون" كانت لها علاقة بهذا المجال، ويقدرون أن تونس ربما تتجه للاستعانة بالجزائر عوضا عن فرنسا فيما يتعلق بهندسة القطاع الأمني التونسي، بعيدا عن المؤسسة العسكرية التي يتحكم بها رجال محسوبون على الولايات المتحدة[44].
هذا الاتجاه ربما يحمل إرهاصات ضغط على الولايات المتحدة عبر استدعاء شخص محسوب على الجانب الروسي، من دون استدعاء الروس أنفسهم.
وهذه الخطوة ليست الوحيدة في هذا الإطار، حيث سبقها خطوة أخرى تمثلت في هبوط إحدى الطائرات المملوكة لشركة محسوبة على الحرس الثوري الإيراني للتزود بالوقود في مدينة "جربا" التونسية أثناء رحلة لها من فنزويلا إلى إيران[45]، وهي خطوة مقصود منها إرسال رسالة للجانب الأميركي ربما كان مفادها طلب تهدئة الخطاب المرتبط بإدارة الأزمة الداخلية في تونس.
ب. تطور المواقف الدولية
بخلاف الإقليم، فإن المواقف العالمية شهد بعضها تطورا نوعيا، وبخاصة الموقف الأميركي، فيما اتسم الموقف الفرنسي بانزواء التيار المؤسساتي، لينفتح الباب أمام محاولات ماكرون كبح جماح محاولات تهميش بلاده من تونس.
1. الموقف الأميركي: شهد منتصف شهر ديسمبر تغيرا حادا في الموقف الأميركي حيث انتقل الخطاب من الحديث عن القلق إزاء التطورات التي تشهدها تونس، والحث على احترام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتشجيع على "الاستمرار في الحوار المفتوح مع جميع الأطراف السياسية والشعب التونسي"، إلى الترحيب بخريطة الطريق التي أعلنها "سعيد"، والتي قرر بموجبها إجراء استفتاء على إصلاحات دستورية في صيف 2022، تليه انتخابات تشريعية في نهاية 2022.
واكتفى المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس، في بيانه بالإعراب عن أمله بأن "تكون عملية الإصلاح شفافة وأن تشمل تنوّع الأصوات السياسية والمجتمع المدني[46].
تطورات الموقف الأميركي تحكمها عدة اعتبارات. فمن جهة، بدا أن تلميحات النظام التونسي بالانضمام إلى لائحة التطبيع مع إسرائيل يمكن أن تكون جادة، بعد لفتات جادة واضحة صدرت عن "سعيد"، وهو ما يعني دعما صهيونيا جزئيا تريده واشنطن.
ولا يخفى في نفس الإطار أن الولايات المتحدة لا تمانع غض الطرف عن أي مساس بالديمقراطية قد يتضمن إبعادا للتيار الإسلامي المعتدل عن المجال العام في بلد محوري، أو بلد يرغب الكيان الصهيوني في سطره على لائحة التطبيع.
ومن جهة ثانية، فإن مناورات محور الثورة المضادة في مساندة تونس تثير مخاوف أميركية بتهديد اتفاق التعاون العسكري الإستراتيجي 2020 – 2030.
خاصة وأن تونس تحاول اللجوء للجزائر في مجال هندسة الجهاز الأمني؛ في محاولة منها للحفاظ على قدر من التوازن بين الأجهزة، بحيث لا تبقى رهينة القرار الغربي؛ وخاضعة له.
هذا الدور نجحت الجزائر في أدائه نسبيا حتى الآن، مبدية التزاما شديدا بترك مسافة واضحة عن الملف العسكري.
وهناك اعتبارات أخرى تجعل الولايات المتحدة تتجنب الضغط على الرئيس التونسي، ومغلقة الباب أمام أية تطورات للدور الجزائري.
ومنها موقع تونس بمنتصف جنوب البحر المتوسط من جهة، وفي الطرف الآخر للجزائر المحاطة بالمغرب من الجهة المقابلة، ضمن موقع يتضمن قواعد عسكرية، أهمها سيدي أحمد للطائرات المسيرة في الجنوب، واستخدام الموانئ التونسية.
وكذلك الرغبة في منع تركيا من توسيع نطاق تحالفاتها جنوب شرق المتوسط بإضافة تونس إلى ليبيا.
ومن نافلة القول في هذا المقام أن رضا الولايات المتحدة عن هذه الخريطة أتى استباقا لزيارة الرئيس الجزائري إلى تونس لئلا يتقدم الترحيب الجزائري بدلالاته على الأميركي.
2. الدور الفرنسي: وفما يظل الدور الأوروبي المتحفظ حيال إجراءات "سعيد" محدود الفاعلية باعتباره موقفا مبدئيا لا يعكس مصالح قوية تقتضي توجيه الموارد وتعبئة الإمكانات ومؤسسات الدولة، فإن غالبية دول الاتحاد انغمست في مشكلاتها الاقتصادية والصحية، وانكفأت على ملفاتها المصلحية المباشرة، باستثناء فرنسا.
وباتت باريس تواجه خطر احتمال معاودة التهميش في تونس مرة أخرى بعد التقارب الجلي الذي تجاوز حدود عبارات المساندة من جانب الجزائر باتجاه تقديم دعم مالي كذلك؛ في توقيت تؤثر فيه تونس الدعم المالي على المعنوي.
غير أن الدور الفرنسي الجديد ليس بعيدا عن الدعم المالي بالكلية، بل يشمله أيضا، وإن كان حجم هذا الموقف لا يقارن بما هو مرتقب من الداعمين الإماراتي والسعودي. لكن اللافت في الموقف الفرنسي أنه بدا مرتبطا بالإجراءات التي اتخذها "سعيد".
والتقى السفير الفرنسي في تونس، "إنداري باران"، وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج عثمان الجرندي، بمقر الوزارة، في 14 يناير 2022.
أكد السفير الفرنسي أن بلاده ستساند تونس في استحقاقاتها المقبلة مع صندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الأوروبية[47].
هذا الوعد يعني أن فرنسا تسعى لمقايضة جهدها الدبلوماسي بتثبيط أي مساع أوروبية رافضة لإجراءات "سعيد" من أن تمثل تهديدا للموقف المالي التونسي.
وفي عطف على هذا الوعد الفرنسي، جدد السفير ترحيب بلاده بإجراءات سعيد، معربا عن ثقة فرنسا في أن تحافظ تونس على مسارها الديمقراطي الذي يميزها في المنطقة.
هذا الاقتران بين الأمرين يعني أن فرنسا – الرئاسة – ستسدي العون لتونس، رغم تمنيات الدبلوماسية الفرنسية بمحافظة البلد المغاربي على صيته الديمقراطي.
وهو ما يشير لما سبق وأشرنا إليه من التباين في المواقف بين الدولة الفرنسية ممثلة في جهازها الدبلوماسي؛ وبين الروح المفرطة بالبراغماتية التي يدير بها الرئيس الفرنسي سياسته الخارجية.
ونشرت وزارة الخارجية الفرنسية بيانا لها على موقعها الرسمي، قالت فيه إن "العديد من الصحفيين، وبينهم مراسلو الصحافة الفرنسية والدولية، طالهم عنف قوات الأمن خلال تغطيتهم مظاهرات بتونس العاصمة، في 14 يناير/ كانون ثان. واعتبرت الوزارة هذا المسلك الأمني التونسي غير مقبول"[48].
خاتمة
كان الإطار التونسي مهيأ لتطورات خارجة عن إرادة التونسيين. فالنظام السياسي الهجين، والمراهقة السياسية لقطاع من الشريحة السياسية في المجتمع التونسي، وركام الوهن الاقتصادي الاجتماعي، علاوة على الرؤيتين الخارجيتين المستندتين لأبعاد أيديولوجية وجيوسياسية؛ كلها عوامل أدت لاندلاع الحريق في المعمار السياسي التونسي.
وكان عود الثقاب متمثلا في فاعل سياسي داخلي يحمل أحد مرتكزات الصراع، وأعلاها فوق المصلحة التونسية. هذا المرتكز هو التخوف من نتائج حضور التيار الإسلامي المعتدل، والقوى الإقليمية الصاعدة التي تسانده.
لعبت الأيديولوجيا الحاكمة لإدارة الإقليم دورا رئيسيا في بلوغ الأزمة وترتيب مسارها عبر ضبط مواقف الدول صانعة الأزمة وأهدافها.
أحد مسارات الأيديولوجيا الحاكمة تمثلت في معاداة التغيير، وبخاصة إن كان يمس منهج الحكم في الإمارات والممالك؛ سواء أكانت غنية نتيجة عوائد النفط أو كانت تعاني أزمات اقتصادية حادة كالأردن والمغرب.
هذا المتغير يرتبط بدوافع الدول القائدة للإقليم بصورة أساسية. وفي هذا الإطار، نجد سبب اتجاه دولة الإمارات ومحور الملكيات المحافظة لصناعة الأزمة وتكريسها، ومساندة الرئيس التونسي في توجهه، وتجاوز الدعم المعنوي إلى الدعم المادي.
التوجه الثاني ضمن الحزمة الأيدولوجية يرتبط برفض صعود الإسلاميين، خاصة إن كانوا قوة قاطرة للمجتمع الذي يشهد التغيير.
وسبق أن أكرهت الجزائر على المرور بالعشرية السوداء لمنع هذا البديل، كما شهدت دول عدة على رأسها مصر مثل هذا التوجه وإن كان بسيناريوهات مختلفة. هذا التوجه تقوده قوى من خارج الإقليم، نجحت في فرض رؤيتها وتصورها عليه.
لهذا السبب وجدنا دولة مثل فرنسا تؤيد إجراءات الرئيس التونسي سياسيا وتعدها بالصون الدبلوماسي، وخصوصا في المحافل المالية؛ بالنظر لما تمر به تونس من أزمة مالية – اقتصادية – اجتماعية.
كما وجدنا أن الغزل الإسرائيلي التونسي قد أصبح له صدى لدى إدارة "بايدن" التي تحولت من موقف الرفض على استحياء إلى تجاوز إجراءات الأزمة والتطلع للمستقبل، مع عبارات إنشائية لم تفلح في إخفاء تجاوز مصدر الأزمة.
وتطور موقف الكيان الصهيوني باتجاه تحفيز التطبيع بينه وبين تونس، بعد إقصاء الرعاة الأساسيين لمشروع الهوية عن المشهد السياسي.
على المسار الآخر، لعبت التصورات الجيوسياسية دورها كمحفز لاستمرار أو تغير مواقف فاعلين إقليميين وعالميين حيال الأزمة أو كمثبط لها.
فقد تعززت الأزمة تحت وطأة الرغبة في إبعاد الخيار "البرلماني" عن ليبيا، حتى وإن كان الثمن هو ديمقراطية تونس التي كانت مستهدفة من قبل توفر هذه الاعتبارات الجيوسياسية.
الاعتبارات الجيوسياسية أدت أيضا للتأثير في تطورات مواقف بعض القوى الدولية من الأزمة.
ومن الواضح أن تركيا مستغرقة بأسرها في التطورات الحادثة شرقا، سواء في أوكرانيا وأفغانستان أو أوزبكستان وحتى أذربيجان، وهي تطورات جيوإستراتيجية ترسم ملامح المستقبل، ليس إقليميا وحسب.
وهو الأمر الذي أدى لاكتفاء دولة مثل تركيا بوجودها في ليبيا لضمان مصالحها في شرق المتوسط، واستنكفت تكريس اهتمام متزايد لما يحدث في تونس.
كما أدت مناورات محور الثورة المضادة، ومن خلفهم روسيا إلى تعزيز مخاوف الولايات المتحدة من خسارة الشراكة العسكرية مع تونس، التي باتت تضم أهم قواعد الطائرات المسيرة الأميركية في المنطقة، علاوة على أدوارها اللوجيستية لحساب الوجود الأميركي في جنوب المتوسط.
وتبقت الأزمة المالية التي تمر بها تونس لتمثل المحدد الأساسي لتطورات موقف الدولة التونسية مما سيلي من إجراءات، ما لم يكن للتونسيين واحتجاجاتهم المتصاعدة رأي آخر.