كيف تحولت قبرص إلى بؤرة نزاع على الطاقة بين تركيا واليونان؟

أحمد يحيى | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

"يجب أن تصبح قبرص نقطة انطلاق لتحقيق أحلام الإسكندر المقدوني في الشرق"، قول يوناني مأثور، للتعبير عن الأهمية الجغرافية، والإستراتيجية لجزيرة قبرص.

قبرص هي ثالث جزر البحر الأبيض المتوسط من حيث الحجم بعد جزيرتي صقلية وسردينيا، وتقع في الشمال الشرقي لهذا البحر المهم في طرق الملاحة الرئيسية العالمية، يفصلها عن الشاطئ الجنوبي التركي 75 كم، وعن غرب سوريا 105 كم، وعن مصر 380 كم، وعن اليونان حوالي 800 كم. 

تلك المنطقة المتنازع تاريخيا على هويتها وتبعيتها بين تركيا واليونان، يدور على أرضها صراع سياسي بين المكونين الرئيسيين لسكان الجزيرة، وهما القبارصة ذوو الأصول اليونانية من جهة والقبارصة ذوو الأصول التركية من جهة أخرى.

تتألف الجزيرة القبرصية حاليا من دولتين مستقلتين، إحداهما معترف بها وعضوة في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وهي الجمهورية القبرصية وعاصمتها "نيقوسيا"، ومقامة على 65% من مساحة الجزيرة، والثانية مستقلة لكن غير معترف بها سوى من تركيا وتسمى "جمهورية شمالي قبرص التركية" وتضم 35% من بقية مساحة الجزيرة وعاصمتها "ليفكوشا".

شهدت الفترة من 20 يوليو/ تموز 1974، حتى 14 أغسطس/ آب من نفس العام، قيام القوات المسلحة التركية بالإنزال في جزيرة قبرص لحماية الأتراك القبارصة من حركة "أيوكا" المسيحية المتطرفة، ومن حكومة الأسقف مكاريوس التي تبنت أعمالا طائفية وعنصرية. 

الأسقف الرئيس

في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1950 أصبح "مكاريوس الثالث" رئيسا لأساقفة الكنيسة القبرصية الأرثوذكسية، وفي خطاب التنصيب تعهد مكاريوس بأن يضع على رأس أولوياته مشروع الوحدة مع اليونان "الوطن الأم" كما وصفها آنذاك.

عام 1956 قامت بريطانيا بنفي "مكاريوس الثالث" إلى جُزُر السيشل، لكنها عادت وأطلقت سراحه في العام التالي، وبعدما نالت قبرص استقلالها تم انتخابه أول رئيس لجمهورية قبرص الناشئة بتاريخ 13 ديسمبر/ كانون الأول 1959.

لعب مكاريوس دورا رئيسيا في أوائل الخمسينيات، عندما شارك في تأسيس حركة سرية تشكّل قادتها وكوادرها من القبارصة اليونانيين تسمى "أيوكا"، كان هدفها الحصول على الاستقلال والاتحاد مع اليونان. 

دعمت الكنيسة الأرثوذكسية في اليونان هذه الحركة وأمدتها بالمال والسلاح، وأضفت على أعمالها طابعا مقدسا. وشنت أيوكا حرب عصابات على الاحتلال البريطاني عام 1955، وطالت شظايا تلك الحرب القبارصة الأتراك، ما أدخل البلاد في حالة أشبه بالحرب الأهلية سقط فيها ضحايا كثيرون من الجانبين.

في كتابه "سنوات التجديد" ذكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر أنه "في عام 1972 علمنا بوصول آلاف من قطع السلاح التشيكية إلى القبرصيين اليساريين، بمباركة مكاريوس".

وبحسب كيسنجر "كان فقدان السيطرة على الوضع في قبرص إلى حدٍ كبير يعود إلى أفعال مكاريوس الذي كان يجرّب براعته". 

في 15 يوليو/ تموز 1974، في ساعات الصباح الباكر، استيقظ العالم على أخبار تفيد أن قوات الحرس الوطني القبرصي قامت أثناء الليل بانقلابٍ عسكري على الرئيس مكاريوس الثالث.

خشي الحرس الوطني في ذلك الوقت من خطة مكاريوس، الرامية إلى تقليص عدد الضباط اليونانيين، ومن هنا سعى للقضاء على خطته، عن طريق الوصولِ إلى السلطة بدعم من المجلس العسكري اليوناني في أثينا. 

عملية أتيلا

في 20 يوليو/ تموز 1974، استيقظ القبرصيون في الثامنة صباحًا على أصوات الرصاص والانفجارات، ولم تكن 5 أيام قد مضت حينها على الانقلاب، وها هي الطائرات التركية تحلق في السماء على ارتفاعٍ منخفض، ويهبط منها جنود بمظلات، مهمتهم تعزيز جبهة القبارصة الأتراك في شمال الجزيرة. 

وبحسب الموقع الرسمي لوزارة الخارجية التركية، فإن عام 1974 شهد العديد من المذابح في حق القبرصيين الأتراك، حيث اعترف أحد القبرصيين اليونانيين يدعى أندرياس ديميتريو، أن قوات القبارصة اليونانيين ارتكبوا العديد من الفظائع في قرية تسكنت، حين جرى تجميع الرجال الأتراك في مدرسة القرية، والنساء في أحد المنازل القريبة، ثم اغتصبت النساء، وقتل الرجال بعدما نقلوا عبر حافلات تابعة لليونانيين، ودفنوا في مقابر جماعية.

في ذلك الوقت قام نجم الدين أربكان، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس وزراء تركيا بإقناع قائد الجيش بضرورة حماية الأتراك المسلمين من بطش اليونانيين المسيحيين في قبرص.

وأطلق على العملية العسكرية اسم "أتيلا"، حيث اجتاحت القوات التركية الجزيرة القبرصية، ونجحت في تحقيق تقدم عسكري ملموس والسيطرة على ما يقرب من 39% من أراضى قبرص، وأجبرت  170 ألف قبرصى يونانى على النزوح إلى جنوب البلاد، ونتيجة السيطرة التركية على شمالي قبرص قام حوالي 50 ألف قبرصي تركي بالنزوح إلى شمال البلاد.

 

شطري الجزيرة 

على أثر الغزو، اندلع قتال عنيف بين الجيشين التركي والقبرصي، استطاع خلاله الأتراك إحراز تقدم عسكري ملموس سيطروا خلاله على مساحات واسعة شمالي البلاد، ثم توقفت الحرب بقرار من رئيس الوزراء التركي في ذلك الوقت بولنت أجاويد والذي لم يكن متحمسا للأمر منذ البداية.

وفي 14 أغسطس/ آب 1974، بدأ الأتراك الجزء الثاني والأهم من العملية العسكرية الذي كان يهدف للسيطرة على معظم الجزء الشمالي من الجزيرة، وبناء عليه تم ترحيل السكان اليونانيين من هناك بالقوة المسلحة للجزء الجنوبي.

كما تم الإعلان عن أن 40% من الجزيرة أصبح فيدرالية تركية مستقلة تحت اسم "فيدرالية شمال قبرص التركية"، ومع عدم اعتراف الأمم المتحدة أو أي دولة في العالم بالوضع الجديد، عمدت تركيا إلى إعلان استقلال "جمهورية شمال قبرص التركية"، وهو ما لم تعترف به أي دولة في العالم باستثناء تركيا.

وأصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 541 الذي أعلن فيه عدم شرعية هذا الاستقلال وطالب القوات التركية بالانسحاب، وظل الجميع يعترف فقط بحكومة قبرصية واحدة لدولة قبرصية واحدة في الجنوب.

حكم ذاتي

وافقت الأطراف المتصارعة على عودة الأسقف مكاريوس إلى الحكم في 7 ديسمبر/كانون الأول 1974، وطوال عاميْ 1974 و1975 لم يستطع طرفا الأزمة التوصل في مباحثاتهما لتسوية للأزمة، مما حدا بالقبارصة الأتراك بزعامة "رؤوف دنكطاش" تشكيل هيئة تأسيسية 1975، لوضع دستور جديد لدولة مستقلة، وإعلان شمالي قبرص منطقة حكم ذاتي سموها "الولايات القبرصية التركية الفيدرالية".

اتفق مكاريوس ودنكطاش على تسوية سياسية تقضي بإنشاء جمهورية مستقلة تقودها حكومة مركزية لحفظ وحدة الجزيرة طبقا لضوابط يقبل بها الطرفان، لكن مكاريوس توفي قبل تجسيد هذا الاتفاق يوم 3 أغسطس/آب 1977، فخلفه رئيس مجلس النواب سباريوس كبريانو وتواصل عدم استقرار الأوضاع.

وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1983 أجري استفتاء شعبي عام لسكان الجزء الشمالي من الجزيرة، وأعلن القبارصة الأتراك تلك المناطق جمهورية مستقلة تحت مسمى "جمهورية شمالي قبرص التركية" وأصبح دنكطاش رئيسا لها.

قررت تركيا على الفور الاعتراف بالجمهورية الوليدة لكنها عجزت عن نيل اعتراف أي دولة أخرى كما لم تمنحها الأمم المتحدة عضويتها، إلا أنها عضو مراقب في منظمة المؤتمر الإسلامي. 

وظلت قبرص التركية تعيش عزلة اقتصادية وتجارية دولية، ويعتمد اقتصادها على تمويل تركيا لها بنحو 700 مليون دولار سنويا.

وأصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 541 (عام 1983) الذي أعلن فيه عدم شرعية هذا الاستقلال مطالبا جميع الدول بعدم الاعتراف به، كما طالب القوات التركية بالانسحاب من الجزيرة، لكن أنقرة لا تعترف أيضا بقبرص اليونانية.

وفي 26 أبريل/نيسان 2015 انتخِب "مصطفى أكينجي" رئيسا لقبرص التركية، ويوصف أكينجي بأنه من أكبر الداعمين للمصالحة مع الحكومة القبرصية اليونانية. 

وفي جولة محادثات جمعته بنظيره القبرصي اليوناني نيكوس أناستاسيادس 15 مايو/أيار 2015، أعلن الرئيسان الانتقال إلى مرحلة جديدة لإرساء الأمن والمساواة في الجزيرة.

لكن جلسات الجولة الأخيرة من المفاوضات المنظمة في سويسرا خلال 7-21 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وصلت إلى طريق مسدود، وكان من المقرر أن تناقش موضوعي الأراضي وترسيم خريطة الجزيرة.

تكتل ثلاثى

في يناير/كانون الثاني 2017، قام رئيس أركان الجيش التركي خلوصي أكار(وزير الدفاع الحالي) بجولة استطلاعية شملت الاقتراب من جزيرة "كارداك" أو "إيميا" المتنازع عليها بين تركيا واليونان، وهو ما أعقبه نوع من التصعيد السياسي والإعلامي والعسكري بين البلدين، وبحسب خبراء فإن الهدف من زيارة أكار كان توجيه رسائل مهمة أرادت تركيا إيصالها لجارتها ومن دار في فلكها من الدول الأخرى. 

وحسم رفض تركيا محاولة اليونان فرض مسار الحل فيما يتعلق بقضية قبرص التي انتهت مفاوضاتها في يناير/كانون الثاني 2017، بالفشل، حيث أرادت اليونان حينها الاستئثار بالهيمنة، وطالبت بانسحاب القوات التركية من الجزيرة، بالإضافة إلى توجيه رسالة للتكتل الإسرائيلي المصري اليوناني فحواها "تركيا دولة ذات قوة ملموسة، والمناورات العسكرية والتحالفات السياسية التي تقومون بها على الجانب اليوناني لجزيرة قبرص، ستواجه بالمزيد من العزم على حماية مصالحنا ومصالح القسم التركي من جزيرة قبرص التركية". 

كانت أبرز مظاهر التحالف ضد تركيا ما كان في ديسمبر/كانون الأول 2017،  حيث اتفق وزراء دفاع الدول الثلاث "مصر واليونان وقبرص" على تأسيس آلية للتعاون العسكري بينهم، وزيادة التدريبات المشتركة في مجالات الدفاع ونقل وتبادل الخبرات العسكرية.

وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، شهد رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسى والرئيس القبرصى نيكوس أناستاسيادس ورئيس وزراء اليونان أليكسيس تسيبراس، توقيع اتفاقية تعاون ثلاثى بمقر الرئاسة القبرصية.

كانت أعمال القمة الثلاثية فى العاصمة القبرصية نيقوسيا بدأت، فى إطار عملية التعاون الثلاثى بين حكومات تلك الدول، والتى انطلقت فى القاهرة نوفمبر/تشرين الثاني 2014.

وبحثت القمة سبل دعم وتعميق العلاقات، وتفعيل إطار التعاون القائم، بالإضافة إلى تعزيز التشاور السياسي بين الدول الثلاث حول كيفية التصدي للتحديات التي تواجه منطقتى الشرق الأوسط والبحر المتوسط.

الرد التركي

الرد التركي على هذه التحركات جاء في 27 فبراير/ شباط 2019، فللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة تنطلق أضخم مناورات عسكرية تحت اسم "الوطن الأزرق 2019"، ممتدة في البحار الثلاثة التي تحيط بتركيا، البحر الأسود وإيجة والمتوسط.

المناورات التي أدرجت على أجندة هيئة الأركان التركية، جاءت أهميتها من حيث التوقيت، في كونها، أعقبت إرسال أنقرة سفينة تنقيب عن النفط في منطقة شرق المتوسط، محمية بقطع عسكرية، منعا من محاولات الهيمنة اليونانية والقبرصية والمصرية على الحوض الغني بالغاز الطبيعي، ومصادر الطاقة.

وتشارك في المناورات 103 سفينة، بالإضافة إلى وحدات من القوات البرية والبحرية التركية، بهدف رفع الجاهزية القتالية للوحدات المشاركة من السفن والطائرات التابعة لقيادة القوات البحرية، وتشرف القيادة المركزية للحرب البحرية التركية عليها.

وفي المؤتمر الافتتاحي للمناورات، أعلن رئيس العمليات البحرية، العميد البحري يانكي باغجي أوغلو، مشاركة 103 سفن مختلفة، في المناورات، وأوضح أن الهدف من المناورات هو زيادة مستوى استعداد وقدرات القوات البحرية، والمركبات والسفن التابعة لها.

ولفت إلى مشاركة 13 فرقاطة و6 سفن كورفيت و16 هجومية، و7 غواصات، و7 كاسحة للألغام، و17 سفينة إمدادات، و14 سفينة خفر السواحل، إلى جانب طائرات دورية بحرية، ومروحيات بحرية.

وأضاف رئيس العمليات البحرية أن المناورات تتضمن تدريبات واستعدادات للعمليات البحرية العسكرية، لاسيما سيناريوهات الدفاع الجوي بحرا وآخر عبر الغواصات، وسيناريوهات الأزمة والحرب، وسيناريوهات الحرب الإلكترونية والألغام، وعمليات المراقبة البحرية، وإطلاق النار الفعلي لأهداف متحركة عالية السرعة، وغيرها.

أردوغان يحذر

في 14 فبراير/شباط 2018، صعّد أردوغان من لهجته المحذرة لدول وشركات من التنقيب عن الغاز في المنطقة البحرية الواقعة قبالة سواحل قبرص، ناصحا هذه الشركات الأجنبية بألا تكون أداة في أعمال تتجاوز حدودها وقوتها من خلال ثقتها بالجانب اليوناني.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال: "نحذر من يتجاوزون حدودهم في بحر إيجة (في إشارة إلى اليونان) وقبرص ويقومون بحسابات خاطئة مستغلين تركيزنا على التطورات عند حدودنا الجنوبية، إن حقوقنا في الدفاع عن الأمن القومي في عفرين هي نفسها في بحر إيجة وقبرص".

في ذات اليوم، أعلن وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو، رفض تركيا اتفاقية قبرص ومصر 2013 الخاصة بترسيم الحدود البحرية بين البلدين، قائلا في حديث صحفي: إن بلاده "تخطط للبدء في أعمال تنقيب عن النفط والغاز شرق المتوسط في المستقبل القريب، وإن التنقيب عن هذه المصادر وإجراء دراسات عليها يعد حقا سياديا لتركيا".

وأمام هذه المعطيات هددت تركيا بشكل متكرر على الأقل بأن أي إجراء أحادي من قبل قبرص اليونانية يتجاهل الحقوق التركية، أو حقوق قبرص التركية، سيقابل برد مناسب يضمن حقوق ومصالح تركيا.