الطبقة الوسطى في مصر: صمود على حافة الهاوية

5 years ago

12

طباعة

مشاركة

يعيش الشعب المصري أوقاتا عصيبة على وقع الأزمة الاقتصادية الطاحنة، التي تعصف بالكثير من قطاعاته، وفي القلب الطبقة الوسطى التي تمثل مركزية المجتمع، مع الإجراءات التقشفية التي تفرضها الحكومة المصرية لمواجهة العجز الكلي في الموازنة، ما أدى إلى إحداث متغيرات سلبية على بنية الشارع المصري، متمثلا في تقلص واضح لطبقته الوسطى لصالح الطبقات المعدمة.

وهو ما يذكرنا بانتفاضة الخبز عندما اشتعلت القاهرة وامتدت نيرانها إلى سائر المحافظات المصرية من الإسكندرية إلى أسوان، في 18 و19 يناير/ كانون الثاني 1977، تلك الاحتجاجات التي زلزلت عرش الرئيس الراحل أنور السادات، ومثلت صدمة لمنظومته الحاكمة، أما السبب الرئيس فقد تمثل في قرار حكومي برفع أسعار السلع الأساسية من الخبز والسكر والشاي والزيت واللحوم بنسب وصلت إلى الضعف، لتبدأ موجة غضب عارمة تجتاح المصريين، الذين نزلوا إلى الشوارع والميادين، بمشاركة الطلبة والقطاعات العمالية والنقابات والاتحادات المهنية، ممثلين للطبقة الوسطى، التي قادت التظاهرات.

عدد الأهرام الذي يغطي حريق القاهرة في 18 و19 يناير/ كانون الثاني 1977

بمرور ثلاثة عقود في 25 يناير/ كانون الثاني 2011، اندلعت ثورة أشد وطأة، الحكاية الأولى عام 1977 لم تنتهي، المواقع تبدلت، والولاءات تعدلت، صعدت أحزاب، وعربدت نخب، وتفسخت مراكز قوى، وظهرت أخرى، لكن أسباب الثورة ظلت كامنة، في ترقب وازدياد، داخل الشعب وفي مركزيته من أبناء الطبقة الوسطى التي تعرضت خلال حقبة مبارك لضربات قاسية، ما جعلها في مقدمة الثوار بالهتاف الأشهر (عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية) ولم تبرح حتى أسقطت حكم مبارك إلى الأبد.

ومع صعود الجنرال عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم بعد انقلاب عسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، واجهت الطبقة الوسطى تحديات مخيفة، في ظل تردي غير مسبوق في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لتنحسر وتتآكل أمام طوفان الحالة الراهنة في واد لا مبتدأ فيه ولا منتهى.

إصلاحات مبهمة

في 30 يونيو/ حزيران 2018، وقف السيسي مخاطبا الشعب المصري في كلمة متلفزة قائلا عن إجراءات الإصلاح الاقتصادي (إصلاح قاس، ويسبب معاناة، إلا أنه أصبح حتمية لا اختيار)، وإذا ما تم عقد ارتباط دلالي بين كلمة السيسي والأوضاع الحالية، سنجد أن الإصلاح القاس تدفع ثمنه شريحة ضخمة وواسعة من الشعب المصري، حيث وصل سعر الدولار مع بداية ولايته الثانية إلى 17.99 جنيه مصري، ووصل سعر (بنزين 92) إلى 6.75 جنيه، بينما وصل سعر تذكرة مترو الأنفاق إلى 7 جنيهات، وتضاعف سعر إسطوانة الغاز إلى 50 جنيها دفعة واحدة، ووصل الدين الداخلي إلى 3.6 تريليون جنيه، والدين الخارجي إلى 88 مليار دولار، بحسب تقارير مجلس الوزراء المصري.

بينما قدر العجز الكلى للموازنة العامة عن العام المالى 2018/2019، وفقا للبيان المالى المرسل إلى مجلس النواب، والذى يلقيه وزير المالية عمرو الجارحى مبلغ وقدره 438 مليار و594 مليون جنيه (8.4 بالمئة من الناتج المحلى الإجمالى) بزيادة قدرها 7.5 مليار جنيه عن النتائج المتوقعة للسنة المالية الحالية.

وباتت الاحتجاجات المطلبية والشكاوى المستمرة من انهيار الوضع وغلاء الأسعار حالة ثابتة داخل المجتمع المصري.

وكانت مصر قد بدأت الحصول على قرض صندوق النقد الدولي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، لتدخل بعدها في حزمة من الإجراءات الثقيلة، بدأت بتحرير سعر الصرف في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 وتم تعويم الجنيه أمام الدولار، فاقدا النسبة الأكبر من قيمته، ثم تم طرح حصص من الشركات العامة والأصول الحكومية للبيع للمستثمرين الأجانب، في القطاعات التجارية والصحية تحديدا، وفرضت المزيد من الضرائب على المواطنين مثل الضرائب العقارية والقيمة المضافة، وتم تقليص الرواتب الحكومية، وحدث خفض كبير للدعم على المحروقات والطاقة والخدمات العامة والسلع الأساسية، وغير ذلك من الإجراءات تنفيذا لشروط صندوق النقد الدولي.

الموظفون في مهب الريح

تمثل شريحة موظفي الدولة واحدة من أهم قطاعات الطبقة المتوسطة، وقد دفعت ثمنا فادحا نتيجة سياسات النظام القائم، بعد أن أخذ على عاتقه إحداث متغيرات في البنية الوظيفية لدولاب العمل الحكومي، وذلك جراء المستجدات السياسية والاقتصادية، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، أوصى صندوق النقد الدولي في مشاوراته مع الحكومة المصرية، بخفض عدد العمالة بها، ليشهد العام نفسه وضع أكبر خطة لخفض الموظفين بالجهاز الإداري للدولة، بالاستغناء والتخلص من قرابة المليون موظف خلال الخمس سنوات المقبلة، أي ما يعادل نسبة 13% من الهيكل الإداري الحكومي بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

وتوصيفا لتلك الحالة أصدرت صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية تقريرها تحت عنوان (الطبقة المتوسطة في مصر تجبر على العيش بالمساعدات الغذائية)، وقالت في معرضه إن آلاف المصريين من تلك الطبقة كانوا يعملون في الإدارات العامة والقطاعات التجارية والسياحية، أصبحوا يعيشون على المساعدات الغذائية في تطور صادم للأوضاع الاقتصادية في البلاد، وقدرت أن قرابة 10% من أبناء تلك الطبقة، ينحدرون بسرعة فائقة نحو الطبقة الفقيرة، في بلد يعيش فيه 23 مليون مواطن تحت خط الفقر.

العسكريون في قلعة حصينة

تسلسل زمني لرفع معاش العسكريين المصريين

الفئات الآمنة في ظل هذه الموجات الجهنمية من ارتفاع الأسعار وتقليص الرواتب والاستغناء عن الموظفين، كانت الفئات الأمنية الأقرب إلى السلطة من ضباط الجيش والشرطة والقضاة، ففي 15 يونيو/ حزيران 2017 وافق البرلمان المصري على زيادة معاشات العسكريين بنسبة 10%، في حين أصدر السيسي 6 قرارات سابقة بزيادة دخول العسكريين، تقضي بمنح رواتب استثنائية لبعض ضباط الصف والجنود المتطوعين والمجندين السابقين بالقوات المسلحة.

وفي معرض هذه الزيادات كانت هناك واقعة شهيرة، عندما اشتبك النائب المسقطة عضويته محمد أنور السادات مع رئيس مجلس النواب علي عبد العال، أثناء مناقشة البرلمان زيادة المعاشات العسكرية، وقتها تساءل السادات عن (كيفية زيادة أجور الضباط، والبرلمان غير مطلع على رواتب القوات المسلحة؟!)، لينفجر رئيس البرلمان قائلا: "لا يجب أن تتكلم بمثل هذا الكلام عن من دفع ضريبة الدم، ويجب عندما يتكلم أي عضو عن القوات المسلحة أن يقف إجلالاً واحترامًا سواء كانوا سابقين أو حاليين".

وعود السيسي.. هباء

في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2016، طلب السيسي من المصريين الصبر لمدة 6 أشهر على ارتفاع الأسعار قائلا (من فضلكم قفوا جنب مصر بلدكم 6 شهور فقط)، مؤكدا أن الدولة جادة وستنجح في كبح جماح الأسعار، وهو الأمر الذي لم يحدث على الإطلاق بل تفاقم، وقد زاد صبر المصريين إلى أعوام.

وفي 25 أبريل/ نيسان2017، قال السيسي نصا (مش هسيب الأسعار كده، وعمري ما هبيع لكم الوهم) وفي معرض ذلك الحديث نوه أنه لا يجب النظر إلى حال مصر من ناحية الأسعار فقط.

وللمفارقة فإن تلك الوعود لم تقف على حد عدم التنفيذ، وبقاء الوضع على ما هو عليه،  بل جاءت بطريقة عكسية، وتبعتها زيادات متتالية في أسعار السلع والخدمات الأساسية، كما حدث في 29 يوليو/ تموز 2017، حينما تم رفع الدعم عن المواد البترولية بنسبة 55%، ووضع تعريفة جديدة للكهرباء والمياه، وزيادة قيمة "كروت شحن" الهواتف النقالة، ولم ينتهي العام إلا بزيادات كارثية على أسعار تذاكر المترو والقطارات.

ومع انسداد أفق حل تلك المعضلات، تغيرت مصطلحات السيسي وحججه القائمة، وفي خطابه بتاريخ 31 يناير/ كانون الثاني 2018، أفاد بأن احتياطي البنك المركزي أنفق في شراء مشتقات بترولية، ثم عقب قائلا (أسدد ديون مصر ولا نخفض الأسعار).

آثار كارثية على المجتمع

ذلك التقلص في الطبقة الوسطى،ترتب عليه اضطرابات اجتماعية داخل بنية المجتمع المصري، حيث سجل المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر أواخر العام 2017، ارتفاعا حادا في معدلات الطلاق، وأكد الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء رصد 190 ألف حالة، بالإضافة إلى زيادة معدل الجريمة والانتحار،  حيث كشف تقرير مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والاجتماعية أن مصر شهدت 4000 حالة انتحار بسبب الحالة الاقتصادية، في الفترة من مارس/آذار 2016 حتى يونيو/حزيران 2017.

تلك المؤشرات تؤكد أن مصر أمام مشكلة خطيرة بتآكل طبقتها المتوسطة، التي تمثل القوة الحافظة لتوازن المجتمع من آثار سلبية ومخاطر محدقة.