رغم اتهام ماكرون روسيا بالمسؤولية.. أربعة أسباب لتراجع نفوذ فرنسا بإفريقيا

عالي عبداتي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

بشكل صريح، اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بتراجع استخدام لغة موليير في دول إفريقيا، متهما روسيا بقيادة "حملة ممنهجة لشيطنة باريس" وحضورها في القارة السمراء.

جاء ذلك خلال مشاركة ماكرون في القمة الفرنكوفونية الـ18، في جزيرة جربة جنوب شرقي تونس، يومي 19 و20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، بحضور 31 رئيس دولة وحكومة، فضلا عن عدد كبير من الوزراء وسفراء وممثلين عن منظمات دولية وإقليمية.

ومنذ عام 1986، تجتمع "القمة الفرنكوفونية" كل عامين على مستوى رؤساء الدول والحكومات الناطقة باللغة الفرنسية والمنضوية في المنظمة.

ملف ثقيل

وفق ما أورد موقع صحيفة "سبق" السعودي في 21 نوفمبر 2022، فقد اتهم ماكرون، روسيا بتغذية دعاية مناهضة لفرنسا في إفريقيا، لخدمة طموحها "المتوحش".

وتلقى ماكرون، خلال حديثه على هامش قمة الفرنكفونية، طلبا بالرد على منتقدين له، يقولون إن "فرنسا استغلت علاقاتها الاقتصادية والسياسية التاريخية في مستعمراتها السابقة من أجل مصالحها الخاصة".

وقال ماكرون: "هذا المفهوم يغذيه آخرون، إنه مشروع سياسي.. لست مغفلا، العديد من المؤثرين -في بعض الأحيان يتحدثون في برامجكم- يتلقون أموالا من الروس.. نعرفهم".

وأفاد بأن "عددا من القوى التي تريد أن تنشر نفوذها في إفريقيا، تفعل ذلك للإضرار بفرنسا وبلغتها، ولنثر بذور الشك، وأهم من كل ذلك، السعي وراء مصالح بعينها".

وفي السياق، قال الباحث الأكاديمي المغربي المتخصص في التاريخ المعاصر دداي بيبوط، إن "الملف الافريقي ملف كبير وثقيل، يورثه كل رئيس فرنسي لخلفه الذي لا يستطيع التصرف خارج الدائرة التي ترسمها قوى النفوذ الاقتصادي ومراكز القرار المتحكمة في السياسة الخارجية للدولة".

هذه السياسة، يوضح بيبوط لـ"الاستقلال"، تستند إلى "تاريخ طويل من العلاقة مع القبائل الإفريقية والسلالات الحاكمة، وطبقة عسكرية يرعاها الفرنسيون من مراحل التكوين إلى احتلال المناصب العليا في الجيش والأمن، وقد يصل الأمر إلى حكم البلاد عبر الانتخاب أو الانقلاب".

وشدد الأكاديمي المغربي على أن فرنسا "لم تستطع بناء علاقة بناءة مع أصدقائها الأفارقة، بل ظلت وفية لنموذج إمبريالي قائم على نهب خيرات البلاد، وليس على علاقة رابح رابح".

واسترسل بيبوط: "لذلك ظلوا يغيرون الأنظمة مع بقاء جوهر هذه السياسة".

وأشار إلى أن "هذا الأمر بدا اليوم عاريا، بسبب حجم ومخلفات هذه السياسة على البلدان ذات التاريخ المشترك مع الفرنسيين، والتي تتخبط في مشاكل كثيرة على كل المستويات جعلتها تتذيل ترتيب مؤشرات المنظمات الأممية في عدة المجالات".

ومن ذلك، يوضح بيبوط، أن "الثروة الإفريقية لا تنعكس على أحوال الأفارقة الذين وعوا حجم المشكل، فأضحوا يتجاوزون قياداتهم إلى مطالبة الرئيس الفرنسي عند كل مناسبة يزور بلدانهم بالإصلاحات، فالأفارقة يدركون جيدا من يحكمهم، وعليه، فهم يتجاوزون رؤساءهم بصفتهم مرؤوسين من قبل ماكرون".

تراجع لغوي

وبخصوص اللغة الفرنسية وتراجعها في إفريقيا، نقل موقع قناة "الميادين" (مقره بيروت)، في 20 نوفمبر 2022، عن ماكرون قوله إن "قمة منظمة الفرنكوفونية يجب أن تحمل مشروعا لاستعادة مكانة الفرنسية في ظل تراجع عدد مستخدميها، ولا سيما لدى شعوب منطقة المغرب العربي".

وفي لقاء مع عدد من الشباب السفراء للفرنكوفونية في تونس، رأى ماكرون أن "التحدي الحقيقي أمام الفرنكوفونية هو تعزيز استخدام اللغة الفرنسية خصوصا في قارة إفريقيا، حيث تستخدم على نطاق واسع".

وأشار إلى أن "استخدام اللغة الفرنسية شهد تراجعا رغم النمو الديمغرافي في إفريقيا، والذي ساهم بزيادة في حدود 7 بالمئة في عدد مستخدمي هذه اللغة".

ولفت ماكرون إلى أن "اللغة الفرنسية شهدت أيضا تراجعا في استخدامها لدى الشعوب المغاربية على عكس ما كان عليه الوضع قبل 20 أو 30 عاما".

وذكر أنه "وفق بيانات منظمة الفرنكوفونية، فإن المتحدثين باللغة الفرنسية يناهز 321 مليون شخص في العالم، ما يجعلها في المرتبة الخامسة من بين اللغات الأكثر انتشارا، فيما تحتل المرتبة الخامسة من بين اللغات الأكثر استخداما على شبكة الإنترنت".

واقترح الرئيس الفرنسي خلال اللقاء ذاته، "تعزيز برامج التعليم والثقافة والرياضة، وشبكة تعليم لغة موليير في العالم، ضمن مشروع استعادة مكانتها دوليا".

ويرى خبراء أن اللغة الفرنسية تراجعت خلال العقود الأخيرة في عموم إفريقيا، رغم الأهمية التي تكتسيها على المستوى الثقافي لصالح لغات أخرى أهمها الإنجليزية.

وفي هذا الصدد، رأى وزير التعليم التونسي السابق، ناجي جلول، أن "الفرنكوفونية لم تستطع التحول إلى منظومة اقتصادية وثقافية، بقيت تجسد مجمعا للمستعمرات الفرنسية القديمة فقط".

وقال جلول لموقع "إندبندنت عربية"، في 18 نوفمبر 2022، إن "الفشل الثاني للفرنكوفونية في السنوات الأخيرة تجسد في تراجع دول كانت تمثل رمزا ومعقلا للفرنكوفونية مثل الجزائر عن اعتماد الفرنسية لغة ثانية، علاوة على تعنت باريس التي لا تريد التأقلم مع الوضع العالمي الجديد..".

وأردف الوزير الأسبق مخاطبا الفرنسيين: "عليهم الإقرار بأن اللغة الإنجليزية أصبحت الأولى، وتبقى الفرنسية فقط لغة ثقافة وغيرها في المرتبة الثالثة".

وشدد جلول على أنه "بالنسبة إلى تونس حتى الشباب يدرك اليوم أهمية الإنجليزية".

وأوضح أن "88 بالمئة من البحث العلمي تقريبا باللغة الإنجليزية التي باتت تفتح آفاقا للشباب عكس الفرنسية رغم أهميتها (...)، كما أن دول الخليج تعتمد الإنجليزية منذ سنوات، وحتى في فرنسا البحوث العلمية تتم باللغة الإنجليزية".

من جانبه، أكد الباحث الأكاديمي المغربي بيبوط، أن "العالم بدأ يعيش متغيرات عدة، تبشر بأفول النموذج الفرنسي في كل مجالات الحياة، وتراجع لغة موليير على المستوى الإفريقي لصالح اللغات الوطنية والإنجليزية والعربية ولغات أخرى".

وأوضح بيبوط لـ"الاستقلال"، أن "الشعوب الإفريقية تعتقد بما لا يدع مجالا للشك أن اللغة الفرنسية هي أداة أيديولوجية لاستدامة التحكم الفرنسي في القارة، وتشكيل نخب تخدم المتروبول (منطقة مركزية لإمبراطورية استعمارية) الفرنسي".

وعد الباحث الأكاديمي أن "هذا التحكم الفرنسي لم تكن له أية فائدة تذكر على اقتصاد الدول والمناهج التربوية والتعليمية لهذه الشعوب التي أفقرها هذا النموذج ونخبه، وأغرقها في الفساد والرشوة والانقلابات والحروب الأهلية".

ونبّه بأن "الشعوب الإفريقية فتحت أعينها في العشرية الأخيرة على نماذج اقتصادية إفريقية ناجحة، تخلت عن النموذج الفرنسي بالكامل، كروندا وأعضاء  الكومنولث من إفريقيا".

وأكد بيبوط أنه "ليس من الغرابة في شيء أن تحذو هذه الشعوب حذوها إن تركها الفرنسيون وشأنها دون تدخل".

أسباب التراجع

ويرى الباحث الرئيس بمركز "تريندز" للبحوث والاستشارات وائل صالح، في مقال نشره موقع مجلة "الجندي" (عسكرية مقرها دبي)، مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2022، أن "هناك أربعة أسباب أساسية لتراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا".

وأوضح صالح أن "أول هذه الأسباب يرتبط بتدهور صورة باريس عند النخبة الإفريقية، إذ ما تزال للمجتمعات الإفريقية تصورات سلبية عن فرنسا كقوة استعمارية مازالت فاعلة في بلدانهم وبشكل سلبي". 

وتابع: "في هذا السياق يمكننا أن نفهم المظاهرات الأخيرة المناهضة لفرنسا في عدة دول فرنكوفونية مثل مالي وتشاد، ودخول العلاقات بين باريس وبعض الدول مثل الجزائر مرحلة جديدة من الاضطراب والشد والجذب، بجانب الشعور الإفريقي المتزايد بغطرسة بعض المؤسسات الفرنسية عند تعاملها معهم".

وأما السبب الثاني، يردف صالح، فيرجع إلى "الدور المتنامي للقوى المنافسة، حيث تواجه فرنسا حاليا منافسة دبلوماسية أكبر من أي وقت مضى، وذلك من قوى عالمية مثل الصين وروسيا، وأخرى إقليمية كالهند وإسرائيل وتركيا الذين أصبحوا شركاء التنمية الجدد للبلدان في مخيلة الدول الإفريقية".

وبخصوص السبب الثالث، يتابع الباحث الأكاديمي، فيتجسد في "تنافس الحلفاء التقليديين لفرنسا معها على إفريقيا، حيث خسرت باريس تأثيرها في أوغندا ورواندا، كما باتت تجد منافسة اقتصادية شرسة من جانب دول أوروبية مثل ألمانيا وهولندا".

وأما السبب الرابع، وفق صالح، فيتمثل في "انشغال فرنسا بمشاكلها الداخلية والسعي لتحصين أوروبا دفاعيا بعد الحرب الروسية-الأوكرانية (التي بدأت في 24 فبراير/شباط 2022)". 

وأوضح أن "هذه التحديات باتت تشتت فرنسا عن لعب دور أكثر تأثيرا في العلاقات الدولية، وخصوصا في إفريقيا، ومن بين تلك المشاكل، قضايا الاندماج والتطرف والهجرة وصعود اليمين".

من جانبه، أكد وزير السياحة المغربي السابق، لحسن حداد، أن "التأثير الفرنسي على إفريقيا على مختلف المستويات بدأ يعرف فتورا واضحا في السنوات الأخيرة".

وشدد حداد في مقال نشره عبر جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية، في 14 سبتمبر/أيلول 2022، على أن "بريق الثقافة الفرنسية خَفَت في الفضاءات الإفريقية، وصار صوتها غير مسموع، بل إن وجودها العسكري والدبلوماسي والسياسي والثقافي صار غير مرغوب فيه في بعض الدول". 

ويرى أن "الأسباب العميقة لذلك تكمن في تذبذب ثقة النخب الإفريقية في فرنسا، وقدرة هذه الأخيرة على إيجاد النموذج الأمثل لتحقيق التنمية في بلدانهم، والنفور المتنامي لفرنسا بنخبها من إفريقيا رغم يقينهم أن المستقبل واعد في هذه القارة الشابة، المترامية الأطراف، التي يتجاوز عدد سكانها مليارا و200 مليون نسمة".

فمن جهة، يردف حداد، "هناك قناعة لدى النخب الإفريقية التي لم تشهد فترات التحرر من الاستعمار أن الوجود الاقتصادي والمالي الفرنسي في إفريقيا هو فقط مؤشر لتصرفات من المفترض أنه تم تجاوزها بُعَيْدَ الاستقلال، بل إن كثيرا منهم يرى أن التأثير الفرنسي هو عامل إحباط، بدل أن يكون عامل انطلاقة وإقلاع".

وأشار إلى أن "الأفارقة ينظرون إلى النموذج الرواندي باهتمام شديد، حيث تم التخلي عن الفرنسية واستبدال الإنجليزية بها، كما دخلت الغابون نادي الكومنولث وقررت التخلي عن الفرنسية، فضلا عن وجود أصوات في المغرب تنادي بالانتقال كذلك إلى الإنجليزية والنموذج الأنغلوساكسوني".

ولفت حداد إلى أن "الفرنسيين انشغلوا بنقاشات عقيمة حول الهوية والهجرة والإسلام السياسي، واختلط الحابل بالنابل عندهم، وصار العنصر الإفريقي مثله مثل العربي والمسلم، عبارة عن دخلاء يجب عدم الاكتراث بهم، بل يجب التضييق على دخولهم الأراضي الفرنسية، كما يحصل حاليا مع المغاربة والجزائريين والتونسيين".

البديل الروسي

وعن الدور الروسي المتنامي في إفريقيا، أكد الأكاديمي المغربي بيبوط، أن "هذا الدور لا يمكن أن يكون بنّاء أيضا، بالنظر إلى تاريخ تدخل موسكو في الدول إبان الحقبة السوفيتية وما تلاها من نماذج طالت أغلب بلدان رابطة الدول المستقلة شرق أوربا ثم دورها في سوريا اليوم".

وذكر أن "هذه كلها نماذج تتميز بالتدخل العسكري الفج، وتنصيب الرؤساء الموالين لروسيا، والدفاع عنهم بالقوة الغاشمة، ولنا في النموذج الجورجي والأوكراني خير دليل".

وأوضح المتحدث ذاته، أن "الوجود الروسي في إفريقيا اليوم بدأ بقوات (فاغنر) التي تجوب الدول والأقاليم الإفريقية، إما بتفويض من البلد المضيف أو بتدخل في شؤون دولة لها مشاكل مع جيرانها، أو غير ذلك".

وشدد على أن "هذا الوجود أضحى مزعجا لفرنسا، بالنظر لوجود قواته قرب المناجم المهمة وحقول النفط وعند الحدود".

وأشار بيبوط إلى أن "هذه المجالات كانت فرنسا تتمتع فيها بدور الدركي الوحيد، حافظ الأمن ومحتكر تجارة المعادن النفيسة، وممول الجماعات المسلحة العنيفة (لا أقول إرهابية)".

ولفت إلى أن "الروس اليوم أصبحوا أكثر اطلاعا من غيرهم على حجم التدخل الفرنسي في أزمات دول إفريقيا ونهب الثروات وتسليح الجماعات المتطرفة لتهديد الدول وابتزاز الحكومات".

وخلص بيبوط إلى أنه "إن كانت هناك إيجابية واحدة في الوجود الروسي في إفريقيا، فهي في مزاحمة هذا الاحتكار الفرنسي شبه الكامل لإفريقيا الفرنسية".

وأكد أن "هذا الاحتكار أفقر القارة السمراء وجعلها عرضة لمشاكل لا حصر لها، ليس أولها التخلف بعشرات السنين عن ركب التطور الذي أضحت تعرفه كل شعوب الأرض".