تهديدات حقيقية.. ما مصير المصارف اللبنانية بعد خسارتها ثقة المودعين؟
.jpg)
في واقعة أحدثت ضجة داخل لبنان وخارجه، اقتحمت شابة تدعى سالي حافظ في 14 سبتمبر/ أيلول 2022 أحد فروع بنك "لبنان والمهجر" في العاصمة بيروت، وهو من أكبر خمسة مصارف بالبلاد.
وأرغمت سالي موظفي المصرف على منحها وديعتها لمعالجة شقيقتها التي تعاني من مرض السرطان وبحاجة إلى أدوية باهظة الكلفة.
ومع أنها ليست الحادثة الأولى من نوعها، إلا أن كم التعاطف الكبير الذي حصلت عليه سالي جعلها تتحول الى أيقونة.
وهذا ما حفز آخرين لانتهاج السلوك نفسه، فبعد يومين فقط حصلت خمس عمليات اقتحام لمصارف عدة، في مناطق ومدن لبنانية مختلفة.
ما دفع المصارف إلى إعلان الإضراب لمدة ثلاثة أيام، ثم عادت ومددته إلى أسبوع، فيما عقدت قوات الأمن بالبلاد اجتماعا عاجلا بقيت مقرراته سرية، وسط مخاوف من انتشار الفوضى وانهيار الأمن المترنح.
ومنذ أكثر من عامين يعاني لبنان أزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) أدت إلى انهيار مالي، فضلا عن خسائر مادية كبيرة تكبدها الجهاز المصرفي تقدرها الحكومة بنحو 69 مليار دولار.
الشرارة الأولى
قبل سالي حصلت ثلاث عمليات اقتحام لمصارف على فترات زمنية متباعدة. كانت الأولى في أبريل/ نيسان 2020، والثانية في يناير/ كانون الثاني 2022، والثالثة في أغسطس/ آب 2022.
ووفق ما تداولته وسائل إعلام لبنانية، دخلت سالي ومن معها إلى حرم المصرف وأقفلوا الأبواب مانعين الدخول والخروج، ثم قامت سالي برش المصرف بالبنزين وشهرت سلاحها في وجه المدير وأمسكت بعنقه ما دفع الأخير إلى المسارعة بتلبية طلبها.
ونجحت سالي بتهديد سلاح بلاستيكي يستخدم كلعبة للأطفال في الحصول على جزء من الوديعة، قيمته 12 ألف دولار بالعملة الصعبة وألف آخر بالعملة المحلية.
ووثقت العملية بتسجيلات فيديو نشرتها على منصات التواصل الاجتماعي، ووقعت على المبلغ الذي استلمته كي لا تترك للمصرف أي ثغرة يستطيع من خلالها اتهامها بسرقة مبالغ أخرى.
ثم توارت عن الأنظار بعد ذلك ولم تنجح قوات الأمن في العثور عليها حتى كتابة التقرير.
بينما أصدرت إدارة بنك "لبنان والمهجر" بيانا قالت فيه إن "لدى العميلة سالي حافظ حساب في فرعنا، لكنها لم تحضر إلى الفرع أو تقوم بأي عملية مصرفية من أي نوع منذ أكثر من سنة ونصف السنة".
وأضافت: زارتنا حافظ يوم الخميس 13 سبتمبر، واجتمعت بالمدير طالبة إمكانية مساعدتها في سحب مبلغ من حسابها لعلاج شقيقتها المريضة، وأبدى المدير التعاون معها وطلب منها بعض المستندات".
وعد المصرف في بيانه أن ما حصل هو "عملية مدبرة وخطط لها وتصميم بقصد الإيذاء".
في المقابل، قالت سالي في مقابلة مسجلة مع قناة "الجديد" المحلية، التي تحفظت عن ذكر مكان إجراء الحوار، أنها ترجت مدير الفرع مرات عديدة للحصول على الوديعة البالغة 20 ألف دولار.
فما كان من الأخير إلا أن وافق على منحها 200 دولار شهريا فقط، وبالعملة المحلية على سعر صرف يبلغ 12 ألف ليرة (يبلغ سعر صرف الليرة حاليا 38 ألف ليرة لكل دولار)، وهذا لا يكفي لثمن الإبرة التي تأخذها شقيقتها.
وأشارت سالي إلى أن العائلة باعت أغلب أثاث المنزل من أجل تكاليف العلاج التي ناهزت 50 ألف دولار، حتى أنها أبدت استعدادها لبيع كليتها فقط من أجل علاج شقيقتها التي تحتاج كل 20 يوما إلى حقنة تبلغ قيمتها 2000 دولار.
وبعدما ضاقت بها السبل اقتحمت المصرف وبحوزتها مسدس "لعبة" يلهو به ابن شقيقتها.
من جانبها، كشفت والدة سالي في تصريحات إعلامية عن معاناة ابنتها من سرطان الدماغ منذ نحو سنة، "هي اليوم لا تتكلم إلا بشكل محدود، وتحتاج إلى السفر إلى تركيا لمتابعة علاج أكثر فاعلية بعد خضوعها لجراحة استئصال جزئي للورم".
وهذا ما زاد من حجم التعاطف مع سالي، خاصة مع انتشار صور لشقيقتها المريضة وذيوع قصتها، حتى أن بعض مشاهير الفن في لبنان، مثل المطربة إليسا، أبدوا تضامنهم مع سالي وأيدوا ما فعلته.
بدل ما توقفوا سالي اللي بدها حقها تا تتعالج أختها، روحوا وقفوا الفاسدين اللي سرقوا الدولة وصادروا أموال الناس وحرموهم أبسط حقوقن. يا عيب الشوم شو هالزمن اللي وصلنالو pic.twitter.com/f54mjvjgcV
— Elissa (@elissakh) September 14, 2022
سيل جارف
وعقب يومين من الواقعة شهد لبنان في 16 سبتمبر موجة اقتحامات بلغ عددها خمسا طالت عددا من المصارف في مناطق مختلفة، وسط خشية كبيرة من خروج الأمور عن السيطرة.
وفي تقرير مفصل عن عمليات الاقتحام، أشارت صحيفة "الأخبار" المحلية، في 17 سبتمبر إلى التوزيع الجغرافي للعمليات، موضحة أن من قاموا بها يعملون في مهن مختلفة لا يوجد بينها رابط، ما ينفي إمكانية العمل المنظم أو المخطط مسبقا.
وقال نجل سائق تاكسي شارك بإحدى العمليات في حديث للصحيفة، إن والده "منذ 15 عاما يجمع وديعته بـ50 و100 دولار حتى وصل ما ادخره إلى 19 ألفا، هي جنى عمره في العمل كسائق تاكسي".
وأردف بـ"أنهم (المصرف) كانوا يذلونه للحصول على 200 دولار كأنه يشحذها وليست أمواله".
ودخل سائق التاكسي فرع بنك "بيبلوس" في مدينة الغازية جنوب لبنان وبحوزته مسدس للأطفال وتمكن من الحصول على أغلب مستحقاته.
في حين دخل ضابط في الجيش برتبة ملازم فرعا لمصرف آخر في بلدة شحيم قرب بيروت شاهرا مسدسه الحقيقي وأطلق رصاصتين في الهواء مطالبا بتسليمه وديعته البالغة 180 ألف دولار.
وكان لافتا أنه فور شيوع الخبر سارع أهل بلدته لمساندته، وبعد مفاوضات طويلة استمرت حتى المساء نجح في الحصول على 25 ألف دولار.
ومن بين عمليات الاقتحام الخمس فشلت واحدة منها فقط بسبب قيام الشاب الذي اقتحم فرعا لبنك "لبنان والمهجر" في حي الطريق الجديدة غرب بيروت للحصول على وديعته البالغة 165 ألف دولار بإلقاء سلاحه بعد حضور قوى الأمن.
وهذا ما حدا بإدارة المصرف إلى المماطلة في المفاوضات التي استمرت حتى ساعات الليل الأولى دون فائدة.
فتدخل أحد مشايخ دار الفتوى، ولحقه نائب بيروت نبيل بدر الذي اصطحب الشاب المقتحم معه في سيارته وأوصله إلى مركز الشرطة للإدلاء بإفادته بعد أن تعهد له بعدم توقيفه، لكن ذلك لم يحصل، ولا يزال معتقلا حتى اليوم.
وعقب قيام سائق التاكسي باسترداد وديعته بالقوة، أصدر بنك "بيبلوس" بيانا أعلن فيه عن "إقفال جميع فروعه في محافظة الجنوب حتى إشعار آخر حفاظا على سلامة موظفيه وزبائنه" مؤكدا بأنه "لن يتهاون في التصدي للمعتدين وملاحقتهم بمختلف الوسائل القانونية المتاحة".
الأمر الذي سيرتد سلبا على عشرات اللبنانيين القاطنين في الجنوب والذين يتقاضون رواتبهم أو لديهم ودائع في هذا المصرف.
كما أعلنت جمعية مصارف لبنان عن إغلاق أبوابها لمدة 3 أيام بدءا من 19 سبتمبر، ثم مددتها حتى نهاية الأسبوع.
وأكدت أن حل المشكلة لا يكون بالاقتحامات بل بـ"إقرار القوانين الكفيلة بمعالجة الأزمة بأسرع ما يمكن، عبر خطط شاملة تأخذ بعين الاعتبار كافة المسببات وتقوم بمعالجتها بشكل متكامل".
وناشدت الجمعية في بيانها "الدولة بكامل أجهزتها السياسية والأمنية والقضائية بتحمل أدنى مسؤولياتها إزاء تدهور الوضع الأمني" مؤكدة بأن المصارف "لن تتأخر بعد اليوم عن ملاحقة المعتدين حتى النهاية".
ردع المودعين
مساء يوم الاقتحامات الطويل، أصدر النائب العام التمييزي غسان عويدات استنابة قضائية موجهة لكل الأجهزة الأمنية من أجل "ملاحقة الأعمال الجرمية المرتكبة داخل فروع عدة مصارف في لبنان، والعمل على توقيف المرتكبين وإحالتهم لديه.
وطالب عويدات بالكشف عن مدى ارتباطها ببعضها وتوقيف المحرضين، كون هذه الأفعال تشكل بتفاصيلها عمليات سطو مسلح على المصارف، وغايتها توقيف العمل المصرفي في لبنان وإحداث مزيد من الأزمات الاقتصادية والمالية".
فيما أبلغ المحامي العام التمييزي غسان خوري مضمون الاستنابة إلى مجلس الأمن المركزي أثناء اجتماعه برئاسة وزير الداخلية بسام مولوي، وذلك لبحث الإجراءات الواجب اتخاذها في هذا الصدد.
وأشارت الصحفية ملاك عقيل في مقالة لها بموقع "أساس ميديا" المحلي في 20 سبتمبر إلى حدوث تضارب في الآراء باجتماع مجلس الأمن المركزي بين رؤساء الأجهزة الأمنية بشأن أصل المشكلة وآليات حلها.
ومضت تقول: "أكد أحد مسؤولي الأجهزة الأمنية بأن نهار الاقتحامات كان أمرا منظما ومدبرا، ويجب التعاطي مع هذا الواقع من الآن وصاعدا باعتباره عملا جرميا".
لكن أيضا وجد على الطاولة من ينادي بحل أمني سياسي مالي شامل لأنه "من غير الجائز أن تضعنا السلطة السياسية والمالية بوجه المودعين ونحن منهم، إضافة الى استحالة توزيع العناصر الأمنية على كل فروع المصارف".
وكشفت عقيل عن المقررات السرية لمجلس الأمن المركزي والتي اشتملت ثلاث نقاط:
- التعامل مع أي اقتحام لأي مصرف بوصفه جناية سرقة وسطو مسلح وتهديدا بالقتل استنادا إلى الاستنابة التي أصدرها النائب العام التمييزي.
- تعامل الأجهزة بقسوة وبشدة مع كل معتد على الأملاك العامة والخاصة ومن يهدد موظفي المصارف بقوة السلاح لاسترداد وديعته بالقوة.
- التقصي الأمني لمدى وجود عمل منظم بين كل الاقتحامات التي حصلت.
وطرحت عقيل إشكالية استخدام الشدة وتساءلت "هل منح مجلس الأمن المركزي الأجهزة الأمنية الغطاء إلى حد الدخول إلى المصارف واستخدام القوة مع المقتحم مع ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تعريض حياته وحياة الموظفين والعناصر الأمنية للخطر؟".
وفي السياق، نقلت عن مصدر قضائي لم تسمه، أن "تحرك النيابة العامة يهدف إلى الردع أكثر من عقاب المودعين، إذ لا يجوز ترك الأمور فالتة، وهو ما قد يسمح بخروج الوضع عن السيطرة والدخول في فوضى شاملة".
وفي رؤية مغايرة، أكد الصحفي سامر زريق أن ما جرى مدبر من قبل السلطة السياسية، والهدف منه إقفال المصارف للتلاعب أكثر بسعر صرف الدولار والمحافظة على ما تبقى من احتياط مصرف لبنان من العملة الصعبة.
وأضاف لـ"الاستقلال" أن ملاءة مصرف لبنان المالية متعثرة، وهو يريد إعادة ضبط الإنفاق وتوزيع الأموال على المصارف، ولهذا ضغطت جمعية المصارف بالتنسيق مع السلطة السياسية باتجاه إغلاق المصارف لمدة أسبوع تحت ذريعة الاقتحامات".
وأكد أن "الإقفال ليس هو الحل إنما مصارحة المودعين بأن جزءا من ودائعهم تبخرت، وإن خطة التعافي الحكومية يجب أن تشمل حلولا لإعادة ما تبقى من أموال المودعين لأصحابها على فترات زمنية متوسطة المدى.
وختم زريق مستدركا: "وإلا سنشهد مع القابل من الأيام مزيدا من الاقتحامات، وبالتالي مزيدا من العنف والفوضى".
المصادر
- مقابلة مع المودعة سالي حافظ
- شقيقة مقتحمة البنك في لبنان تعترف أن مسدسها كان لعبة بلاستيكية
- "كيف تفاعل نجوم لبنان مع اقتحام سالي حافظ للمصرف في بيروت
- "خمس عمليات منفردة لاسترداد الودائع: الذئاب المنفردة تغزو المصارف
- "بنك بيبلوس يقفل جميع فروعه في الجنوب: لإنزال أشد العقوبات بحق المعتدين"
- "عويدات يصدر استنابة قضائية بملاحقة الأعمال الجرمية داخل المصارف
- "ميني ثورة على باب العدلية..وقطع طرقات من بيروت الى الشمال
- اقتحامات المصارف في لبنان..جدل قانوني بشأن حقوق المودع
- السلطة: الأشغال الشاقة لمقتحمي المصارف