لبروزها أكثر مما يرغب.. الغرب يعاقب تركيا بتحريك "بيدق" اليونان في بحر إيجة

منذ بضعة أشهر وبوادر حرب تغلي تحت مياه بحر إيجة الفاصل بين تركيا واليونان، بسبب عدة ملفات، أهمها تسليح أثينا جزرها هناك بأسلحة وصواريخ فتاكة بالمخالفة لاتفاقات دولية مبرمة مع أنقرة.
ويرى مراقبون أن من أهم دوافع إصرار اليونان على إثارة التوتر الحالي، هو بروز صورة تركيا الإيجابية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، ولا سيما على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي، وهو عكس ما تأمله أثينا في إظهار أنقرة كقوة معتدية خطرة على الأمن الدولي.
تحرش يوناني
وفي أحدث صور هذا التوتر، كشفت وزارة الدفاع التركية، في 28 أغسطس/ آب 2022، عن تعرض مقاتلات تابعة لها للتحرش من جانب منظومة دفاع جوي "إس 300" تابعة لليونان، أثناء قيامها بمهام في بحر إيجة وشرقي البحر المتوسط.
ولم يقتصر رد تركيا على التنديد، بل قاد وزير الدفاع خلوصي أكار في 2 سبتمبر/ أيلول 2022، طائرة حربية بنفسه وتوجه نحو بحر إيجة متحديا الرادارات ومنظومة الدفاع اليونانية.
فيما هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كلمة بتاريخ 3 سبتمبر/ آب 2022 اليونان بهزيمة كما جرى خلال الحرب اليونانية التركية (1919-1922).
وحذر أردوغان اليونان من أنها ستدفع "ثمنا باهظا" في حال تمادت أكثر وواصلت انتهاك المجال الجوي التركي و"مضايقة" الطائرات التركية فوق بحر إيجة.
وقال: "أيتها اليونان عودي إلى التاريخ، ولا تنسوا إزمير"، في إشارة إلى المدينة المطلة على بحر إيجة والتي يسميها اليونانيون "سميرنا" واحتلتها اليونان، عقب معاهدة نهاية الحرب العالمية الأولى ثم استعادها الأتراك عام 1922.
وأضاف أن "احتلالكم للجزر (ببحر إيجة) لا يلزمنا.. حين تأتي اللحظة، سنفعل ما يلزم .. قد نأتي على حين غرة".
وقبل هذا التوتر الأخير، وحين زار رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، أنقرة منتصف مارس/ أذار 2022 للقاء الرئيس التركي، بدا أن البلدين يخطان طريقا جديدة أكثر هدوءا عنوانها الحوار والتنسيق والتعاون.
بيد أن ميتسوتاكيس لم يلبث أن نكص عن هذا الطريق في خطابه أمام الكونغرس الأميركي في مايو/ أيار 2022 محرضا إياه على أنقرة، خصوصا فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة، حيث طالبهم بعدم بيع طائرات إف 16 لتركيا.
ورد عليه أردوغان بانتقاد شديد ووصف خطابه في الكونغرس بأنه "خيانة دبلوماسية"، وأكد أنه لن يشارك في حوار مستقبلي معه بعد تراجعه عن الاتفاق الذي أبرمه البلدان، قائلا: "لم يعد موجودا شخص اسمه ميتسوتاكيس بالنسبة إليّ".
سر التصعيد
ويرى مراقبون أن التصعيد اليوناني متعمد لأسباب تتخطي دور اليونان، وتصب في خانة سعي أطراف غربية لإضعاف تركيا وشغلها عن صعودها المتسارع في مجالات تكنولوجية وعسكرية وتحولها تدريجيا لقوة عظمى يُحسب لها حساب في شؤون المنطقة.
آخرون يرون أن التصعيد له علاقة بالعلاقات التاريخية والدينية المعقدة بين البلدين وسعي أثينا لاستغلال الضغوط الغربية المتزايدة على تركيا في عدة ملفات في الفترة الأخيرة.
أشار للسبب الأول، الرئيس التركي في تصريحات صحفية في 31 أغسطس 2022، قائلا إن بلاده تعلم أن "مثيري الاضطرابات (اليونان) في بحر إيجة عبر تحرشاتهم وقلة أدبهم ليسوا سوى بيادق"، في إشارة لتحريك الغرب لهم على رقعة الشطرنج لملاعبة تركيا.
وأكد أن تركيا تدرك أيضا سبب امتناع الاتحاد الأوروبي عن ضمها منذ نحو 60 عاما رغم منحه العضوية لدول لا يمكن مقارنتها بتركيا سواء من حيث المعايير الديمقراطية أو الاقتصادية، في إشارة لأنها دولة مسلمة والاتحاد "مسيحي".
وترجح صحف تركية أن يكون تصعيد اليونان للتوتر وإغضاب تركيا، مدفوعا من جانب الولايات المتحدة، التي تفرض عقوبات على تركيا، وأخرجتها من مشروع مقاتلات إف 35، بدعوى شراء منظومة إس 400 الروسية.
كما تنحاز واشنطن لليونان في القضية القبرصية، بخلاف القواعد العسكرية التي تنشرها على الأراضي اليونانية وعلى مقربة من الحدود التركية، ما يمنح أثينا إحساسا بأن واشنطن أقرب لها من أنقرة.
بالمقابل يرى مراقبون أن الغرب بات أكثر حاجة لتركيا، والحرب الروسية-الأوكرانية دفعت أميركا إلى إعادة النظر في أهمية تركيا والأدوار التي يمكنها أن تلعبها ويصعب على أي دولة أخرى الاضطلاع بها.
خصوصا بعد وساطتها السياسية الناجحة بين روسيا وأوكرانيا، وكذا في حل أزمة الحبوب الأوكرانية وغيرها.
ونقلت قناة "تي آر تي خبر" التركية الحكومية، في 25 أغسطس/آب 2022، عن الباحث في مركز "سيتا" للدراسات بيلغهان أوزتورك تأكيده، أن التحرشات اليونانية ضد تركيا يقف وراءها هدفان.
الأول: "حشد الرأي العام ولفت انتباه وسائل الإعلام الدولية وتوجيهها ضد تركيا وزيادة إشكالياتها في أعين الغرب، خاصة أن هناك اتجاها يحاول تصنيف تركيا كحليف مضطرب لحلف شمال الأطلسي".
والثاني: "تشويه سياسة التوازن التي تنتهجها تركيا بين روسيا وأوكرانيا ودورها الكبير للعب دور الوسيط ومساعيها لوقف امتداد آثار الحرب إلى بقية العالم، وهو ما لا يعجب اليونان التي تريد أن تقدم تركيا إلى الغرب بصورة موالية لموسكو".
مشروع ضحية
وأوضح الباحث التركي أن "هدف اليونان هو التأثير على الغرب من أجل جعل اليونان تبدو ضحية كأوكرانيا وتركيا مثل روسيا (المعتدية)".
سبب آخر وراء هذه الاستفزازات اليونانية، بحسب أوزتورك، هو دفع سلاح الجو التركي للتصرف باندفاع للرد على التوترات المتصاعدة، ومن ثم إشعال أزمة يجرى استغلالها من قبل اليونانيين للتحريض ضد تركيا.
وذلك مثلما حصل في حادثة السفينة الفرنسية عام 2020، حين اتهمت فرنسا تركيا بافتعال أزمة، وجرى تصوير تركيا كدولة معادية على الصعيد المحلي والغربي.
حيث تتهم اليونان الطائرات التركية بالتحليق فوق جزر يونانية قريبة من الحدود التركية، وتصور الأمر كأنه عدوان، بينما تؤكد أنقرة أن اليونان تحشد صواريخ وقوات في جزر بحر إيجة بالمخالفة للاتفاقيات الدولية الموقعة بين البلدين.
إذ تطالب أنقرة، اليونان بالالتزام باتفاقيتي لوزان عام 1923 وباريس عام 1947، اللتين تنصان على إبقاء جزر بحر إيجة منزوعة السلاح، خصوصا أن أثينا تعهدت أمام القوى الكبرى حينذاك بالالتزام بهذا الشرط.
وفي يونيو/ حزيران 2022 صرح وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو أن أنقرة ستتحدى سيادة اليونان على هذه الجزر إذا واصلت إرسال قوات إليها.
وينذر التوتر بمواجهة عسكرية في ظل تمسك أثينا بتسليح جزر بحر إيجة بالاستناد إلى ميثاق الأمم المتحدة "في الدفاع عن النفس"، في حين تؤكد تركيا أنها جادة في الرد الحاسم على اليونان لخرقها الاتفاقات.
وفي 21 يونيو 2022 اتهمت أنقرة رسميا أثينا بتسليح 12 جزيرة في بحر إيجة بالقرب من الأراضي التركية، مؤكدة أنها ترفض أيضا الحدود التي رسمتها اليونان مع دول أخرى وقلصت الحدود البحرية التركية، وتحدتها بتسيير سفن تنقيب في شرقي المتوسط.
وفي 22 يونيو، وصل التوتر إلى حد تهديد الجنرال اليوناني المتقاعد يانيس إيغولفوبولوس، في مقال نشرته وسائل إعلام محلية، بإمكانية قصف جسور إسطنبول الحيوية.
ورد عليه زعيم حزب الحركة القومية التركي دولت باهتشلي، بقوله في تصريحات بالبرلمان: "يبدو أن اليونانيين نسوا مصير أجدادهم الذين دفنوا في قاع بحر إيجة".
ونشرت وكالة الأناضول التركية الرسمية تقريرا في 31 أغسطس 2022، أكدت فيه انتهاك اليونان، الأجواء التركية بمقاتلاتها 256 مرة، ومياه تركيا الإقليمية بمراكب خفر السواحل لديها 33 مرة، وتحرشت بالمقاتلات التركية 158 مرة، منذ بداية 2022.
ازدواجية غربية
تشكو تركيا من انحياز أمريكي وغربي لليونان، فبينما يغضون الطرف عن امتلاك وتفعيل اليونان منظومة إس 300 الروسية ضد حليف بالناتو، يفرضون عقوبات على تركيا لشرائها منظومة إس 400.
ومن ملامح هذ السياسة التمييزية، شنت صحيفة "ذا هيل" القريبة من البيت الأبيض في 23 يونيو 2022، هجوما على تركيا وعدت تصرفاتها "انحرافا" يشكل تهديدا متزايدا لحلف شمال الأطلسي.
وطالبت الصحيفة أميركا باتخاذ عدة إجراءات ضد تركيا، منها زيادة وجودها البحري في شرق البحر المتوسط ونشر حاملة طائرات "لردع التصعيد التركي ومزيد من الضغوط على نظام أردوغان".
موقف آخر أغضب تركيا من حلف الناتو، حين استجاب لشكوى قدمتها اليونان تطلب فيها حذف منشور على تويتر تهنئ فيه قيادة الحلف، تركيا بعيد النصر (30 أغسطس)، وهو يوم ذكرى هزيمة الجيش التركي لليونان عام 1922.
وقالت وزارة الدفاع التركية، في 2 سبتمبر 2022 إن سلوك حلف الناتو بحذف تغريدة هنأ فيها تركيا بالذكرى المئوية لـ "عيد النصر" إثر اعتراض يوناني، ألحق أضرارا كبيرة بهوية الحلف المؤسسية ومكانته.
وعقب التوبيخ التركي للحلف أعاد الناتو نشر تهنئة "معدلة" لتركيا، قال فيها "نهنئ حليفنا التركي بمناسبة يوم القوات المسلحة"، دون ذكر "عيد النصر".
On Tuesday, LANDCOM congratulated our Ally Türkiye on the occasion of their Armed Forces Day. We are thankful to have Türkiye as our host nation. And we thank all thirty Allies for their contributions to our Alliance. We are stronger together.#WeAreNATO pic.twitter.com/P8ooI3MpFQ
— NATO Allied Land Command (@LANDCMD) September 1, 2022
وفي 31 أغسطس 2022 أنتقد أردوغان، الازدواجية التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع بلاده، لامتناعها عن إعطاء تركيا مقاتلات إف 35، ومعاقبتها لشرائها منظومة إس-400،.
ولام أردوغان الناتو في 2 سبتمبر 2022 لانحيازه لليونان قائلا إن "الحلف لا يمكن أن يكون قويا بدون تركيا، في حين أن اليونان لا وزن لها في الحلف".
وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، وما نتج عنها من هزيمة لـ "قوات المحور" التي كانت الدولة العثمانية تشكل جزءا منها، اعتقدت "قوات الحلفاء" ومنها اليونان أن الفرصة حانت لتحقيق أحلامها في تقاسم التركة العثمانية.
وبعد دخول قوات الحلفاء مدينة إسطنبول، احتلت فرنسا أضنة، وبريطانيا أورفة ومرعش وصامسون، فيما احتلت إيطاليا ولاية أنطاليا والجنوب الغربي للأناضول، وسمح لجيش اليونان بدخول إزمير في 15 مايو 1919.
وبحلول عام 1921 قامت القوات اليونانية باحتلال مناطق تركية من إزمير إلى قضاء بولاتلي الذي يبعد عن أنقرة نحو 76 كيلومترا.
لكن القوات التركية شنت معركة "الهجوم الكبير" في 26 أغسطس/1922 ضد القوات اليونانية، وتم إجبار اليونانيين على التراجع والانسحاب من إزمير في 30 من الشهر ذاته، وفيه تحتفل تركيا سنويا بـ "عيد النصر".