سابقة تاريخية.. الجزائر تتحرك نحو إنهاء تغلغل "الفرنسية" بخطى سريعة

باعتماد اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية لأول مرة في التاريخ، تكون الجزائر "قد وجهت الضربة القاضية" للغة موليير (المسرحي الفرنسي العالمي) التي هيمنت وسيطرت على معظم الإدارات الرسمية والخاصة.
وبدفعة رسمية واضحة، بدأت اللغة الإنجليزية تجد موطئ قدم لها في الجزائر، وسط حديث عن أن قرارات تعليم الإنجليزية في الابتدائي أزعج باريس، رغم صمتها عن الإجراء الجديد.
سابقة في التاريخ
وفي 19 يونيو/حزيران 2022، أعطى الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، الضوء الأخضر لتدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، لأول مرة في تاريخ البلاد.
جاء ذلك خلال اجتماع لمجلس الوزراء ترأسه تبون في العاصمة الجزائر، ناقش برامج التعليم بالبلاد، وفق بيان للمجلس.
وأفاد البيان، بأن تبون "أمر باعتماد اللغة الإنجليزية، بدءا من الطور الابتدائي، بعد دراسة عميقة، للخبراء والمختصين".
وبموجب القرار ستصبح الإنجليزية ثاني لغة أجنبية في المرحلة الابتدائية إلى جانب الفرنسية.
ورحبت "جمعيات أولياء التلاميذ والنقابات التربوية" في الجزائر، بقرار إدراج تدريس الإنجليزية، في الطور الابتدائي الذي كان يعتمد على الفرنسية كلغة أجنبية أولى.
ويرى المرحّبون بالقرار أن الإنجليزية باتت لغة العلم والتطور والتعامل بين الشعوب، وهو ما يجعل أمر اتخاذها كلغة أجنبية أولى في الجزائر، "حتمية لا مفر منها".
وفي هذا الصدد، بين رئيس الجمعية الوطنية لأولياء التلاميذ لولاية البليدة، عز الدين زروق، أن "قرار رئيس الجمهورية، يعد تجسيدا لمطلب قديم لجمعيات أولياء التلاميذ، في ظل الانتشار الرهيب لتعلم اللغة الإنجليزية عالميا".
وقال زروق لموقع "الشروق" في 20 يونيو 2022، إن "أطفالنا باتوا يشاهدون الرسوم المتحركة الناطقة بالإنجليزية، ويتعلمون مصطلحات يستعملونها في حياتهم اليومية.
كما أن "غالبية الألعاب وطرق التواصل عبر وسائط التواصل الاجتماعي والتطبيقات، هي باللغة الإنجليزية".
هذا فضلا عن الاعتماد الكلي لغالبية دول العالم في تواصلها على هذه اللغة، ومنها دول المشرق العربي والخليج وأوروبا، وتركيا، وفق قوله
من جانبه، قال الإعلامي مجيد بوطمين: "بعد القرار الشجاع من طرف السلطات بإقرار تعليم الإنجليزية في الطور الابتدائي وهو توجه اعتمدته أغلب الدول في العالم، أتمنى أن يتم رفع التجميد عن قانون تعميم استعمال العربية، اللغة الرسمية للدولة الجزائرية (صادر بتاريخ 16 يناير/كانون الثاني 1991)".
وأضاف في تدوينة نشرها في 27 يونيو 2022 على فيسبوك أن "رفع التجميد سيتزامن ونحن نحتفل بالذكرى الستين لاستقلال الجزائر (5 يوليو/تموز 1962) التي ضحى من أجلها الشرفاء كي ننعم نحن بوطن مستقل جميل يتسع للجميع".
الجندي الأخير
ويعود انتشار الفرنسية في الجزائر إلى فرضها خلال الحقبة الاستعمارية التي استمرت 132 سنة (1830 -1962) ومحاربة الاحتلال للغة العربية، فضلا عن تأخر تطبيق قوانين لتعريب الإدارة والتعليم بعد الاستقلال.
ومن فترة لأخرى، تشهد الجزائر جدلا بشأن مكانة الفرنسية في الأوساط الرسمية بالدرجة الأولى، إذ يحتج معارضون، خصوصا المحافظين، على خطابات رسمية بالفرنسية، وتداول وثائق في الإدارات الحكومية بهذه اللغة الأجنبية.
وفي يناير/كانون الثاني 1991، أصدرت السلطات الجزائرية قانونا يقضي بتعميم استعمال اللغة العربية في المعاملات كلها داخل القطاعات الحكومية، لكن تطبيقه بقي معلقا لأسباب يقول معارضون إنها تعود إلى نفوذ ما يُسمى "اللوبي الداعم لفرنسا في الجزائر".
وتستعمل معظم الوزارات في الجزائر الفرنسية في أغلب مراسلاتها الداخلية وحتى في بياناتها الرسمية، رغم أن الدستور ينص على أن "العربية هي اللغة الوطنية والرسمية الأولى، كما أن الأمازيغية لغة رسمية ووطنية ثانية".
وقررت وزارات، منها العمل والتكوين المهني والرياضة، إنهاء استعمال اللغة الفرنسية في تعاملات موظفيها الداخلية والخارجية في خضم أزمة متصاعدة مع فرنسا، بعد تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصفت بـ"المسيئة".
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، شكك ماكرون في وجود أمة جزائرية قبل استعمار بلاده للجزائر (1830 ـ 1962).
ولم يسبق أن شهدت الجزائر قرارات رسمية وغير رسمية بهذا الحجم ضد استخدام الفرنسية في مختلف القطاعات الحكومية.
ولأول مرة منذ الاستقلال استمع الجزائريون إلى وزراء يتكلمون بلغة غير الفرنسية أو العربية، وقد كانت البداية مع وزير الخارجية، صبري بوقادوم، الذي تحدث بالإنجليزية خلال ندوة صحفية على هامش ترؤسه للوفد الجزائري المشارك في الدورة 74 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة.
وتعد تلك سابقة في تاريخ الدبلوماسية الجزائرية، التي ظلت تعرف وزراء لا يتكلمون إلا باللغة الفرنسية ونادرا بالعربية.
وظلت فرنسا منذ الاستقلال تنظر إلى انتشار لغتها في الجزائر، كـ"الجندي الأخير" الذي يحمي مصالحها الاقتصادية والسياسية بشكل غير مباشر.
وللاستدلال على ذلك، عندما اتخذت الجزائر قرار تأميم البترول في 24 فبراير/شباط 1971، قررت باريس معاقبتها من خلال سحب مهندسيها من المنطقة، لكنها لم تسحب أي معلم كان يدرس اللغة الفرنسية هناك.
مطالب شعبية
وخلال السنوات الأخيرة تصاعدت مطالب من أحزاب وجمعيات جزائرية تدعو إلى إدراج الإنجليزية في السنوات الأولى للتعليم بصفتها أكثر اللغات انتشارا في الأوساط العلمية عالميا.
ومطلع أكتوبر 2021، أطلق "منتدى المواطنة والبيئة الجزائري" (مستقل)، حملة جمع توقيعات مليونية لمطالبة الحكومة بتغيير لغة التدريس الثانية من الفرنسية إلى الإنجليزية، حيث تتواصل الحملة عبر الإنترنت.
حسب بيان للمنتدى، تهدف الحملة إلى "السعي لمواكبة العالم لغويا وفكريا وعلميا، ولننقذ أبناءنا من تضييع سنوات في تعلم لغة لا تفيد في شيء".
وأكد أستاذ اللسانيات بجامعة "الجزائر-2"، محمد قماري، أن "العين لا تخطئ وجود الإنجليزية على رأس الترتيب، ولا يمكن فهم اختيار مجلس الوزراء على أساس رد انفعالي، كما يحب بعضهم وصفه، بل هو خيار إستراتيجي، يحرر الجزائر من منطق المناولة التي تؤديها الفرنسية إلى اليوم".
من جانبه، قال المحلل السياسي الجزائري، جمال بن شمسة، إن "القرار جريء وهو لمستقبل الجزائر وأجيالها الصاعدة، لأن العالم وقريته الصغيرة أصبحت تتحدث الإنجليزية وهي اللغة الأولى في العالم، لذا كان لزاما على الدولة أن تعي هذا المعطى الجديد".
وأضاف في حديث لـ"الاستقلال"، أن "القرار الأخير تشكر عليه الدولة وإن جاء متأخرا، لكنه يعكس التوجه الجديد في إحراج دولة الاستعمار، وأنه نابع من قناعة بأن الجزائر يجب أن تجاريَ التطور اللغوي".
ولفت ابن شمسة إلى أن "الجزائر حتى الأمس القريب لا تزال مستعمرة بسبب تبعيتنا وارتباطنا باللغة الفرنسية وهي سياسة نهجتها باريس قبل مغادرتها الدول التي احتلتها حتى لا يذهب ذلك الرابط الفوقوي الأبوي، لكن القرارات الأخيرة في هذا الجانب أصلح أخطاء الماضي".
وشدد على أن "الفرنسية لم تعد تلك اللغة المغرية لدى الناشئة، ولم تعد لغة العلم الحديث، بل الطفرة الحالية والحاضر والمستقبل للإنجليزية، وبالتالي كان الخيار الأصح مجاراة التطور الراهن واختيارها ضمن مناهجنا التعليمية".
واستدرك موضحا: "قد تكون التغيرات والمناوشات السياسة هي الدافع لمثل هذا الاختيار من الدولة الجزائرية، إلا أنه هو الخيار الصحيح والتراجع عنه ضربة في مصداقيتها".
قال ابن شمسة: "بطبيعة الحال يمكن النظر لقرار تبون بأنه ضربة قاضية أو لحظة بداية نهاية التبعية والاستعمار اللغوي الذي عمر في البلاد بسبب الاستعمار، ولنا قناعة أن هذا سينجح على المدى المتوسط ولا حرج إن كان طويلا".