ماذا تعرف عن موصياد وتوصياد؟.. أكبر من مجرد تكتلين اقتصاديين في تركيا
.jpg)
جدل واسع شهدته تركيا خلال الأيام الأخيرة، جراء اختلاف في الرؤى بين جمعيتين تجاريتين تعدان من الأكبر في البلاد، حول الخطوات الاقتصادية التي اتخذتها أنقرة مؤخرا، فيما بات يعرف بـ"النموذج الاقتصادي الجديد".
ففي 19 ديسمبر/كانون الأول 2021، قالت جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين التركية "موصياد" إنها رصدت في الآونة الأخيرة "مساعي لخلق أجواء مصطنعة من انعدام الثقة لا تستند إلى أسس الاقتصاد الكلي"، مؤكدة أنها "ستقف في وجه هذه التحركات".
ويقصد بأسس الاقتصاد الكلي، عدة معايير تقيم الوضع الاقتصادي وتتعامل معه ككتلة واحدة، وتتمثل في الدخل القومي للدولة، والناتج المحلي، والاستهلاك المحلي، فضلا عن معدلات البطالة، والادخار، والاستثمار، والتضخم.
وجاء موقف "موصياد" غداة مهاجمة جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك "توصياد"، الهيكلية الاقتصادية الجديدة غير التقليدية التي أقدمت عليها الحكومة التركية، معتبرة إياها "ستفقر البلاد".
وأثارت هذه المواجهة بين ما يعرفان بـ"أكبر تكتلين اقتصاديين في البلاد"، اهتمام العديد من المراقبين، إضافة إلى وسائل إعلام محلية ودولية.
العملاق توصياد
ويقوم النموذج الاقتصادي التركي الجديد، على أسس خفض الفائدة، وزيادة الإنتاج والصادرات، وتقليص عجز الحساب الجاري، وجذب الاستثمارات المباشرة مقابل الأموال الساخنة، وضمان انعكاس مستوى الرفاهية على المجتمع بأسره، وليس أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة فقط.
وفي إطار هذا النموذج، خفض البنك المركزي التركي منذ أغسطس/آب 2021 سعر الفائدة بمقدار 500 نقطة أساس، من 19 بالمئة إلى 14 بالمئة، ما تسبب في انخفاض قيمة العملة المحلية لتتجاوز حد 18 ليرة مقابل الدولار الواحد.
لكن مع الكشف عن أداة مالية جديدة لحماية العملة، في 20 ديسمبر/كانون الأول 2021، ارتفعت قيمتها في أقل من أسبوع لتبلغ 10.5 ليرات مقابل الدولار.
كما قفزت الصادرات بنسبة 33 بالمئة في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 لتبلغ 21.5 مليار دولار، في حين سجل الحساب الجاري فائض 3.16 مليارات دولار في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وانخفضت البطالة نقطتين مئويتين لتصل إلى 11.2 بالمئة في أكتوبر/تشرين الأول 2021 على أساس سنوي.
وفي 18 ديسمبر/كانون الأول 2021، انتقدت "توصياد" هذا التوجه الاقتصادي الجديد واعتبرت أنه لن يسفر عن نتائجه المرجوة، ويحمل في طياته مخاطر بزيادة الفقر في البلاد على خلفية أجواء عدم الاستقرار وانعدام الثقة، فضلا عن أزمات كبرى أخرى على المدى البعيد.
وقالت في بيان عبر "تويتر"، إنها حذرت الحكومة من "الآثار السلبية لسياسة أسعار الفائدة المنخفضة"، مضيفة أن المشكلات الاقتصادية "تلحق الضرر بالشركات والمواطنين على السواء".
“Genel kabul görmüş iktisat bilimi kurallarına hızla dönülmeli”
— TÜSİAD (@TUSIAD) December 18, 2021
TÜSİAD’ın ekonomide yaşanan son gelişmelere ilişkin basın bülteni için:https://t.co/qQOIsR3h8U pic.twitter.com/IJK8OUNys6
ودعت توصياد الحكومة إلى التخلي عن سياستها النقدية القائمة على أسعار الفائدة المنخفضة، والعودة إلى "قواعد علم الاقتصاد"، على حد قولها.
وأثارت تصريحات "توصياد" جدلا حكوميا وشعبيا واسعا، خاصة أنها جاءت بعد دعوة من زعيم حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، كمال كليتشدار أوغلو، للجمعية بتحديد موقفها من التطورات الاقتصادية بالبلاد.
وذكرت هذه التصريحات بدور توصياد بداية من سبعينيات القرن العشرين في الضغط على الحكومات المنتخبة وفرض توجهاتها ورغباتها عليها، سواء بالطلب المباشر أو بتقليب الرأي العام عليها عبر وسائل الإعلام.
لذا لم تمر سوى سويعات قليلة حتى خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطاب شديد اللهجة موجه إلى توصياد قال فيه: "لا تبحثوا عن طرق مختلفة لمهاجمة الحكومة، فأنتم لا تمتلكون القوة لمجابهتنا، أنا أعرفكم جيدا وأعرف أن همكم شيء آخر".
وأضاف في كلمته خلال فعالية بمدينة إسطنبول: "نحن نمضي في طريقنا بحب وطننا وشعبنا، أما أنتم فتركزون كل جهودكم من أجل إسقاط هذه الحكومة، وتصعيد إدارة جديدة أخرى ترغبونها وبمقدرتكم استغلالها".
وخاطب أردوغان توصياد بالقول: "الشعب لن يمنحكم هذه الفرصة".
كما دعا الرئيس التركي، توصياد إلى "تجنب المعارك السياسية والتركيز على الأعمال الاقتصادية"، قائلا: أنتم لديكم وظيفة واحدة، وهي الاستثمار والإنتاج والتوظيف والنمو".
وأضاف: "بالتأكيد ندرك التقلبات في سعر الصرف، وعدم الاستقرار في الأسعار، وما يترتب عن ذلك من غموض يؤثر على حياة الناس اليومية، لكننا سنقاوم كل ذلك تماما كما قاومنا الوصاية والتنظيمات الإرهابية والانقلابيين وأباطرة النفوذ العالمي".
وأردف: "أود أن أؤكد مرة أخرى أنه لا ينبغي إيلاء أي أهمية لأولئك الذين يريدون جر شعبنا إلى التشاؤم، وترهيب الأسواق، من خلال نشر أخبار كاذبة ومضللة".
"تاريخ أسود"
تعرف "توصياد" نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها تأسست في عام 1971، كمنظمة تجارية تطوعية من قبل أبرز رواد الأعمال في تركيا.
وتقول إنها تهدف من خلال أعمالها إلى المساهمة في تشكيل نظام اجتماعي يتبنى مفاهيم اقتصاد السوق التنافسي، والتنمية المستدامة، والديمقراطية التشاركية.
ويقع المقر الرئيس لتوصياد في إسطنبول، ولديها مكتب تمثيلي في العاصمة أنقرة، وممثلون دوليون في واشنطن، وبروكسل، وبرلين، ولندن، وباريس، كما تمتد شبكتها إلى الصين والخليج.
كما أنها عضو في اتحاد قطاع الأعمال الأوروبي (بيزنس يوروب)، وهو منظمة شاملة تعتبر ممثلا للقطاع الخاص الأوروبي، منذ عام 1987.
وينضوي تحت سقف هذه المنظمة الغنية، 318 ألفا و889 جمعية محلية، وفق موقع "أن سون خبر" التركي، نقلا عن أحدث إحصاءات وزارة الداخلية في أكتوبر/تشرين الأول 2021 .
وتحت عنوان "التاريخ الأسود لتوصياد"، قال الموقع التركي في تقرير نشره في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021 إن هذا التكتل "شديد العلمانية" أُسس من قبل 12 رجلا من أغنى الأغنياء في تركيا، عقب أسبوعين فقط من انقلاب 12 مارس/ آذار 1971، على حكومة رئيس الوزراء السابق سليمان دميرال.
ولفت إلى أن توصياد "تواصل منذ نحو نصف قرن مواقفها المعادية ضد الحكومات المنتخبة، وتحاول إزاحة أي إدارة لا تنفذ رغباتها وطلباتها".
واعتبر أن توصياد لعبت دورا بارزا في إزاحة حكومة رئيس الوزراء بولنت أجاويد عام 1979، إذ خصصت مبالغ طائلة لإطلاق حملة إعلانية عدائية في صحف "حريت، ومليت، وترجمان، وغون أيدن"، بعد الحصول على الضوء الأخضر من الجيش.
وكان أجاويد يرفض مطالب توصياد في الحصول على قروض والانصياع إلى صندوق النقد الدولي، وما يروج لها على أنها "قيم النظام الاقتصادي الليبرالي".
كما اتخذت توصياد، وفق الموقع، موقفا مضادا لحكومة حزبي "الرفاه" بزعامة نجم الدين أربكان (الرئيس) و"الطريق القويم" بزعامة تانسو تشيلر (نائب الرئيس)، ودعمت انقلاب 28 فبراير/شباط 1997، ضد هذه الحكومة فيما عرف بـ"انقلاب ما بعد الحداثة".
وعن موقفها الأخير من النموذج الاقتصادي الجديد، أشار الموقع إلى أن توصياد هاجمت الحكومة في تقرير قبل بيانها الأخير، بتعبيرات حادة حول "سيادة القانون، واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات، والديمقراطية والسياسة الخارجية"، وجميعها أمور هي ليست مسؤولة عنها.
موصياد حاضرة
من جانبها، ردت موصياد على موقف توصياد بالتأكيد أنها تؤيد السياسات الاقتصادية للرئيس أردوغان، القائمة على الإنتاج، والاستثمار، والتصدير، والتوظيف، وأسعار الفائدة المنخفضة.
وقالت في بيان عبر تويتر، إنها "رصدت في الآونة الأخيرة مساعي لخلق أجواء مصطنعة من انعدام الثقة لا تستند إلى أسس الاقتصاد الكلي".
وأضافت أنها "تقف ضد كافة أنواع الأجواء الاقتصادية التي لا تقوم على المؤشرات الاقتصادية الحقيقية".
Gündemdeki son ekonomik gelişmelere ilişkin açıklamamız:
— MÜSİAD (@MUSIAD) December 19, 2021
"Türkiye ekonomisi; yalnızca döviz kuruna indirgenerek değerlendirilemez. Son 20 yıldır serbest piyasa koşullarından ödün vermeden yıllık %5,3 büyümeyi başaran ekonomimizin, bu süreci de atlatacağına olan inancımız tamdır" pic.twitter.com/VfEA6w39G6
وفي هذا الصدد، أشارت موصياد إلى نمو الاقتصاد التركي 11.7 بالمئة في أول 9 أشهر من 2021، وتجاوز قيمة الصادرات مستوى 220 مليار دولار، خلال الأشهر الـ12 الأخيرة.
ولفتت إلى أن الاقتصاد التركي في ظل هذه المعطيات "لا يمكن تقييمه فقط بناء على سعر صرف الدولار".
وأكدت أن الاقتصاد التركي الذي نجح في تحقيق معدل نمو سنوي بنحو 5.3 بالمئة خلال السنوات الـ20 الأخيرة، سيتجاوز بلا شك تحديات المرحلة الراهنة أيضا.
وتعرف موصياد نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها جمعية رجال أعمال تأسست في إسطنبول في 9 مايو/ أيار 1990، تراعي القيم الوطنية والعالمية وتحرص على توفير العدالة والمساوة والثقة والسلام.
وتؤكد أنها تعمل بشكل مستقل على المستويين الوطني والدولي، من أجل المساهمة في "التنمية المادية والروحية" لتركيا.
وتتألف موصياد من 11 ألف عضو، و60 ألف شركة توظف ما يقرب من 1.8 مليون موظف، وتمارس نشاطها عبر 88 مكتبا تمثيليا في جميع أنحاء تركيا، إضافة إلى 169 نقطة تواصل وخدمات استشارية في 74 دولة.
وفي كتاب باسم "قصة 25 عاما" نشرته موصياد عن حكاية تشكيلها، أوضحت أن زعيم حركة "الملي غورش" الإسلامية، نجم الدين أربكان، هو الأب الروحي للجمعية وصاحب فكرتها، ودعم تشكيلها لا سيما خلال فترة رئاسته للوزراء بين عامي 1996-1997.
منافسة فكرية
وتعليقا على هذه المواجهة، قال الباحث الاقتصادي في مركز "الشؤون الدبلوماسية والدراسات السياسية" (مقره إسطنبول)، رحمي إنجه قره، إن المنافسة بين توصياد وموصياد تجلت بوضوح عبر أفكارهما ومواقفهما المختلفة إزاء النموذج الاقتصادي الجديد.
وأضاف في حديث لـ"الاستقلال" أنه "بينما جددت موصياد تعاونها مع الحكومة ودعمها للتوجه الجديد، دافعت توصياد عن مزاعمها بأن هذا النهج سيزيد من المخاطر الهيكلية للاقتصاد على المدى الطويل".
وعن سبب هذا الموقف من توصياد، أوضح إنجه قره أن "الرئيس أردوغان وزعيم حزب الحركة القومية، الحليف في تحالف الجمهور الحاكم، دولت باهتشلي، اتفقا في تصريحات منفصلة على إشكالية هذا الموقف".
وأضاف أن وزير الخزانة والمالية، نور الدين نباتي، أيضا استغرب موقف توصياد ودعاها إلى عدم الانجرار خلف تحريض المعارضة.
كما لفت الباحث الاقتصادي التركي إلى أنه فيما كانت تجري المناقشات حول توصياد وموصياد، أعلن الرئيس أردوغان عن أداة مالية جديدة تحفظ أموال المواطنين والشركات من تقلبات سعر صرف الدولار.
وأردف أن هذه الآلية أدت إلى ارتفاع قيمة الليرة التركية، ووضع حد لكافة المشاكل، الأمر الذي أدى إلى ركود المياه في محور مناقشات موصياد وتوصياد حول النموذج الاقتصادي الجديد.
وتضمن الأداة المالية الجديدة لأصحاب الودائع بالليرة التركية عدم الوقوع ضحية للتقلبات في أسعار الصرف، والحصول على الفائدة المعلنة، يضاف إليها الفرق في سعر الدولار بين وقت الإيداع والسحب.
وتوقع وزير الخزانة والمالية، نباتي، خلال مقابلة تلفزيونية في 23 ديسمبر/كانون الأول 2021، أن النتائج الإيجابية للنموذج الاقتصادي التركي ستظهر قبل صيف عام 2022.
وفي 24ديسمبر/كانون الأول 2021 بنهاية تعاملات الأسبوع الذي أعلنت فيه هذه الأداة، سجلت العملة التركية 10.9 ليرات مقابل 18.4 ليرة للدولار، أي بنسبة صعود بلغت نحو 70 بالمئة في أقل من خمسة أيام فقط.
وفي نفس اليوم، أكد أردوغان خلال لقاء تلفزيوني أن "الودائع بالليرة التركية تزداد، والأداة الجديدة طورت لحفظ الاستقرار المالي"، وأرجع تحسن الوضع سريعا إلى "متانة البنية التحتية للاقتصاد والقدرة الإنتاجية الكبيرة".
من جانبه، قال أستاذ الاقتصاد في جامعة أرجيس التركية، محمد إقبال، إن "تصريحات توصياد وموصياد حول علاقتهما بالحكومة ليست مفاجئة للوهلة الأولى".
وأضاف لـ"الاستقلال" أنه "كنتيجة للديناميكيات الاقتصادية الأساسية لدى توصياد وموصياد، حافظت الأولى على مسافتها بعيدا عن سياسات الحكومة، فيما أكدت الثانية تعاونها بعيد المدى مع أنقرة".
وختم إقبال حديثه بالتأكيد على أن "في مثل هذه الجمعيات والمؤسسات لا تدوم المواقف الحادة وتحل مكانها المرونة، لكن تبقى أجواء الاستقرار هي أولوية وهدف أي كيان اقتصادي".