"عقل دولة السيسي".. مشروع تجسس فرنسي تكلف المليارات لمراقبة المصريين

إسماعيل يوسف | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في 31 يوليو/ تموز 2019 تحدث رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي عن مشروع غامض أسماه "عقل الدولة"، قال إنه يتكلف 25 مليار جنيه (نحو 1.6 مليار دولار).

وفي 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، تفقد السيسي ما سمي بـ"مقر مركز قيادة الدولة الإستراتيجي" بالعاصمة الإدارية الجديدة، الذي يمتد على مساحة 22 ألف فدان ويضم 13 منطقة مختلفة، بينها "مركز بيانات إستراتيجي".

صحف النظام وصفت هذا المركز حينئذ بأنه "منظومة سيرفرات (خوادم) ضخمة" يمثل قاعدة شاملة للبيانات، يمكن من خلالها "تحليل أحوال المصريين واتخاذ قرارات تخصهم".

وبسبب تكرار السيسي هجومه على ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 وهو يتحدث عن "عقل الدولة"، تساءل نشطاء عن الهدف الحقيقي من المشروع، وهل له أهداف أمنية تتعلق بمنع ثورة شعبية جديدة على غرار يناير؟.

وفي إطار حلقات تسريباته عن مصر التي تسببت في انتقادات كبيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سلط موقع "ديسكلوز" الاستقصائي في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 الضوء على مشروع "عقل الدولة" الذي أعلنه السيسي.

وفي تحقيق بعنوان "مراقبة صنعت في فرنسا"، كشف الموقع تفاصيل خطيرة عن مشروع "عقل الدولة" الغامض الذي يراقب ويقمع به السيسي المصريين.

تواطؤ فرنسي

وأكدت وثائق فرنسية استند إليها التحقيق أن مشروعا عملاقا معقدا لمراقبة المصريين تنفذه أربعة أجهزة أمنية مصرية هي، المخابرات الحربية، والعامة، والأمن الوطني، والرقابة الإدارية.

وفي إطار المشروع باعت ثلاث شركات أسلحة وتكنولوجيا فرنسية، خوادم ونظم مراقبة جماعية لهذه الأجهزة، لتتجسس على المصريين وتسجل هواتفهم وتراقب تحركاتهم وأماكنهم وتحلل كل البيانات المتعلقة بهم.

ولفتت إلى أن توقيت تسليم الشركات الفرنسية خوادم ونظم مراقبة للأجهزة الأمنية المصرية بالتزامن مع إعلان السيسي مشروع "عقل الدولة"، يؤكد وجود علاقة مهمة بين الأمرين.

وأظهرت الوثائق الفرنسية تحرك كل جهاز من الأربعة بطريقة مختلفة وشراءه أجهزة منفصلة، وللمفارقة اتضح تجسسها هي نفسها على بعضها البعض بجانب تجسسها جميعا على المصريين.

الشركة الفرنسية الأولى "نيكسا تكنولوجي" وردت لمصر نظام "سيريبرو" لمراقبة شبكات الإنترنت، ما سهل الاعتقالات والاختفاء القسري.

وقد اعترفت شركة "نيكسا" أن طلب توريد هذه المعدات للمراقبة الإلكترونية ورد إليها من الإمارات التي دفعت الثمن، بحسب ردها على "ديسكلوز".

وسبق هذا تأكيد مجلة "تيليراما" الفرنسية في 5 يوليو/ تموز 2017، أن الإمارات أهدت السيسي نظام المراقبة الإلكترونية واسعة النطاق "سيريبرو" تطوره شركة فرنسية تدعى "آميسيس"، تكلفته 10 ملايين يورو.

وكشفت الصحيفة وكذا "الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان"، أن هذا النظام "يوفر مراقبة حية للمستهدفين عبر أجهزتهم الإلكترونية ويتعقب مكالماتهم والبريد اﻹلكتروني وغرف المحادثات ومواقع التواصل الاجتماعي".

وأدان القضاء الفرنسي شركة "نيكسا تكنولوجي" لبيعها معدات مراقبة للنظام المصري تمكنه من تعقب معارضين، و"التواطؤ في أعمال تعذيب واختفاء قسري"، بحسب صحيفة "لوموند" في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.

ووجه قضاة التحقيق في فرنسا اتهامات إلى 4 مسؤولين في شركتي "نيكسا تكنولوجي" البائعة و"أميسيس" المطورة في قضايا بيع أجهزة إلكترونية للنظامين المصري والليبي، استخدمت للتجسس على شخصيات معارضة تعرضت للاعتقال والتعذيب.

وصدر قرار الاتهام بعد دعوى قدمتها عدة منظمات حقوقية ضد المسؤولين الأربعة في يونيو/ حزيران 2021، واتهامهم بتصدير هذه المعدات لمصر وللانقلابي خليفة حفتر في ليبيا، عبر الإمارات.

من جانبها، أكدت صحيفة "لوماتان" في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 أن التحقيق القضائي أيد تقرير مجلة "تيليراما" الذي كشف عن بيع فرنسا نظام تنصت للسيسي.

وأضافت أن بيع فرنسا أجهزة المراقبة للسيسي في مارس/ آذار 2014 تم بدعوى "مكافحة جماعة الإخوان المسلمين" في مصر، وساهم في موجة القمع ضد معارضي السيسي.

وقد وردت شركة ثانية تدعى "إركوم-سنيريس" لمصر نظاما آخر يحمل اسم "كورتكس فورتكس"، يستخدم في تتبع أرقام الهاتف المحمول والتنصت على الاتصالات.

الجيش يتجسس

أما الشركة الثالثة فهي "داسو سيستمس" العسكرية الفرنسية، وهي الأخطر على الإطلاق؛ لأنها سلمت وزارة الدفاع المصرية (المخابرات الحربية) محرك بحث شديد التطور يسمى "إكسليد" يشبه غوغل.

وهذا المحرك يبحث في حياة المصريين الشخصية وسجلاتهم التي بناها ضباط المخابرات الحربية منذ 2014، ويحلل ويربط البيانات المختلفة بالهوية أو جوازات السفر أو أنشطتهم الإلكترونية واتصالاتهم.

وأظهرت التسريبات أن موظفي هذه الشركة الفرنسية سافروا إلى القاهرة خمس مرات بين أكتوبر/ تشرين الأول 2015 ونهاية عام 2016 للإشراف على تركيب محرك البحث، كما تم تدريب ضباط المخابرات الحربية المصرية عليه، في باريس.

وسبق أن كشفت مجلة "تيليراما" أن عقد منظومة المراقبة الجديدة أبرم بواسطة المخابرات الحربية المصرية وتم توصيل النظام لها عبر شركة إماراتية هي "أنظمة الشرق اﻷوسط" بدبي.

ونقلت "تيليراما"، عن مصدر لم تذكر اسمه، أن مراكز البيانات لنظام التجسس الجديد فعلت أواخر 2017، بشكل يسهل من عمليات تحليل وأرشفة البيانات.

و"لضمان قيام هذا النظام بعمله على أكمل وجه، لم تبخل ديكتاتورية السيسي في المعدات"، كما يؤكد موقع "ديسكلوز" في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.

"وفرت مصر مراكز بيانات جديدة تماما، وأحدث جيل من أجهزة كمبيوتر "ديل"، وخوادم ضخمة من شركة "دي دي إن" الأميركية، وكان هناك بديل آخر لهذا النظام في الإسكندرية"، كما يؤكد الموقع.

ربما يفسر هذا ما قاله السيسي عن وجود "مكان آخر بديل" يقوم بدور "عقل الدولة"، في حالة حدوث أي طارئ"، أي مراكز تبادلية في القاهرة والإسكندرية لـ"عقل الدولة" لتمكين النظام من السيطرة ومنع أي ثورات مقبلة.

وكشف تحقيق "مراقبة صنعت في فرنسا" أن "الجيش المصري وضع أيضا مكونات إلكترونية مثبتة على الكابلات البحرية التي تربط الدولة بشبكة الإنترنت، وذلك لمراقبة أفضل لها".

وأن مركز قيادة هذه المراقبة هو "جهاز الأمن القومي المستقبلي"، ويقع في القاهرة، في قاعدة ألماظة العسكرية، على بعد 10 كيلومترات من القصر الرئاسي، ويمكنه مراقبة شبكة الكمبيوتر دون تعطيلها.

ويشرح خبير الأمن السيبراني المصري "رامي رؤوف" طريقة عمل منظومة المراقبة عبر خريطة على حسابه بفيسبوك، تبين العلاقات بين قطاع الأمن بمصر (باللون البني) وشركات مراقبة تقنية محلية (باللون البرتقالي)، وشركات دولية (باللون الأزرق).

ويشير لقيامه مع باحثين آخرين برصد ذلك بالاعتماد على شهود عيان من داخل شركات مختلفة، وخوادم مسربة للمراسلات، ومستندات المشتريات والحوالات البنكية، ومخازن بيانات ومستودعات معلوماتية تتبع الشركات. 

وأن ما كان يتردد عن أدوار لفرنسا والإمارات في مد نظام السيسي بهذه الأجهزة بات حقيقة الآن بعدما كشفته الوثائق الفرنسية التي نشرها موقع "ديسكلوز".

تفاصيل "عقل الدولة"

في حديثه عن مشروع "عقل جمع بيانات الدولة"، قال السيسي إنه منظومة ضخمة من الخوادم على عمق 14 مترا تحت الأرض في أحد الأماكن (لم يسمها)، لكن الوثائق الفرنسية كشفت أنه في مطار ألماظة.

ونقلت عنه الصحف المصرية أن عقل الدولة تم البدء بتنفيذه عام 2016، أي بالتزامن مع توريد الشركات الفرنسية معدات الخوادم ومحرك البحث والمراقبة.

وقال السيسي إن "عقل الدولة يخضع لتأمين مشدد في منطقة ما، كما يوجد عقل آخر تبادلي بنفس القدرات في مكان آخر بعيدا عنه" وهو ما كشفت الوثائق الفرنسية أنه بالإسكندرية دون تحديد مكانه بدقة.

وخلال تفقده "مركز قيادة الدولة الإستراتيجي" في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 الذي يكمل مشروع "عقل الدولة"، تحدث عما سمي بـ"مركز تنسيق أعمال دفاع الدولة"، الذي يبدو أنه مركز حماية مقر السيسي بالعاصمة الإدارية.

وقالت صحف حكومية في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 إن مركز قيادة الدولة الذي يستفيد من "عقل الدولة" تؤمنه وحدتان من الحرس الجمهوري ووسائل تأمين أخرى.

مراقبة المصريين

وفسر نشطاء هدف هذا العقل الإلكتروني السري تحت الأرض بأنه لتحليل تحركات المصريين ورصد غضبهم والتجسس عليهم على غرار فكرة الفيلم الأميركي "Eagle Eye عين النسر".

وتقوم فكرة الفيلم (إنتاج 2008) على تصور وجود عقل إلكتروني ومنظومة مراقبة عملاقة تسمى "عين النسر" ترصد وتصور وتسجل تحركات واتصالات ورسائل الأميركيين، لكن يخرج هذا المركز عن سيطرة الدولة ويخطط لتدمير البلاد. 

من جانبه، اعتبر رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات بصحيفة الأهرام، جمال غيطاس، عبر حسابه على فيسبوك أن الهاجس الأمني والرقابي كان حاضرا وبشدة خلال تبني مشروع عقل الدولة ربما بدرجة تفوق قدره الطبيعي المعقول".

توابع الفضيحة

وعقب كشف هذه التعاقدات رفعت وزارة الدفاع الفرنسية في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 دعوى قضائية ضد موقع "ديسكلوز".

واتهم المتحدث باسم الوزارة الموقع بـ "انتهاك سرية الدفاع الوطني"، و"كشف وثائق فرنسية بها معلومات استخباراتية عن فرنسا ومصر".

بسبب ذلك، إضافة لفضح التآمر الفرنسي مع مصر لقتل مدنيين أبرياء من المهاجرين غير النظاميين في الصحراء الغربية في تحقيق "العملية سيرلي"، حجبت مصر موقع "ديسكلوز" وأصبح الدخول عليه محظورا.

ويتوقع أن تؤثر الفضيحة على مستقبل الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يستعد لسباق رئاسيات 2022، بعدما اتهمه مسربو الوثاق بالتفريط في مبادئ الجمهورية الفرنسية والمشاركة في جرائم الديكتاتور السيسي.

ففي الحلقة الرابعة ضمن "أوراق مصرية" التي نشرها موقع "ديسكلوز" في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 تحدث المصدر الذي سرب المعلومات للموقع مؤكدا أنه "لم يعد الصمت خيارا" بعد الفضيحة التي تسبب فيها ماكرون عبر دعمه السيسي في قتله مدنيين أبرياء.

وقال: "من يصدق أن نظام السيسي الاستبدادي الحالي يعمل على استقرار المنطقة؟ من يصدق أن مقاتلاتنا من طراز رافال وفرقاطاتنا تشارك في الحرب ضد الإرهاب؟ يجب أن يكون للفرنسيين أو لممثليهم رأي فيما يجري".

واعتبر هذا "يسيء إلى مبادئ الجمهورية الفرنسية ويدعم منطق القتل والشر الذي ندعي محاربته، لذا لا يمكننا أن نصمت".

ورغم عدم تأثير الفضيحة على مصر، بسبب سياسات القمع والتعتيم، واقتصار ردود الفعل على فرنسا، فقد كشفت الوثائق المسربة أسرارا خفية، مثل مسؤولية أجهزة أمنية عن تسريب تسجيلات لمسؤولين في إطار الصراع بينها.

ويقول الباحث في مجال الأمن السيبراني رامي رؤوف في تعليقه على الوثائق عبر فيسبوك: إن ما تم كشفه يؤكد الشكوك والتسريبات التي كانت تتردد (مثل تسريبات عباس كامل والسيسي وغيرها).

فتجسس الأجهزة على بعضها يحل لغز ما كان يجري تسريبه من مراسلات رسمية وميزانيات وفواتير وحوالات بنكية وضحايا وعقود، بحسب "رؤوف".