ضغوطات النزوح.. لماذا يضطر الآلاف في مدينة غزة للبقاء في منازلهم تحت القصف؟

خالد كريزم | منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

رغم القصف الجوي "الجنوني" وبدء الاجتياح البري الإسرائيلي، تضطر عائلة المواطن الفلسطيني رائد فارس (38 عاما) للبقاء في مدينة غزة كغيرهم من مئات الآلاف من الأشخاص.

ويتحدث فارس لـ"الاستقلال" عما وصفها بـ"أسوأ مراحل العدوان الإسرائيلي منذ عامين" بفعل تصاعد القصف على منازل السكان وخيام النازحين لدفعهم نحو مغادرة المدينة.

وأعلن الجيش الإسرائيلي منتصف سبتمبر/أيلول 2025، بدء "عملية برية" واسعة لاحتلال مدينة غزة ضمن ما تسمى عملية "عربات جدعون 2"، وتزامنا مع ذلك بدأت الآليات العسكرية بالتقدم نحو وسط المدينة.

وبدأ الجيش في 11 أغسطس/آب 2025، الهجوم على المدينة انطلاقا من حي الزيتون (جنوب شرق)، وتخلل الهجوم نسف منازل باستخدام روبوتات مفخخة، وقصف مدفعي، وإطلاق نار عشوائي، واستهداف متصاعد بالطيران المسير.

وتهدف إسرائيل من خلال هذه العملية إلى احتلال المدينة بعد دفع الناس للنزوح نحو جنوب قطاع غزة وحصرهم في مساحة ضيقة تمهيدا لتهجيرهم.

غياب الخيارات

ويقول فارس: إن "القصف الجنوني والمباشر بكل أنواع الأسلحة على منازل وخيام المدنيين النازحين أدخلهم في حالة رعب ودفعهم للنزوح بشكل فاق أي عمليات نزوح سابقة".

ويستدرك: "أنا مضطر مع عائلتي المكونة من 5 أفراد للبقاء في المدينة ليس من باب الصمود أمام أعتى مجرمي الحرب في التاريخ الحديث ولكن بسبب غياب الخيارات الأخرى".

وشرح هذا المواطن أن النزوح اليوم يتطلب عدة أمور أهمها توفر مكان للانتقال إليه وخيمة ليؤوي عائلته فيها وأيضا وسيلة نقل للأشخاص وحاجياتهم.

وأكد أن جميع هذه الأمور غير متوفرة، "فلم أجد شقة سكنية في الجنوب، وفي حال سأبقى بالشارع فليس لدي خيمة، وأيضا يصعب علي توفير وسيلة نقل".

وأردف أن عملية النزوح تكلف اليوم من 3 إلى 5 آلاف دولار بسبب الحاجة لشراء خيمة ودفع ثمن إيجار للمكان الذي سيجرى نصبها فيها وكذلك أجرة النقل المرتفعة، مبينا أن المبلغ سيزداد حال كان التوجه نحو استئجار شقة.

وتابع: "لم أتمكن من توفير كل هذا ففضلت البقاء في مدينة غزة حتى الآن رغم تصاعد الخطر، لكن لا أعلم إذا كنت سأضطر لمغادرتها لاحقا، حال تصاعد القصف أكثر وعزلت المدينة".

وتسببت الهجمات الإسرائيلية المتواصلة على غزة في نزوح قسري لأكثر من 40 ألف شخص خلال اليومين الماضيين، بحسب ما أعلنت الأمم المتحدة في 18 سبتمبر.

وقال ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، في مؤتمره الصحفي اليومي: إن الوضع في غزة يزداد سوءاً كل ساعة، مشيراً إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي أصدر أوامر جديدة بإجلاء قسري للسكان خلال الساعات الـ48 المقبلة.

وأضاف: "آلاف الأشخاص يحاولون الفرار وسط استمرار القتال. وكما يمكنكم أن تتخيلوا وتروا، الطرق مزدحمة، والناس جياع، والأطفال يعانون من صدمات نفسية".

وأكد أن الشركاء الميدانيين للأمم المتحدة الذين يراقبون حركة السكان رصدوا نزوح نحو 40 ألف شخص جنوباً خلال آخر يومين.

ولفت إلى إلى أنه منذ منتصف أغسطس/آب اضطر نحو 200 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، إلى السير لساعات طويلة للفرار من مناطقهم.

وكانت التقديرات تشير إلى وجود مليون شخص في مدينة غزة، لكن العدد المتبقي اليوم يصل إلى 800 ألف أو أقل. 

النزوح المستحيل

بدوره، يتفق سامح الشيخ خليل مع سابقه بصعوبة النزوح مرة أخرى “بعد أن ذقنا مرارته في السابق عندما نزحنا من شمال القطاع إلى جنوبه وبقينا هناك شهورا طويلة قبل أن نتمكن من العودة”.

وقال خليل (32 عاما) لـ"الاستقلال": “إذا نزحت اليوم فسأنام أنا وزوجتي وطفلاي في الشارع ودون أي فراش لأنه لا يمكنني تحمل تكلفة النقل واستئجار مكان إن توفر”.

وأردف: “اليوم تبلغ تكلفة الخيمة 1500 دولار، يضاف عليها أجرة سيارة النقل للنزوح والتي ستضطر للحجز والانتظار من أسبوع إلى أسبوعين حتى تتمكن من الحصول على واحدة”.

وروى مشكلة أخرى تتمثل بتحمل معاناة الازدحام خلال النزوح عبر شارع الرشيد (البحر)؛ حيث تستغرق العملية من 7 إلى 10 ساعات في مسافة لا تزيد عن 20 كيلو مترا.

وأوضح أنه عملية النزوح تساوت مع البقاء، حيث يستهدف الاحتلال الفلسطينيين أثناء عملية نزوحهم ويقتلهم في الشوارع التي خصصها لهذه العملية ويدعي أنها آمنة، كما يتواصل قصف المنازل والخيام في جنوب القطاع.

وعن تكلفة النزوح، تساءل الناشط نزار الصيرفي في منشور على فيسبوك: “كيف نقنع العالم أن نزوح سكان شمال قطاع غزة إلى الجنوب مستحيل؟"

وأكد أنه: “لا توجد خيام، وإذا أردت شراء خيمة فقيمتها 1000 دولار، وإذا توفرت فلا يوجد أماكن فارغة لإقامتها".

وأضاف: "وإذا أردت استئجار أرض فارغة فأنت بحاجة إلى 500 دولار شهرياً، هذا غير أجرة النقل التي تقدر بأكثر من 700 دولار، ولابد من عمل حمام بقيمة أيضاً 700 دولار تقريباً”.

وواصل القول: “كل هذه المبالغ لكي تستطيع الحصول عليها ستدفع قيمتها مضاعفة لأنه لا يوجد بنوك أصلاً”. وتابع: “جميع المناطق غير آمنة جيش الاحتلال لطالما قصف المناطق التي يعلن عنها بأنها إنسانية وآمنة”.

وتساءل: “كيف يُطلب من أكثر من مليوني إنسان أن يعيشوا على شريط ساحلي ضيق بلا مأوى ولا ماء ولا أي مقومات للحياة؟ والعالم كله يقف ساكناً متفرجاً !!! هذا ليس طلب إخلاء، هذا طلب عذاب وتشريد وموت بطيء”.

وأظهرت تقارير المنظمات الدولية والأممية أخيرا أن ما يدعي الاحتلال أنها “منطقة إنسانية” ويطالب المواطنين بالنزوح فيها لا تتجاوز مساحتها 12 بالمئة من إجمالي مساحة قطاع غزة.

وبالتالي فإن الاحتلال يخطط للزج بأكثر من مليوني فلسطيني في سجن مطبق، يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الآدمية. 

وبحسب الدفاع المدني في غزة، أجبر معظم سكان القطاع على النزوح من 9 إلى 12 مرة، بفعل عمليات الإبادة الجماعية، منهم 75 بالمئة لا يمتلكون حالياً خيمة أو ثمنها أو حتى أماكن تؤوي أسرهم في ظل الاكتظاظ السكاني الهائل في منطقة جغرافية محدودة.

طرق الإجبار

ورغم بقائهما حتى الآن، يؤكد فارس وخليل في حديثهما لـ"الاستقلال" على أن النزوح قد يكون خيارهما الوحيد إذا ما استحالت الحياة في مدينة غزة.

وأكد فارس أن ذلك بدأ بالفعل، “فقد غادر موفري خدمة الإنترنت وأصحاب مولدات الكهرباء وموزعي المياه والتجار إلى الجنوب، وبدأت أصناف الأكل بالتقلص”.

وبدأت إسرائيل بالفعل في عزل نحو 800 ألف فلسطيني في مدينة غزة عن العالم الخارجي بعد قطعها خدمة الاتصالات والإنترنت، وذلك بالتزامن مع تقدم آليات الجيش في الأحياء الشمالية الغربية.

وأدى القصف الإسرائيلي المتواصل، وتدمير الأبراج السكنية والبنية التحتية للاتصالات إلى تعتيم كامل على مدينة غزة بعد أن قطعت إسرائيل الإنترنت بالكامل.

وأوضح خليل بالقول: “نعيش منذ نحو ثلاثة أيام في عزلة تامة خلال الليل ولا نعرف ما يجري حولنا سوى أننا نسمع أصوات القصف، وتكون لنا فرصة نادرة بالخروج خلال النهار والبحث عن شبكة اتصال وإنترنت، وهي لا تتوفر في كل مكان بالمدينة”.

وأعلنت شركة الاتصالات الفلسطينية في 17 سبتمبر، عن انقطاع خدمات الإنترنت الثابت والاتصالات الأرضية في مدينة غزة وشمال القطاع نتيجة العدوان الإسرائيلي المستمر. 

ويقول خليل: “يمكن اليوم الحصول على إرسال للاتصال فقط بدون الإنترنت ولكن بصعوبة شديدة وأماكن معينة وفي الغالب يجب أن تكون مرتفعة قليلا، وهذا يزيد خطر الاستهداف”.

وإلى جانب قطع الاتصالات، تجعل إسرائيل البقاء في مدينة غزة مستحيلا بإجبار الفلسطينيين على الرحيل عبر عدة طرق أبرزها قصف خزانات المياه واستهداف ألواح الطاقة الشمسية.

وأصبحت ألواح الطاقة شريان حياة لتشغيل مضخات المياه وشحن الأجهزة بعد انقطاع الكهرباء عن كامل القطاع منذ بدء العدوان.

ولتسريع عمليات النزوح، قصفت قوات الاحتلال أخيرا عددا من الأبراج السكنية التي كانت تؤوي مئات الفلسطينيين في مدينة غزة.

وأكد الشابان اللذان تحدثت “الاستقلال” لهما أن بقاءهما الآن مثل مئات الآلاف الآخرين ليس نهائيا وخاصة إذا ازدادت موجات النزوح وانقطع الغذاء والماء وباقي سبل الحياة.

وقال خليل: “الموت مع الجماعة رحمة، وقد أفضل لاحقا النزوح مشيا على الأقدام والبقاء في الشارع إذا شعرت أن غزة تحولت إلى مدينة أشباح، نحن في حيرة شديدة وما زلنا نقيم حركة الناس وحجم النزوح”.

وختم بالقول: “قد نصل إلى مرحلة، تصمد فيها أعداد قليلة فقط من السكان، وهؤلاء سيتعرضون إما للاعتقال أو الإعدام ميدانيا، ولذلك قد نضطر قريبا مكرهين للسير جنوبا نحو المجهول”.