حليف وربيب.. لماذا تسعى روسيا لإنهاء الخلافات بين الجزائر ومالي؟

موسكو - الاستقلال | منذ ١٥ يومًا

12

طباعة

مشاركة

تحرص روسيا التي تناطح الغرب في أكثر ملف خارجي، على إبقاء العلاقات متينة بين الجزائر وجارتها الجنوبية مالي، ولهذا تجتهد في لعب دور الوساطة لحل الخلاف الحاصل بين هذين البلدين.

وقد شكل إنهاء المجلس العسكري الحاكم في مالي اتفاق الجزائر المبرم عام 2015 مع الجماعات الانفصالية في شمال البلاد والذي عد لفترة طويلة ضروريا لتحقيق الاستقرار انتكاسة جديدة هناك في العلاقة بين بامكو والجزائر.

الجزائر ومالي

وأعربت الجزائر في بيان لها في 26 يناير/كانون الثاني 2024 عن "قلقها العميق وبالغ أسفها" لقرار المجلس العسكري الحاكم المذكور في مالي. 

وقال البيان ذاته: "إن الجزائر تحيط علما بهذا القرار، الذي تود الإشارة إلى خطورته الخاصة بالنسبة لمالي نفسها، وللمنطقة برمتها التي تتطلع إلى السلام والأمن، وللمجتمع الدولي برمته الذي وضع كل ثقله ووسائله المتعددة لمساعدة مالي على العودة إلى الاستقرار من خلال المصالحة الوطنية".

وبعد أشهر من الأعمال العدائية بين المتمردين والجيش المالي، قال المتحدث باسم الحكومة المالية الكولونيل عبد الله مايغا في بيان على التلفزيون، إن المجلس العسكري يعزو مسؤولية إنهاء الاتفاق الذي يعد ضروريا لحفظ استقرار البلاد إلى "التغير في مواقف بعض الجماعات الموقعة" وكذلك "الأعمال العدائية" من جانب الوسيط الرئيس الجزائر.

والجزائر كانت الوسيط الرئيس في جهود إعادة السلام إلى شمال مالي بعد الاتفاق الموقع في عاصمتها عام 2015 بين الحكومة المالية والجماعات المسلحة التي تهيمن عليها قبائل الطوارق.

وكان اتفاق الجزائر قد دعا إلى انخراط المتمردين السابقين في الجيش المالي، فضلا عن توفير قدر أكبر من الحكم الذاتي لمناطق البلاد.

واندلع الخلاف بين بامكو والجزائر بداية 2024 بعد احتجاج المجلس العسكري للجارة الشمالية على عقد "اجتماعات متكررة على أعلى المستويات دون أدنى علم أو تدخل من السلطات المالية مع أشخاص معروفين بعدائهم للحكومة، ومع بعض الحركات الموقعة" على اتفاق 2015.

وازداد غضب القادة العسكريين الذين استولوا على السلطة في انقلاب عام 2020، بعد استقبال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في الجزائر العاصمة الإمام محمود ديكو وهو شخصية دينية وسياسية مالية بارزة ومن القلائل الذين تجرأوا على التعبير علنا عن خلافه مع المجلس العسكري الحاكم.

لكن الاتفاق بدأ فعليا في الانهيار عام 2023، عندما اندلع القتال بين الانفصاليين والقوات الحكومية المالية في أغسطس/آب من العام ذاته، بعد ثماني سنوات من الهدوء، حيث سارع الجانبان إلى سد الفراغ الذي خلفه انسحاب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

وكان المتمردون الانفصاليون، المتكتلون تحت مظلة جبهة تنسيق حركات أزواد، قد اتهموا المجلس العسكري في يوليو/تموز 2022 بـ "التخلي" عن الاتفاق.

وكان القادة العسكريون في مالي أمروا بمغادرة بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) في يونيو 2023، واتهموا قواتها بـ "تأجيج التوترات المجتمعية".

وقبلها قطع القادة العسكريون في مالي العلاقات مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة التي كانت تساعد في قتال المتمردين في الشمال، ومنذ ذلك الحين، لجأوا إلى روسيا للحصول على مساعدة سياسية وعسكرية.

وسيط روسي

ومن هنا وجدت موسكو نفسها مضطرة للتدخل منذ أسابيع كوسيط بين حليفتها الجزائر وربيبتها مالي، بعدما شهد العلاقات بين الأخيرتين فتورا ملحوظا.

وتشترك الجزائر مع مالي في شريط حدودي يقدر بنحو 1400 كيلو متر، مما يعكس حجم التحدي الأمني والإستراتيجي الذي تواجهه بتطورات الوضع الأمني في البلد الجار، حيث يستدعي تأمين الحدود الإقليمية حشدا عسكريا ولوجيستيا كبيرا.

ولهذا رعت الجزائر ثلاث اتفاقيات للسلام أعوام 1992 و2006 وأخيرا 2015 بين الحكومة المالية والجماعات المسلحة من الطوارق شمالي البلاد.

إذ تشكل الحدود الجنوبية خاصرة رخوة في الأمن الإقليمي الجزائري، ولذلك توليها القيادة السياسية اهتماما بالغا، خاصة مع تداخل الجوانب المؤثرة، على غرار الهجرة السرية والتهريب والجريمة العابرة للحدود والتنظيمات المتطرفة.

كما يتنافس المتقاتلون من أجل السيطرة على الأراضي والمعسكرات التي أخلتها قوات حفظ السلام التابعة لبعثة الأمم المتحدة المنتشرة منذ 2013 في مالي، والتي طردها الجيش منذ استولى على السلطة في انقلاب عام 2020.

لكن بعد استدعاء كل من الجزائر ومالي سفيريهما في يناير 2024، ظلت العلاقات بين الجانبين فاترة بعد قرار باماكو دفن اتفاق الجزائر للسلام لعام 2015. 

في المقابل تحاول موسكو التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع البلدين التقريب بينهما.

في هذا الإطار ينسق السفير الروسي في باماكو إيغور غروميكو وزميله في الجزائر فاليريان شوفاييف جهودهما بشكل سري منذ عدة أسابيع، على ما كشف موقع مجلة "إنتلجينس أون لاين" الفرنسية الاستخباراتية.

وتأتي هذه الخطوة الروسية إثر شكوك موسكو المتزايدة حول قدرة بامكو على استعادة السيطرة على شمال البلاد، رغم الدعم العسكري الذي تقدمه لها القوات شبه العسكرية التابعة للفيلق الإفريقي (فاغنر سابقا). 

ومن جهتها، تنظر الجزائر إلى الوجود الروسي في مالي نظرة استياء وريبة.

إذ تسير روسيا بين الجزائر ومالي على سطح رقيق من الجليد، وهي حريصة على عدم إثارة غضب أي من الجانبين، كما تدرك غياب الرغبة الواضحة لديهما في المصالحة حتى الآن.

بدوره يتولى ميخائيل بوغدانوف، الممثل الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الشرق الأوسط وإفريقيا، معالجة هذه القضية.

وكانت مسألة علاقات حسن الجوار محورية بالنسبة للأمين العام لوزارة الخارجية الجزائرية لوناس مقرمان، الذي زار موسكو في 9 فبراير/شباط 2024 والتقى هناك مع بوغدانوف.

وخلال اللقاء، ناقش الجانبان استئناف الاستثمارات الجزائرية في مالي، وأعرب مقرمان عن قلق الجزائر إزاء التقارب بين الرباط وبامكو، على خلفية التعاون التجاري مع "المبادرة الأطلسية" لدول الساحل التي أطلقها العاهل المغربي الملك محمد السادس.

من جهتها طلبت موسكو من باماكو التخفيف من حدة أي علامات على التقارب مع الرباط في الوقت الحالي.

وأعقب اللقاء تجديد الاتصال الهاتفي بين سفير الجزائر بمالي الحواس رياش ووزير الخارجية المالي عبد الله ديوب، وكذلك الأمر بين سفير مالي بالجزائر ماهامان أمادو مايغا ووزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف.

وأمام ذلك، عملت موسكو على عقد اجتماع على المستوى الوزاري بين الجانبين، وفي 20 مارس/آذار 2024 استقبل بوغدانوف السفير الجزائري في موسكو بومدين قناد.

وحذرت الخارجية الجزائرية من إعلان المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في باماكو الإنهاء الفوري للعمل بمقتضى اتفاق السلم والمصالحة الموقع منذ عام 2015 بين الحكومة والحركات الأزوادية بإشراف من الجزائر.

وعلى الرغم من عزلة روسيا، بعد حربها المستمرة في أوكرانيا منذ عام 2022، تعمل الجزائر وموسكو على تعزيز العلاقات وتنويعها. وتتصور الشراكة الإستراتيجية المعززة لعام 2023 التعاون في مجالات جديدة مثل الزراعة والتجارة.

وفي يونيو/حزيران 2023، أجرى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون زيارة رفيعة المستوى إلى روسيا، حيث لقي ترحيبا حارا من نظيره فلاديمير بوتين. 

وجاءت زيارة تبون حينها على الرغم من الانتقادات الشديدة من أوروبا وواشنطن، حيث حث وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكين الجزائر على الحد من علاقاتها مع روسيا بعد الحرب في أوكرانيا.  

لكن زيارة تبون أبرزت أهمية العلاقات الجزائرية الروسية وإصرار الجزائر منذ فترة طويلة على اتباع سياسة خارجية مستقلة.

ومن هنا تدرك موسكو أهمية بقاء التعاون العسكري مع الجزائر الممتد إلى عقود خلت؛ والذي يخدم المصالح الوطنية للجزائر لا سيما أمنها القومي، وهو ما يفسر زيادة مشترياتها من الأسلحة الروسية المتقدمة والتدريبات العسكرية المشتركة بين البلدين.

وبما أنه يجب على الجزائر الدفاع عن سبعة حدود، تتقاسم معظمها مع دول غير مستقرة مثل ليبيا ومالي، ترى روسيا أن مصالحها الحالية تدعوها لتخفيف حدة التوتر بين الأولى وبين مالي.

حماية المصالح

إذ لعب الدعم الروسي لمالي بمجال الأمن الدور الأكبر في سيطرة الجيش المالي على مدينة كيدال، المعقل الذي يطالب به الانفصاليون الأزواد.

ففي نهاية عام 2023 اضطرت جماعات الطوارق المتمردة للانسحاب والتخلي عن عدة مناطق في شمال مالي، بعد هجوم شنه الجيش المالي وبلغ ذروته بالاستيلاء على كيدال.  

في يوليو 2023، خلال القمة الروسية الإفريقية التي عقدت في سانت بطرسبورغ، أعلن بوتين أن روسيا ستقدم عشرات آلاف الأطنان من الحبوب مجانا إلى ست دول إفريقية من بينها مالي.

كما أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال لقائه في موسكو بنظيره المالي عبد الله ديوب، نهاية فبراير 2024 أن "القدرات الدفاعية لمالي تتعزز بفضل عمل مدربينا وتدريب الجنود الماليين في روسيا وبفضل توريد المعدات (العسكرية) الروسية". 

فموسكو تبحث عن سبل لتحقيق التوازن بين الجارتين، كونها تدرك أن أي تصعيد قد يزيد من التوترات في المنطقة، لا سيما أن المصالح الروسية في منطقة الساحل الإفريقي هي ما يجعل موسكو يسير وراء التهدئة.

إذ كانت روسيا وراء رفع العقوبات الدولية عن مالي برفع الفيتو في مجلس الأمن الدولي ضد تجديدها.

وتماشى ذلك مع وجود عقود لصفقات مهمة أبرمتها موسكو مع بامكو تتعلق بالاستثمار في الثروات الباطنية وبتطوير الخدمات وتحسين الظروف المعيشية للسكان المحليين.

ولهذا يتمدد نفوذ روسيا اليوم في منطقة الساحل والصحراء وبات يشكل تحولا استثنائيا في الخريطة الجيوسياسية، وإعادة تشكيل النفوذ بملامح جديدة على حساب القوى الاستعمارية السابقة وفي مقدمتها فرنسا التي فقدت أبرز قواعدها، خاصة في دول كالنيجر ومالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى.

وضمن هذا السياق، يشير أستاذ العلوم السياسية والدولية في جامعة الجزائر إدريس عطية في تصريح صحفي، أنه لا يوجد حل للأزمة في مالي “خارج اتفاقية 2015”.

وذلك لأنها "التزام دولي باركته الأمم المتحدة والدول الكبرى، مثل روسيا والصين والولايات المتحدة إضافة إلى الاتحاد الإفريقي والأطراف الإقليمية، فهي مرجعية لتحقيق السلم في مالي وفق برنامج عمل واضح لتحقيق الاستقرار والاندماج الوطني".

ودخول روسيا على خط الوساطة بين الجزائر ومالي، لكون موسكو لا يمكنها كطرف مقرب من البلدين تجاوز حقيقة أن مالي تشكل الأمن الإقليمي للجزائر.

ولهذا بادرت روسيا لمحاولة إنقاذ اتفاق مالي للسلام الذي لا يستسيغه المجلس العسكري الجديد في مالي.

إذ يرى بعض المحليين أن الدور الروسي يتعدى الوساطة مع مالي بل يشكل عامل ضغط على المجلس العسكري المالي.

وهذا ما أشار إليه أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جنيف “حسني عبيدي” بقوله: “إن الوساطة الروسية ستدفع إلى حدوث ترتيبات جديدة وتهدئة الخلاف، خاصة أن مالي تشعر بقوة الدعم الروسي والذي يعطيها أسبقية في المجال الجوي”.

ولذلك فإن "هذا السيناريو يقلق الجزائر بافتراض أن هذه الغلبة العسكرية تشكل تهديدا مهما جدا".

وأضاف عبيدي في تصريح تلفزيوني: "أن الجزائر ستقبل الوساطات؛ لأنها لن تقبل التهديدات من قبل مالي، خاصة أنه ليس من مصلحة الأولى الإبقاء على تجميد الوضع الحالي رغم الثغرات في اتفاق السلام لعام 2015".

بدوره رأى الباحث في الشأن الإفريقي محمد تورشين، أن روسيا لها مصالح متعددة من إنهاء الخلاف بين الجزائر ومالي.

وقال تورشين في تصريح تلفزيوني إن "روسيا أصبح لها دور فاعل ومهم في الأزمة بين الجزائر ومالي، وبالتالي سيكون الدعم الروسي للحكومة المركزية في باماكو كي تتمكن من السيطرة على التراب المالي".

ولم يستبعد "أن يتم الدعم بتطوير سلاح الجو المالي وتدريب العناصر للقتال لمواجهة الطوارق التي تميل إلى حرب العصابات".

ومضى يقول: "أي انتصار للحكومة المركزية في مالي يعني أن ذلك سيكون نموذجا يمكن لروسيا استنساخه وتطبيقه في النيجر وبوركينا فاسو".