نموذج مصغر لفاغنر والدعم السريع.. هل تتحول مليشيات السيسي لغول يأكل مصر؟

منذ ٧ أشهر

12

طباعة

مشاركة

على مدار عمر الدولة الحديثة في مصر، لم تعرف الأنظمة المتعاقبة "المليشيات" بالمعنى الدارج ولم تلجأ إليها، واعتمدت بشكل كلي على الأجهزة الأمنية والعسكرية لدعم السلطة والرئيس. 

لكن رئيس النظام الذي وصل للحكم بانقلاب عسكري، عبد الفتاح السيسي، كان له مسار مختلف عندما وسّع من دور قوى قبلية وتجمعات بلطجية بعينها، ليصبحوا مليشيات منظمة ومتحركة تلعب أدوارا أمنية وقتالية لدعم النظام.

ولجأ السيسي إلى "المليشيات" غير آبه لما حدث في دول قريبة كالسودان الذي يشهد تفككا على يد مليشيا "الجنجويد" التي تحولت إلى قوات "الدعم السريع" وتخوض حربا أهلية ضروسا ضد الجيش بغرض السيطرة الكاملة على الدولة. 

أو مجموعة "فاغنر" الروسية التي تمردت على الكرملين وهو غارق في المعارك على الجبهة الأوكرانية، وكادت الأزمة أن تعصف بموسكو، واضطر الرئيس فلاديمير بوتين أن "يتخلص" من زعيمها يفغيني بريغوجين حتى يعيد ترويضها. 

نخنوخ وفالكون 

‎وفي 28 سبتمبر/ أيلول 2023، نشر أحد كبار زعماء البلطجية في مصر، صبري نخنوخ، عبر صفحته على موقع "فيسبوك"، صورا وهو يترأس اجتماعا داخل مجموعة شركات "فالكون" للأمن والحراسة. 

‎وتصدر اسم نخنوخ اهتمامات نشطاء التواصل الاجتماعي بعد ظهوره داخل المجموعة، نظرا لأهميتها وخدماتها الأمنية المتعددة في السوق المصرية.

والارتباط بين "فالكون" و"نخنوخ" ليس أمرا عاديا، وإنما يبعث بدلالة عن دور أكبر للطرفين، وكلاهما يمثل "ظهيرا أمنيا" للسيسي بعيدا عن الأجهزة الأمنية الرسمية. 

وفالكون التي تأسست عام 2006 وتصاعد دورها بعد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 على الرئيس المدني المنتخب ديمقراطيا الراحل، محمد مرسي، تمتلك 14 فرعا في المحافظات المختلفة على رأسها العاصمة القاهرة.

ويزيد عدد موظفيها عن 22 ألفا بينهم لواءات شرطة وجيش سابقون، ومن أبرز مهامها تأمين الجامعات والشخصيات العامة والمكاتب الأممية والسفارات الأجنبية والمباريات الدولية.

و"فالكون" كان أبرز أدوارها تأمين حملة المرشح الرئاسي في انتخابات 2012 اللواء أحمد شفيق، وحملة السيسي في انتخابات 2014.

زعيم البلطجية

لذلك فإن ارتباط نخنوخ بهذه الشركة غير طبيعي، فبالعودة إلى 30 أغسطس/ آب 2012، كان نخنوخ هو قائد "أكبر جيش للبلطجية" في مصر.

وأطلقت عليه وسائل الإعلام حينها ألقابا عديدة، مثل "أسطورة البلطجة" أو "مدير العالم السفلي" أو "وزير الداخلية الموازي".

ولمع نجم نخنوخ عام 2000، حيث زود السلطات الأمنية في العهد القديم بالأعداد اللازمة من البلطجية للسيطرة على مكاتب الاقتراع في الانتخابات وتزوير النتائج.

وربما يفسر علاقة نخنوخ بالنظام، ما نشره موقع "إذاعة مونت كارلو" الفرنسية في 20 مايو/أيار 2018، أن زعيم البلطجة كان على تعاون وثيق مع أجهزة الشرطة في عهد الرئيس الأسبق، حسني مبارك.

كما يحمّله البعض مسؤولية الكثير من الأحداث الدامية، بدءا من تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية وحتى مذبحة ماسبيرو مرورا بموقعة الجمل ومذبحة إستاد بورسعيد.

ورغم أن محكمة النقض أيدت في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، حكما بإدانة نخنوخ بالسجن المؤبد (25 سنة) كأقصى عقوبة في جرائم حيازة السلاح.

لكن المفاجأة حدثت في 16 مايو 2018، عندما أصدر السيسي عفوا رئاسيا عن نخنوخ، رغم تاريخه الأسود، وكل الجرائم الموجهة إليه.

ثم ها هو يقود أكبر شركة للأمن في مصر قوامها 22 ألف موظف، إضافة إلى قيادته جيش البلطجية الرابض لخدمة النظام. 

وهو ما يطرح تساؤلا مستقبليا حول ماذا إذا اصطدم هذا التحالف المريب في يوم من الأيام بأمن الدولة؟ وقرر الخروج عن المنظومة برمتها؟.

مليشيا العرجاني

عند الحديث عن الجماعات المسلحة والمليشيات التي يقودها أمراء حرب في مصر، فهناك "اتحاد قبائل سيناء" الذي تشكلت نواته فور وصول السيسي إلى السلطة عام 2014 عبر انقلاب عسكري.

واتبع النظام المصري نهجا شرسا وقاسيا لوقف الحركات المسلحة النشطة في شبه جزيرة سيناء.

وبدأت العمليات العسكرية المكثفة في أكتوبر/تشرين الأول 2014، على غرار إستراتيجية الأرض المحروقة بهدف تفكيك شبكات المسلحين.

ومع استمرار المعارك وعجز الجيش عن القضاء على تلك الشبكات، كان اللجوء إلى دعم مليشيا قبلية قادرة على التوغل والصمود.

خاصة وأن السبب الرئيس في فشل المنظومة العسكرية، بحسب ما أورده "معهد واشنطن للدراسات" في تقرير نشره في 9 ديسمبر/كانون الأول 2021، أن "القوات المصرية عجزت عن كسب دعم سكان سيناء المحليين".

وفي 28 سبتمبر 2018، كشفت وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية أن "الجيش المصري سلح (اتحاد القبائل) من أجل حرب تنظيم الدولة، بعد سنوات من القتال المرير بينهما".

وقالت الوكالة الأميركية، إن الجيش سلح عناصر القبائل وجعلهم يسيرون دوريات، واستخدمهم في عمليات ضد المسلحين بعمق جزيرة سيناء، وذلك على غرار تجربة "الصحوات" التي ظهرت بعد اندلاع القتال الطائفي في العراق عام 2006.

ظهير السيسي

وصرحت أليسون ماكمانوس، مديرة قسم الأبحاث في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط ومقره الولايات المتحدة، لوكالة "أسوشيتد برس"، أن "الجيش يستفيد من إلمام هؤلاء البدو بطبيعة الأرض والمعلومات الاستخباراتية المحلية، وهذا مكمن قوتهم".

على الصعيد التنظيمي يقود اتحاد القبائل، رجل الأعمال السيناوي، إبراهيم العرجاني.

المثير أن العرجاني كان معتقلا لدى الأمن حتى 13 يوليو/تموز 2010، بتهمة احتجاز ضباط وجنود على حدود مصر الشرقية، خلال فترة الصراع بين البدو والشرطة، بسبب دوره في تهريب بضائع وسلاح عبر الأنفاق.

لكنه تحول بين يوم وليلة، عقب انقلاب السيسي عام 2013 إلى حليف للجيش والنظام، حتى إنه في 13 مايو 2014 حرص السيسي على لقاء العرجاني ضمن مجموعة من أفراد قبائل سيناء، وظهر في صورة نشرتها وسائل الإعلام وهو يبحث معه ملفات خاصة بالأزمة السيناوية.

كما التقاه السيسي مرة أخرى في 15 يوليو 2021 خلال اجتماعه مع رجال أعمال، وعينه سفيرا من سفراء مبادرة "حياة كريمة" (محلية تعنى بالأنشطة الخدمية والتنموية)، بحضور رئيس المخابرات العامة عباس كامل. 

وبات العرجاني (الذي يعد حاليا من أكبر أمراء الحرب في مصر)، واتحاد القبائل يلعبان دورا أكبر من مجرد القتال وتقديم الدعم في العمليات العسكرية في سيناء.

وضمن دوره في الوساطة من أجل تثبيت وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة وقوات الاحتلال الإسرائيلي بعد معركة "سيف القدس" خلال عام 2020، أوعز نظام السيسي للعرجاني بإرسال معدات شركته لإعادة إعمار القطاع.

ومن هنا، فإن امتدادات العرجاني واتحاد القبائل تتوسع وتنذر أن تلك القوة ليست مجرد مجموعة صغيرة محكومة، وإنما مليشيا مسلحة قامت في سيناء بما لم يستطعه الجيش، وقد تصبح نموذجا مصغرا لقوة بدأت مماثلة وهي "الدعم السريع" في السودان.

مليشيا الجنجويد

ما أشبه الليلة بالبارحة، فالسيسي وهو يدشن اتحاد قبائل سيناء في حربه ضد المسلحين، يبدو أنه كان يمشي على نسق الرئيس السوداني السابق عمر البشير.

ففي عام 2005 بعد انتهاء حرب جنوب السودان، انفجرت أزمة دارفور، أو ما يطلق عليها "حرب الغوريلا".

وقتها احتاج البشير وقواته المسلحة إلى قوات مساندة لمكافحة التمرد، فأنشأت قوات شعبية من بعض القبائل الموالية للدولة لمكافحة التمرد، واشتهرت هذه القوات عالميا باسم "الجنجويد".

وكانت الجنجويد في بدايتها جماعة مسلحة في دارفور (غرب السودان)، تنتمي إلى العشائر العربية، وتحديدا قبيلة "الرزيقات" المقيمة هناك منذ أمد بعيد.

استطاعت "الجنجويد" حينها تدمير الحركات المتمردة، واستعادة كل الأراضي التي سيطروا عليها، تماما كما فعل اتحاد قبائل سيناء في مصر.

لكن كانت التكلفة باهظة، وتورطت هذه المليشيات التي تعمل بإشراف الدولة في انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، وهو الأمر الذي تسبب في إحالة ملف دارفور إلى "محكمة الجنايات الدولية"، ومنها تم استصدار أمر توقيف بحق البشير.

وبالنظر إلى خشية البشير من فقدان السيطرة على تلك القوة التي أصبحت هائلة ومرعبة، ضمها للحكومة تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وأصبحت تحت مسماها الحالي "الدعم السريع".

جيش مواز

وبعد سقوط البشير في 11 أبريل/ نيسان 2019، لعبت هذه القوة دورا محوريا في ترتيب العملية السياسية في السودان.

وأصبح قائدها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) بمثابة الرجل الثاني بعد قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان. 

واستمر الحال في تذبذب مستمر، حتى اندلع القتال المستعر بين الجيش و"الدعم السريع" في 15 أبريل/ نيسان 2023. 

أما "الدعم السريع" التي يواجهها الجيش، والتي هي تطور لمليشيا "الجنجويد"، فليست قوة عادية بعد أن تعاظمت.

فقد أصبحت قوة موازية للجيش النظامي، تعدادها يصل إلى 100 ألف مقاتل مجهزين بأسلحة حديثة.

والمشكلة الأكثر تعقيدا أن دورها الإقليمي عابر للحدود، لها تقاطعات إقليمية وتحالفات خاصة، وتدخلات خارجية نافذة في العديد من البلدان، أبرزها اليمن وليبيا وتشاد وهددت أمن قطر إبان الحصار الخليجي عام 2017.

واليوم أصبحت قوة خطيرة على السودان كدولة، بعد حشدها الحشود وإرسال القوات لإشعال الخرطوم والانقلاب الكامل على الجيش والسلطة الحالية.

وإقرار ما أطلق عليه مستشار حميدتي، أحمد عابدين، خلال تصريح إعلامي في 19 أبريل 2023، "نحن أمام دولة جديدة وسودان جديد".

فاغنر روسيا 

ومن السودان إلى روسيا، فإن الأخيرة تمتلك أعتى المليشيات الموجودة على وجه الأرض حاليا هي "فاغنر" التي تأسست عام 2014 وبدأت بحوالي ألف مقاتل، تزايد عددهم مع الوقت ووصل إلى 20 ألفا. 

وبرز دورهم في القتال بمناطق الصراع في إفريقيا وسوريا وفي الحرب الروسية الأوكرانية. 

واتهمت بالقيام بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وحالات قتل واغتصاب ضد المدنيين في العديد من الدول مثل سوريا وليبيا. 

وارتبط بـ"فاغنر" قائدها وممولها بريغوجين الذي كان مقربا بشدة من بوتين لدرجة أنه كان يلقب بـ"طباخ بوتين". 

هذه المليشيات الضخمة والمتشعبة في روسيا وخارجها، خرجت عن السيطرة تماما عندما شنت تمردا منتصف عام 2023، ضد بوتين وقوات الجيش.

وبدأت بالسيطرة على مقار الجيش جنوب روسيا، وكانت في طريقها نحو العاصمة موسكو.

إلا أن وساطة بين الجانبين بقيادة بيلاروسيا أنهت التمرد وأعطت المجموعة ضمانات أمنية.

وفي 23 أغسطس/ آب 2023، نقلت وكالة "تاس" الروسية للأنباء عن وزارة الطوارئ أن 10 أشخاص قتلوا في سقوط طائرة خاصة شمالي موسكو.

وأعلنت هيئة الطيران المدني الروسية أن قائد فاغنر بريغوجين كان على متن الطائرة.

ويعتقد أن بوتين تخلص من بريغوجين لتمرده، ولكبح جماح فاغنر التي باتت تمثل تهديدا على الدولة التي تخوض حربا شرسة في أوكرانيا منذ 24 فبراير/شباط 2022. 

وهو ما يجعل من تكرار السيناريو في أي دولة في العالم مثل مصر قائما، خاصة أن السيسي المتوسع في استخدام نماذج المليشيات والمجموعات القتالية، لا يمتلك كفاءة الجيش الروسي ولا دهاء بوتين.

سمن كلبك

وتحدث الباحث المصري، أسامة صادق، عن ظاهرة تنامي دور المليشيات وأمراء الحرب خلال فترة حكم السيسي.

وقال صادق لـ"الاستقلال" إن "هذا يخالف طبيعة الدولة المصرية من الأساس، لأن الدولة المصرية معروفة بمركزيتها الشديدة وبيروقراطيتها القديمة التي تشكلت على مدار قرون طويلة". 

وضرب الباحث المصري المثل بمرحلتين، الأولى خلال فترة الحكم العثماني وأنهم استعانوا لإدارة البلاد بالمماليك الذين كانوا يمثلون الدولة العميقة، رغم العداء المستحكم بينهما.

أما المرحلة الثاني التي ذكرها فهي بداية تأسيس الجمهورية بعد ثورة أو "انقلاب" على حد توصيفه 23 يوليو 1952، فرغم الإحلال والتجديد لكن جمهورية الضباط الناشئة استعانت بكل قيادات الوسط في الجيش والشرطة والهيئات الحكومية لتشكيل معالم الدولة الجديدة. 

وشدد صادق على أن "تلك الأمثلة توضح مركزية مصر وما من حاكم استطاع أن يتجاوزها بخلق كيانات موازية تعبث خارج إطار هذه المركزية كالمليشيات أو غيرها". 

ولفت إلى أن "نموذج تفكك السودان يبعث برسالة قوية لمصر، فعمر البشير حين استعان بالجنجويد خلال حربه في دارفور لم يكن يتوقع أن تتحول تلك المجموعات التي كانت عصابات بلا ضابط ولا رابط إلى جيش مخيف يمتلك طائرات وأسلحة ثقيلة وجهاز مخابرات منفصلا، فلم يظهر هذا إلا في مرحلة ضعف وهوان الدولة". 

وتابع: "صحيح أنه لا توجد مقارنة بين قوة الجيش وأجهزة الدولة المصرية ومليشيا مثل اتحاد قبائل سيناء أو شركة أمن كـ(فالكون)، لكن التجربة أثبتت أن كل شيء جائز، وفي لحظة غير محسوبة يمكن أن يتحول هؤلاء إلى (بعبع) يهدد البلاد ويطيح بأمنها".

وعقب: "وهذا ما تمثله التجربة الروسية مع فاغنر، فروسيا كدولة عظمى بجيشها واستخباراتها لا يضاهيها كيان، لكن فاغنر مثلت خطرا عليها في لحظة من اللحظات، وهم بضعة آلاف نفر، فهم حتى أصغر من وحدة في الجيش الرهيب". 

وختم صادق حديثه بالقول: "هناك مثل بالمصري يقول (من يحضر العفريت يصرفه) وآخر عربي (سمن كلبك يأكلك) وهذا ما ينطبق على حالة توسع السيسي في استخدام المليشيات، أنه يجهز كيانا قد يدمر الدولة نفسها ذاتيا في المستقبل".