أمام النواب الأميركي.. كيف كشف "حفار القبور" خبايا جرائم الأسد ضد السوريين؟

لندن - الاستقلال | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

في وقت تتهافت فيه دول عربية لتطبيع علاقاتها مع نظام بشار الأسد، يواصل "حفار القبور" السوري، الإدلاء بشهاداته أمام مجلس النواب الأميركي، عن "مقابر مخابرات الأسد الجماعية البشعة".

و"حفار القبور"، هو شاب سوري كان يعمل موظفا إداريا في بلدية العاصمة دمشق، وفي عام 2011 زار مسؤولو مخابرات النظام السوري مكتبه وأمروه بالعمل لديهم بالإكراه.

وقد تمكن هذا الرجل من الفرار من سوريا عام 2018، حاملا معه شهادته عن فظائع عمليات القتل الممنهجة داخل سجون النظام والتي كان يجري طمسها عبر المقابر الجماعية.

واستخدم هذا الشاهد الاسم الرمزي "حفار القبور"، خوفا من انتقام مخابرات الأسد منه ومن عائلته التي لحق بها إلى أوروبا.

شاهد على الفظائع

ويرتدي "حفار القبور" ملابس سوداء كاملة من رأسه حتى أخمص قدمه، حين الحديث عن الجرائم التي شهدها بأم عينيه، أثناء عمله بين العمال المدنيين في مقبرة جماعية في سوريا من عام 2011 إلى عام 2018.

وفي إحدى جلساته تحدث "حفار القبور" عن الفظائع التي عاشها أثناء عمله، بينها حادثة دهس أحد العمال الذين أظهروا رفضهم للعمل داخل المقبرة، ليقتل بأمر من ضابط المخابرات المشرف على عملية دفن جثث قتلى المتظاهرين والناشطين الذين سقطوا تحت التعذيب بأقبية الأمن.

ويعد "حفار القبور" دليلا جديدا على جرائم نظام الأسد بحق المعتقلين السوريين ممن جرى اعتقالهم من قبل أجهزة المخابرات إبان اندلاع الثورة في مارس/ آذار 2011.

وهو يضاف إلى المصور "قيصر" وهو اسم حركي لمصور سابق في الشرطة العسكرية السورية انشق عن نظام الأسد عام 2013 وسرب للصحافة العالمية صور المعتقلين الذين قتلهم نظام بشار الأسد في المعتقلات.

واستطاع هذا العسكري المنشق تهريب 55 ألف صورة تظهر الوحشية التي يتعرض لها المعتقلون بسجون الأسد.

الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لإطلاق اسم قيصر على قانون حماية المدنيين الذي يعرف بـ قانون "قيصر" الأميركي في 17 يونيو/ حزيران 2020، وخصص لمعاقبة الداعمين والمتعاملين مع النظام السوري.

وقدم الشاهد السوري المعروف باسم "حفار القبور" شهادة جديدة بتاريخ 18 إبريل/نيسان 2023، خلال جلسة الاستماع التي عقدتها لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي بشأن جرائم النظام السوري، وسياسة الولايات المتحدة للسعي إلى المساءلة في سوريا، تحت عنوان "12 عاما من الإرهاب: جرائم حرب الأسد والسياسة الأميركية للسعي إلى المساءلة في سوريا".

ودعا "حفار القبور" إلى المساعدة في الضغط على الدول التي ترغب في التطبيع مع النظام السوري، كما دعا واشنطن إلى التعهد بعدم إعادة العلاقات مع النظام، وزيادة العقوبات المفروضة عليه.

وجاءت هذه الدعوة بينما تتجه دول عربية نحو التطبيع مع نظام بشار الأسد، لا سيما بعدما أعادت السعودية العلاقات مع نظام الأسد، بعد قطيعة لأكثر من عقد بينهما.

وتمثلت استدارة الرياض نحو نظام بشار الأسد المتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق السوريين، بزيارة وزير خارجية نظام فيصل المقداد إلى جدة بدعوة رسمية من نظيره السعودي فيصل بن فرحان ولقائهما بتاريخ 12 إبريل 2023، ثم وصول ابن فرحان إلى دمشق في 18 من الشهر ذاته ولقاء رأس النظام بشار الأسد.

تحذير من التطبيع

وشدد "حفار القبور" خلال جلسة الاستماع على أنه من الضروري، ألا تعترف الولايات المتحدة، بما في ذلك الإدارة الحالية أو أي إدارة مستقبلية، بنظام الأسد كحكومة شرعية لسوريا.

وأكد أن النظام السوري استغل كارثة الزلزال الذي وقع في 6 فبراير/ شباط 2023، لتهريب المقاتلين الإيرانيين والأسلحة لقتل السوريين.

وأخبر الشاهد غرفة المشرعين الأميركيين أن جهاز المخابرات أجبره على أن يكون حفار قبور لصالحهم، موضحا أنه شهد أحيانا مرتين كل أسبوع، وصول ثلاث شاحنات مقطورات محملة بما يتراوح بين 300 و600 جثة لضحايا التعذيب والمجاعة والإعدام من المستشفيات العسكرية وفروع المخابرات في محيط دمشق.

وفي أحيان أخرى مرتين كل أسبوع، ثلاث أو أربع شاحنات صغيرة فيها 30 إلى 40 جثة، لا تزال دافئة، لمدنيين جرى إعدامهم في سجن صيدنايا بريف دمشق، وفق قوله حسبما نقلت صحف عالمية.

ودعا شاهد الكونغرس، الولايات المتحدة إلى التعهد بعدم إعادة العلاقات مع الأسد، وتعزيز نظام العقوبات القائم حاليا ضد دمشق، ومضى يقول: "أولئك الذين يطبعون نظام الأسد هم متواطئون ومتواطئون في جرائم الحرب التي يرتكبها الأسد".

وتأتي جلسة الاستماع بعد عدة أسابيع من إعلان باربرا ليف، مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية، أنه إذا كانت الدول العربية تريد التطبيع مع الأسد، فعليها "الحصول على شيء" منه.

لكن "حفار القبور"، وصف تصريحات ليف وتعليقات إدارة بايدن بأنها "خيانة للشعب السوري".

ويروي الشاهد السوري جزءا من هول ما رأه قائلا: "إنه لا توجد كلمات يمكنها تصوير المشهد الذي كنت أتعرض له كل يوم، رجال ونساء وأطفال ورضع وكبار السن لا حصر لهم، مع علامات على أجسادهم، تحكي قصة وفاة مؤلمة بشكل قاس".

وأكد "حفار القبور"، أن ما شاهده يجعله مستيقظا في الليل، وفي "إحداها ألقت إحدى الشاحنات المقطورة محتوياتها المكونة من عدة مئات من الجثث الميتة في الخندق أمامه، وفي بعض الأحيان كانت الجثث تسقط على حافة المقبرة الجماعية".

مضيفا بالقول: "إنه فوجئ عندما رأى جثة أم شابة هامدة مع علامات واضحة للتعذيب لا تزال ممسكة بطفلها الرضيع وهي تحتضنه على صدرها".

ومضى يقول: "لم أرغب في دفنها مع جثث معظمها من الذكور في الخندق، وأردت دفنها هي وطفلها جانباً أو أعلى المقبرة الجماعية، فسألت ضابط المخابرات عما إذا كان من المقبول ذلك، لكنه وبخني بسرعة وأمر بإلقائها في المقبرة الجماعية".

قصص مرعبة

وفي قصة أخرى، ذكر أنه عندما كانت شاحنات المقطورات تفرغ مئات الجثث، رأى حركة في إحدى الجثث، كان هناك رجل على وشك الموت، يستخدم بشكل يائس آخر طاقته ليشير إلى أنه ما زال على قيد الحياة.

فقال أحد العمال المدنيين وهو يبكي إن علينا القيام بشيء ما، إلا أن ضابط المخابرات المشرف أمر بقتل الرجل بسرعة، أما العامل المدني الذي تجرأ على البكاء على الضحية فلم نره مرة أخرى.

ووفق الشاهد السوري، فإنه بشكل يومي على مدار عدة أسابيع، كان سائقو الحفارات والجرافات يحفرون خنادق بعمق 23 قدما وعرض 9 إلى 10 أقدام وطول 400 إلى 600 قدم موازية بعضهم بعضا، وبشكل أسبوعي كانت هذه الخنادق تمتلئ بأعداد لا تحصى من جثث المدنيين.

وألمح "حفار القبور" إلى أن "آلية الموت المنهجية هذه تستمر حتى يومنا هذا"، مشيرا إلى أنه جرى اعتقال سائق الجرافة الذي حفر المقابر الجماعية في أحد المواقع جنوبي دمشق لمدة عام كامل لمنعه من مشاركة ما شاهده، وتعرض للتعذيب وترك ليموت لكنه نجا وهرب بأعجوبة من سوريا، وهو موجود في جلسة الاستماع في مجلس النواب الأميركي، لكنه لا يستطيع مشاركة وجهه أو اسمه.

ووفق الشاهد السوري فإنه "قد يقول كثير من الناس إنه لا يوجد شيء يمكننا القيام به، وإن سوريا قضية خاسرة ويجب علينا قبول الأسد، لكن هذا ببساطة ليس صحيحاً".

وأضاف أنه كمثال على ذلك، "إذا كان موظف بلدية من دمشق أجبر على دفن مئات الآلاف من المدنيين، تمكن من أن يجد طريقه للوقوف أمام أعضاء أقوى هيئة تشريعية في العالم، وشاركهم الفظائع التي شهدها، فإن هناك أملا. وإذا كان سائق الجرافة، الذي أُجبر على حفر مقابر جماعية ثم أُمر باعتقاله وتعذيبه وإعدامه، تمكن من الهروب وهو الآن معنا هنا".

وفي شهادته أمام مجلس الشيوخ الأميركي بتاريخ 8 يونيو/حزيران 2022، أكد "حفار القبور" استمرار حفر المقابر الجماعية في سوريا على يد النظام السوري.

مبينا بالقول "في بعض الحالات أعرف بالضبط المكان الذي يجري فيه تكديس الجثث حتى في المقارب الجماعية التي ما زالت قيد الحفر حتى اليوم"، وفق ما نقلته شبكة "سي إن إن "الأميركية.

وظهر "حفار القبور" خلال مقابلة لأول مرة على شبكة "سي بي إس نيوز" الأميركية في 29 مارس/آذار 2022، ليتحدث حول الغزو الروسي لأوكرانيا ومخاوفه من تكرار ما حدث في سوريا.

كما ظهر "حفار القبور" في يناير/كانون الثاني 2022، شاهدا ضد الضابط السابق في جهاز الاستخبارات التابع لنظام الأسد العقيد "أنور رسلان" الذي حكم عليه بالسجن المؤبد من قبل محكمة كوبلنز الألمانية في 13 يناير/ كانون الثاني 2022، بناء على رواية "حفار القبور" وأدلة وشهادات أخرى.

ولجأ رسلان البالغ من العمر 59 عاما إلى ألمانيا بعد فراره عام 2012 من سوريا، وقد بدأت محاكمته في 23 أبريل 2020 أمام محكمة كوبلنز بتهمة تعذيب معتقلين في مركز احتجاز سري تابع للنظام السوري في العاصمة دمشق.

وعدت محاكمة رسلان حينها سابقة عالمية في محاسبة نظام الأسد على جرائم التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، ولا سيما أن هذا الضابط السابق في جهاز أمن الدولة متهم خصوصا بالضلوع في قتل 58 شخصا، واغتصاب آخرين وتعذيب نحو 4 آلاف معتقل في السجن التابع لقسم التحقيقات- الفرع 251 والمعروف باسم "أمن الدولة - فرع الخطيب".

دلائل قانونية

كما كان "حفار القبور" أحد الشهود في تحقيق لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تعاونت فيه مع "رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا" حول مواقع المقابر الجماعية في سوريا، ودورها بإثبات وتوثيق جرائم الحرب المرتكبة من قبل النظام السوري.

وترى أطراف سورية معارضة وحقوقية، أن شهادة "حفار القبور" أمام أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، إدانة إضافية لجرائم الإبادة التي أقدم عليها نظام الأسد في سوريا، ويمكن الاستناد لها قانونيا في أي محاكمات تجرى ضد مجرمي الحرب.

وسبق أن رأى رئيس الائتلاف السوري المعارض سالم المسلط، في تعليقه على شهادة "حفار القبور" في حديث لوكالة الأناضول بتاريخ 11 يونيو/ حزيران 2022 "المجازر التي كشف عنها حرِية بأن تجعل رؤوس نظام الأسد في محكمة الجنايات الدولية لنيل الجزاء وتحقيق العدالة".

وأرجع المسلط ذلك إلى ما حملته الشهادة "من دلائل على تعمد قتل السوريين من قبل نظام الأسد وأجهزته الأمنية بأوامر من رؤوس هذا النظام المجرم".

فيما يلفت مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، إلى "البعد القانوني" للشهادة، موضحا بالقول لوكالة الأناضول: "في سوريا هناك كم كبير من المقابر الجماعية، وفي الشبكة السورية وثقنا مرات عديدة هذه المقابر".

وأضاف عبد الغني: "من الصعب تحديد أماكن المقابر لأنها كثيرة، وعدد كبير من الضحايا قتلوا، وبشكل خاص المعتقلون بمراكز الاحتجاز ودفنوا لاحقا، أو تم تصفيتهم، ودفنوا بمقابر عديدة".

ونوه عبد الغني إلى أن "كل مجموعة من عناصر الأمن والشبيحة تعمل مقبرة لنفسها، وتدفن القتلى فيها، وهناك آليات لإحراق الجثث أيضا، وليس من السهل توثيق هذه الجرائم وهي عملية معقدة بحاجة لأشخاص من داخل النظام".

وختم عبد الغني قائلا: "إن حفار القبور كان يعمل بهذا الأمر، و"بالتالي فشهادته على المقابر تشكل أدلة إضافية على الانتهاكات التي ارتكبها النظام والجرائم، وكيف قتل هؤلاء، وتشكل إدانة للنظام من الناحية القانونية".