الخطوة الأولى.. هكذا حاصر برلمان موريتانيا اللغة الفرنسية لتعزيز العربية
.png)
تعاني اللغة العربية الأمرّين لتجد لنفسها موطئ قدم في مناهج التعليم بموريتانيا، إذ ما يزال استعمالها في التعليم ضعيفا مقارنة بالفرنسية، وهو ما يعد مخالفة صريحة لنص دستور 2017، الذي يجعل العربية لغة دستورية وحيدة.
لكن دعاة ومناصري العربية بموريتانيا، تنفسوا الصعداء، ولو نسبيا، بعد إقرار الجمعية الوطنية (البرلمان) في 25 يوليوز/تموز 2022، "القانون التوجيهي للتعليم"، والذي يسعى إلى إقامة "نظام تربوي قادر على بناء شخصية الموريتاني المعتز بمقدساته وثوابته، المنفتح على العصر، والمدرك لقيمة التنوع الثقافي واللغوي لمكونات مجتمعه".
غير أن مصادقة البرلمان على القانون، أثار جدلا كبيرا في الأوساط السياسية والثقافية، حيث عاد النقاش وبقوة، حول إشكالية اللغة والهوية، إذ عبر عدد من الموريتانيين الفرنكفونيين (المتحدثون بالفرنسية) وغير العرب، عن رفضهم للقانون، لما فيه، بحسبهم، من تعارض مع التنوع والغنى الهوياتي الوطني.
فيما قال المؤيدون للقانون والداعمون له، إنه خطوة أولى في مشوار الألف ميل، لأجل تعزيز حضور اللغة العربية والوصول إلى التعريب الشامل، والتحرر من التبعية للغة الفرنسية وسيطرتها على الإدارة والمدرسة في موريتانيا.
أسباب تاريخية
واستحواذ الفرنسية على التعليم والإدارة في موريتانيا يعود للحقبة الاستعمارية (1903– 1960)، حيث فرض المستعمر تدريس التلاميذ والطلاب باللغة الفرنسية، وبقي هذا التوجه في التدريس معمولا به بعد الاستقلال إلى الآن، مع محاولات إصلاح توصف بـ"المحتشمة".
أبرز هذه الإصلاحات كانت أعوام 1959 و1967 و1973 ثم 1999، غير أنها لم تعالج جوهر الإشكال، المرتبط بالاستمرار في اعتماد الفرنسية في تدريس عدد من المستويات والتخصصات، الشيء الذي أنتج نخبا مفرنسة من جهة، وأضعف نتائج التلاميذ الدراسية، وخاصة في المواد العلمية، من جهة أخرى.
وسبق لـ"مرصد اللغة الفرنسية" (غير حكومي) أن أصدر تقريرا في مارس/آذار 2019، بمناسبة اليوم العالمي للفرنكوفونية، قال فيه إن عدد المتحدثين باللغة الفرنسية في البلاد يصل إلى 13 بالمئة، وهي بذلك في الرتبة الرابعة مغاربيا بعد كل من تونس والمغرب والجزائر بالتتابع.
غير أن قوة الفرنسية وتأثيرها ليس أساسا في نسبة تحدث المواطنين الموريتانيين بها، بل في سيطرتها وقدرتها على إحياء نفسها عبر الإدارة والتعليم والاقتصاد، من خلال نخب سياسية ومالية لا ترى نفسها إلا بمقدار قربها من فرنسا.
وعطفا على مسألة "اللغة" في القانون الجديد، وردت في عدد من الفصول، ومنها الأول في مادته السابعة، والقائل، إن المدرسة تضمن في نطاق وظيفتها "إتقان اللغة العربية بوصفها لغة وطنية ورسمية، وأداة لاكتساب المعرفة في جميع المراحل التعليمية، ووسيلة للتواصل الاجتماعي، وأداة عمل وإنتاج ثقافي".
وذكر القانون في المادة 20 أن "التعليم ما قبل المدرسي يهدف إلى إلمام الأطفال باللغات وبالقيم الثقافية الوطنية قصْد: ترسيخ هويتهم وتحصينهم منذ نعومة أظافرهم ضد مخاطر الاستلاب الثقافي".
وفي القسم الأول من الفصل الثاني المخصص للغات، نجد أنه وازن بين تثمين اللغة العربية واللغات المحلية، حيث ذكر أنه "سيتم تدريس كل طفل موريتاني بلغته الأم، مع مراعاة السياقات المحلية والمحافظة على متطلبات اللحمة الاجتماعية".
وأبرز القانون أنه سيجرى التعليم باللغة العربية في جميع مراحل التعليم والتكوين، سواء في مؤسسات التعليم العمومي أو في مؤسسات التعليم الخاصة، مع إدخال تعليم اللغات الوطنية (البولارية، والسوننكية، والولفية) في النظام التربوي.
وشدد على أنه على كل طفل ناطق بالعربية كلغة أم أن يتعلم على الأقل إحدى اللغات الوطنية الثلاث الأخرى (البولارية، والسوننكية، والولفية). وأن اختيار هذه اللغة ينبع من السياق الاجتماعي والديمغرافي الجهوي.
وخلص إلى التأكيد أنه سيتم "تعليم اللغة العربية لجميع الأطفال غير الناطقين بها بوصفها لغة تواصل ولغة تدريس".
تفعيل القانون، وفق ما ورد في متنه، سيكون بالتدريج، وعلى مراحل، تبدأ أولاها بإنشاء هيئة مستقلة مكلفة بترقية اللغات الوطنية، في أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر بدءا من صدور القانون التوجيهي للتعليم.
فيما يُشرع بعدها في إصدار المراسيم المنظمة للإجراءات والمؤسسات المتضمنة في القانون، بشكل متدرج، في أفق عام 2024.
اعتراضات فئوية
وفي 25 يوليو 2022، تظاهر مواطنون أمام البرلمان لرفض مشروع القانون، تزامنا مع عرضه للمصادقة البرلمانية، غير أن قوات الأمن واجهتهم بالعنف، الأمر الذي حدا بالحزب المعارض "التجمع الوطني للإصلاح والتنمية-تواصل"، إلى إعلان التضامن معهم ورفض التدخل في حقهم.
وقال حزب "تواصل" في بيان نشره بحسابه على "فيسبوك" في 26 يوليو 2022، إن قوات الأمن استعملت القمع في حق المتظاهرين، المعبرين عن رأيهم في مشروع القانون بسلمية.
ودعا الحزب في بيانه، إلى حماية الحريات العامة، ورفض التعدي على المواطنين أو قمعهم، مشددا على ضرورة محاسبة المتورطين في ذلك.
وفي 29 يوليو، نظمت منظمة "من أجل ترسيم اللغات الوطنية" (غير حكومية)، وقفة احتجاجية قرب مبنى الجمعية الوطنية، طالبت خلالها بإضفاء الطابع الرسمي على (البولارية، السونكية والولفية).
وتقصد المنظمة بذلك، الانتقال بهذه اللغات الثلاث، من لغة محلية أو دارجة إلى لغة منصوص عليها في الدستور، أي أن تُعتمد في التعليم والإدارة والقضاء وفي مختلف مؤسسات الدولة، إلى جانب اللغة العربية.
ورفع المحتجون شعارات تطالب بتكافؤ اللغات الوطنية مع اللغة العربية، كما رددوا خلال الوقفة شعارات يعبرون فيها عن مطالبتهم بإنصاف لغاتهم الوطنية وترسيمها.
هذا المطلب، المتعلق بدسترة البولارية والسنوكية والولفية إلى جانب اللغة العربية، قال عنه القيادي الإسلامي بموريتانيا، محمد جميل منصور، إنه "مبالغة".
وتابع منصور في تدوينة نشرها بحسابه على فيسبوك (26 يوليو 2022)، "نحن في طور الحديث عن التطوير والتدريس، فكيف بنا نطرح الترسيم؟ ثم كيف لشعب من أربعة ملايين أن تكون له أربع لغات رسمية؟"
وأردف متسائلا: "ثم ما المشكلة في الاكتفاء باللغة العربية لغة رسمية وحيدة، ترافقها اللغات الوطنية الأخرى في التعليم، ويحافظ معها على ازدواجية انتقالية تضمن حقوق الجميع في الإدارة ومستوياتها المختلفة؟"
منصف أم قمعي؟
من جانبه، رأى حزب "التحالف من أجل العدالة والديمقراطية" (معارضة)، أن القانون التعليمي "يكرس اكتمال مسار تعريب موريتانيا، الذي بدأ منذ الاستقلال".
وأكد الحزب في بلاغ صادر عنه في 28 يوليو، أن "التعريب الذي بدأ عام 1966 على خلفية عنف وقمع، ينتهي اليوم بذات العنف القمعي حتى داخل نطاق البرلمان".
"التحالف من أجل العدالة والديمقراطية" الذي يمثل أقلية السود من الموريتانيين القاطنين بجنوب البلاد، طالب عموم الشعب والمعارضة على وجه الخصوص، بالاتفاق على القضايا الأساسية لإنقاذ البلد، داعيا لتنظيم جلسات وطنية لإعادة تأسيس الدولة على أسس عادلة ومتكافئة، بعيدا عن أي تمييز أو قمع مهما كان نوعه.
هذه الاعتراضات التي واجهت القانون وتمكين اللغة العربية في المدرسة الموريتانية، دفعت الأديب والأكاديمي، الشيخ معاذ سيدي عبد الله، إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل المثقفين لا يستدعون "قضايا التعايش" و"المسألة الثقافية" إلا عندما يتم الحديث عن منح اللغة العربية جزءا من حقها الدستوري؟
وقال في تدوينة عبر فيسبوك في 26 يوليو 2022، إن "أكثر من نصف قرن ونحن نتجاهل الدوس على الدستور في مسألة اللغة.. نتعامل بلغة أخرى لا تمت لأي مكون من مكوناتنا بصلة، نفرضها في حياتنا العامة، في تعليمنا، في مسابقاتنا.. هي أقدس شيء عندنا..".
وتابع: "بمجرد التفكير في منح اللغة العربية حقا كفله الدستور لها وبجميع نسخه.. تقوم الدنيا ولا تقعد ويبدأ استدعاء الهواجس والمخاوف.. أي نزقية هذه؟"
وشدد "سيدي عبد الله"، على أن "ما حدث في مسألة التعليم هو الخطوة الصحيحة، والمنصفة للدستور ولغالبية الشعب.. دعم اللغة العربية ومنحها حقها ومكانتها، مع العمل على تدريس اللهجات المحلية لغير الناطقين بها وتطويرها والاحتفاء بها".
من جانبه، يرى الباحث والأكاديمي الموريتاني، عبد الرحمن يوسف عثمان الشنقيطي، أن "القانون جاء متأخرا وأن النقاش حوله على مستوى لغة التدريس ما كان ليكبر لو نظرنا إلى التجارب المقارنة في الدول الأخرى".
فهذه الدول، يضيف الشنقيطي لـ"الاستقلال"، لها لغة قومية حاكمة، كأميركا وتركيا وألمانيا وغيرها، بل إن الصين التي بها عرقيات عدة، نجد أنه رسميا تحكمها عرقية الهان، وتتبنى لغتها كلغة رسمية.
ولأن اللغة العربية هي لغة قومية للموريتانيين، فيجب أن تكون لغة حاكمة، يقول المتحدث ذاته، لا سيما وأنها لغة مشتركات، إذ إن مختلف المكونات العرقية في موريتانيا تدين بالإسلام، مما يجعل الاعتراض على التمكين للغة العربية "غير ذي محل".
لكن، يستدرك الأكاديمي الموريتاني، المشكلة أو الاعتراض يظهر حين تبرز بعض الحسابات السياسية وأوراق الضغط وأصحاب الولاء لجهات أخرى، حينها يبدأ الاعتراض لأن تلك الجهات، الخارجية أساسا، لا تريد أي تمكين للغة العربية في البلاد.
تخبط وحيرة
وشدد على أن إقرار القانون الجديد لتدريس المواد العلمية ببعض اللغات المحلية، يطرح إشكالا جديدا، يتعلق بكون اللغات المحلية المعنية غير مكتوبة من الأصل، وحين نسعى لكتابتها، فهل ستُكتب بالحرف العربي أم اللاتيني أم بغيرهما؟ يتساءل الشنقيطي، معتبرا أن "الأمر سيجعل الطالب في حيرة".
ورأى أن "هذا الأمر سيربك المنظومة التعليمية"، متسائلا عن "توفير الأساتذة لهذه الغاية، ومدى تمكنهم من تعليم العلوم باللغات المحلية، وعن التجارب الدولية المقارنة التي استُفيد منها في اتخاذ هذا القرار".
ولم يخف الأكاديمي إقراره بإمكانية أن تكون اللغات المحلية حاضرة في المسار الدراسي للطالب، بحيث تكون لغة اختيارية، وتكون ميزة للطلاب الذين يتعلمونها عن غيرهم، في التنقيط أو المنح الدراسية، مشيرا إلى "وجود تجارب غربية ناجحة في هذا المستوى".
ورأى الشنقيطي أن "التعامل مع اللغات المحلية بهذا المنطق، يساهم في السلم الاجتماعي، بخلاف الطريقة الواردة في القانون الذي بين أيدينا، لأن مخرجاته لن تكون إيجابية".
المستقبل هو الأهم، ولذلك يرى القيادي الإسلامي، جميل منصور، أن "النقاش في المسألة اللغوية يجب أن يخرج من التناول الغارق في السياسة الحدية، والانتقال بهذا النقاش إلى تداول وتدافع متسم بالانفتاح والتسامح".
وشدد منصور في تدوينته على أن "الاعتراف بتنوع موريتانيا وثرائها اللغوي ليس فيه مشكلة، وأن المخرجات التوافقية التي تأخذ في الحسبان مختلف الأبعاد والاختيارات هي وحدها التي يمكنها معالجة هذا النوع من الملفات والإشكالات".
أما الأكاديمي الشنقيطي، فقال لـ"الاستقلال" إن "الإشكال اليوم ليس في اللغة العربية، بل في اللغة الفرنسية التي أصبحت هي الإطار الهوياتي الذي يحكم الدولة الموريتانية ومثقفيها وأطرها".
ورأى أن "تخوف البعض من تمكين اللغة العربية من الناحية التعليمية، دافعه هو الخوف من فقدان الفرنسية لمكانتها في الدولة والمجتمع".
وشدد على أن "تجاوز اللغة الفرنسية واستبدالها باللغة الإنجليزية، هو المطلوب حالا، باعتبار الإنجليزية لغة العلم، في أفق التعريب الشامل للمنظومة التعليمية والإدارة الموريتانية".
وذكر الشنقيطي أن "القانون يعطي بعض الإشارات للأطر التربوية والمثقفين، بإمكانية التخلي عن الفرنسية"، مشيرا إلى أن "الوصول إلى هذه الغاية ما يزال بعيدا على المدى المنظور".
وخلص الأكاديمي الموريتاني، إلى أن "بُعد هذه الغاية ليس لاستحالتها، بل لأن الإرادة السياسية لتحقيق التعريب الشامل غير متحققة في موريتانيا إلى الآن".