الفلتان الأمني بالضفة.. هل يتحول إلى مواجهات مسلحة بعد رحيل عباس؟

خالد كريزم | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

تنذر التطورات السياسية والأمنية المتلاحقة في الضفة الغربية بحدوث سيناريوهات خطيرة متوقعة، بمجرد رحيل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (87 عاما) عن السلطة.

هذا السيناريو يتمثل بـ"الفلتان الأمني" الذي كان مستبعدا حتى وقت قريب، لكن التجاذبات والخلافات السياسية، ومحاولات الاغتيال والقتل خارج إطار القانون، أعادته إلى الواجهة.

ويرى كثيرون أن هذا الفلتان منتشر بالفعل ويتغذى على انتشار السلاح بالضفة الغربية والمنافسات بين ورثة عباس في الحكم، ما ينذر بمواجهات مسلحة حال رحيله.

تطورات أمنية

كان آخر الأحداث المرتبطة بالفلتان الأمني، إصابة نائب رئيس الوزراء الفلسطيني السابق ناصر الدين الشاعر، بسبع طلقات نارية من مجهولين شمالي الضفة الغربية في 22 يوليو/ تموز 2022.

والشاعر أسير محرر وقيادي في حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بالضفة الغربية، وسبق له أن شغل منصب نائب رئيس الوزراء الفلسطيني بين عامي 2006-2007، وأيضا شغل منصب وزير التعليم سابقا.

ورغم إعلان الشرطة التحقيق في الأمر والإدانات الرسمية والشعبية والفصائلية لمحاولة الاغتيال، والمطالبة بالمحاسبة، لم يجر الكشف عن الفاعلين حتى الآن، في منطقة تحكمها القوات الأمنية بالحديد والنار ويتفشى بها الاعتقال السياسي والتنسيق الأمني مع إسرائيل.

وفي 19 يونيو/ حزيران 2022، استهدف مسلحون منزل عصام شقيق ناصر الدين الشاعر في شمال الضفة. وكان هذا هو الاعتداء الثاني من نوعه على خلفية أحداث وقعت بجامعة النجاح.

وأطلق مسلحون النار أمام منزل الشاعر بمدينة نابلس في الأسبوع الذي سبقه، ورجحت مصادر محلية أن تكون هذه الاعتداءات ناتجة للتحريض ضده عبر مواقع التواصل الاجتماعي بزعم أنه يقود الحراك الطلابي المستقل بجامعة النجاح. 

وتعرض الشاعر، الذي يحاضر بكلية الشريعة في تلك الجامعة، للاعتداء على يد عناصر أمن الجامعة خلال محاولته وقف قمع الأمن لوقفة احتجاجية نظمها الحراك الطلابي خلال يونيو.

وأشارت منظمة سكاي لاين الحقوقية الدولية إلى أن الأكاديمي الشاعر تعرض لتهديدات بالقتل وأطلق مسلحون النار مرتين أمام منزله في نابلس ومنزل شقيقه عصام في بلدة سبسطية بالمدينة ذاتها، "دون أن تتخذ الأجهزة الأمنية الفلسطينية أي إجراءات جدية للتحقيق في تلك التهديدات وعمليات إطلاق النار".

وفي 22 يوليو، عبرت "سكاي لاين" عن قلقها من تنامي مظاهر الفلتان الأمني وخرق سيادة القانون في الضفة الغربية المحتلة، واستخدام مليشيات مسلحة وملثمين لتهديد وترويع المعارضين وأصحاب الرأي المختلف.

وفي بيانات عديدة لقيادات فلسطينية ومنظمات حقوقية، ربط الكثيرون بين محاولة الاغتيال الأخيرة وتصفية أمن السلطة الفلسطينية المعارض نزار بنات في 24 يونيو 2021، وتحدثوا عن الدخول في مرحلة خطيرة من الفلتان الأمني.

وبعد مرور سنة على اغتياله، أفرج بقرار من النائب العسكري العام بالسلطة عن 14 متهما بقتل المعارض بنات في منتصف يونيو 2022، بدعوى "انتشار فيروس كورونا".

وعقب اقتحام منزل أحد أقاربه في مدينة الخليل جنوبي الضفة قتل بنات نتيجة الضرب المبرح بالعصي ورشه بغاز الفلفل، وقمعت الأجهزة الأمنية برام الله تظاهرات خرجت في نفس اليوم منددة باغتياله.

وكان نزار بنات ناشطا سياسيا معارضا ومحاربا للفساد، ومرشحا للانتخابات التشريعية المعطلة عن قائمة "الحرية والكرامة"، التي قرر عقدها في مايو/أيار 2021، قبل أن يلغيها رئيس السلطة محمود عباس بحجة عدم سماح إسرائيل بإجرائها في مدينة القدس.

وعبرت "سكاي لاين" عن قلقها من وجود سياسة غير معلنة بتصفية المعارضين؛ سواء عبر عمليات قتل بأيدي مكلفين بإنفاذ القانون (قوة مشتركة من الأجهزة الأمنية) كما حدث في جريمة قتل نزار بنات، أو من خلال مسلحين مجهولين كما جرى مع الشاعر، الذي سبق أن تعرض وغيره من المعارضين لتهديدات صريحة بالقتل، بحسب البيان.

وطالبت المنظمة الحقوقية الحكومة الفلسطينية بإجراءات جدية لوقف حالة الفلتان الأمني التي ينخرط فيها وفق كل المعطيات جهات محسوبة عليها والمتنفذون فيها، محذرة من العواقب الوخيمة لحوادث القتل وإطلاق النار لتصفية وترهيب الخصوم السياسيين.

وفي 23 يوليو، أكد المجلس التنسيقي للقوائم الانتخابية المستقلة في بيان، أن ما حدث نتيجة متوقعة لغياب العدالة والقانون، ومنظومة القضاء المستقل.

بدوره، عبر حسن خريشة النائب الثاني لرئيس المجلس التشريعي عن اعتقاده بعدم جدية السلطة في معاقبة الفاعلين بالرغم من بيانات الشجب والإدانة التي صدرت عنها.

وبين أن هوية الجناة معروفة لدى الأجهزة الأمنية، وإذا كانت جادة فيجب عليها اعتقالهم ومعاقبتهم.

خلافات سياسية

سيناريو الفلتان الأمني والفوضى بالشارع الفلسطيني يرتبط أيضا بالوضع السياسي المعقد في خضم المعارك من قبل عدة شخصيات على خلافة محمود عباس.

ولا يزال محمد دحلان القيادي المفصول من حركة التحرير الوطني "فتح"، يرى في نفسه خليفة عباس، رغم تعيين الأخير وترقيته أعضاء كبارا في الحركة ليتجهزوا لهذا المنصب.

ووضع عباس عينه على القيادي حسين الشيخ وعينه خلال مايو/ أيار 2022 أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وهو منصب يمهد لصعوده إلى الرئاسة.

ويحاول عباس والشيخ ومدير المخابرات العامة ماجد فرج، خلق الانطباع بأن معركة الخلافة قد حسمت بالفعل وأن الشخصين الأخيرين سيقودان الحكم بعد نزول الأول عن الحلبة السياسية.

لكن الشارع الفلسطيني غير مستعد لقبول هذا الإملاء، ولا كبار المسؤولين في حركة فتح ولا المعارضة، وفق ما قال موقع "نيوز ون" العبري في أبريل/نيسان 2022.

وهناك مرشحون للخلافة لن يستسلموا وسيقاتلون بكل الطرق لمنع حسين الشيخ أو ماجد فرج من الفوز بمنصب رئيس السلطة الجديد، وفق الموقع. 

ولفت إلى أن دحلان المقيم في دولة الإمارات والذي طرده عباس عام 2011 من حركة فتح بتهمة "الفساد الحكومي والقتل"، من المتوقع أن يعود إلى الساحة بكل قوته.

ويقول المحلل السياسي إبراهيم المدهون لـ"الاستقلال"، إن "هناك صراعا داخل الجيل الثالث والرابع في فتح وأبرز هؤلاء المتصارعين هم قيادات الأجهزة الأمنية أو بعض أعضاء المجلس الثوري القديم، الذين ربما ترقوا إلى اللجنة المركزية للحركة أو بعض الأسرى كمروان البرغوثي".

وأردف: "عباس ما زال يرفض مغادرة المشهد وتولية أحد مكانه، وهناك شخصيات قد تدخل حالة صراع مثل حسين الشيخ وماجد فرج مجتمعين، وفي المقابل مروان البرغوثي وجبريل الرجوب. كل هؤلاء طامحون وطامعون بالسلطة لكن الاحتلال والولايات المتحدة لهم اليد الطولى في تشكيل المشهد".

ومروان البرغوثي محكوم خمسة مؤبدات في السجون الإسرائيلية، بتهمة قتل إسرائيليين خلال الانتفاضة الثانية التي اشتعلت شرارتها عام 2000 ويحظى بشعبية كبيرة في الشارع الفلسطيني.

وبدوره، قال موقع "زمن إسرائيل" إن أمين سر اللجنة المركزية لحركة "فتح" جبريل الرجوب يتحدى محمود عباس الذي استبعده من معركة الخلافة.

وقال الموقع العبري منتصف يوليو: يحذر الرجوب من محاولة تدخل "الخارج" بتشكيل النظام الفلسطيني ويقول إن رئيس السلطة لن يجري تحديده إلا من خلال عملية انتخابات ديمقراطية.

وبين أن الرجوب يشعر بخيبة أمل وغضب من التعيينات الجديدة في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، لا سيما تعيين خصمه اللدود حسين الشيخ.

وفي مقابلة مع قناة الشرق التلفزيونية السعودية في 7 يوليو، انتقد الرجوب عباس لأول مرة لإلغائه الانتخابات العامة في الأراضي الفلسطينية.

وجاء الإلغاء خوفا من هزيمة عباس من قبل الأسير مروان البرغوثي بالانتخابات الرئاسية، وخشية صعود حركة المقاومة الإسلامية حماس بالمعركة التشريعية. 

وجبريل الرجوب الذي كان قائدا لجهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية، لديه نفوذ أكبر على الأرض وناشطون مسلحون موالون له، لكن حسين الشيخ أكثر دهاء منه، يقول موقع "زمن إسرائيل".

فالشيخ ضليع ومخضرم في السياسة وتمكن من كسب ثقة رئيس السلطة أبو مازن، وفعل الشيء نفسه في الماضي في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات ونجا بنجاح من كل محاولات الرجوب للتخلص منه سياسيا.

ولفت الموقع العبري إلى أن حليف حسين الشيخ المخلص هو مدير المخابرات العامة اللواء ماجد فرج الذي لديه 30 ألف عنصر أمن مسلح في الضفة الغربية.

ويحمل مسؤولون كبار آخرون في فتح، مثل محمود العالول وتوفيق الطيراوي، نفس التقييم والتكتيكات التي يقودها الرجوب، وهم أيضا يعارضون الشيخ وفرج.

أبرز التوقعات

يرجح كثيرون دخول الشارع الفلسطيني حالة من الفوضى والفلتان الأمني مع استمرار الانتهاكات الأمنية وبعد رحيل عباس، لكنهم يستبعدون حدوث مواجهات مسلحة بين المتنافسين على السلطة أو بينهم وبين المعارضين لها.

وفي حديثه مع "الاستقلال"، استبعد المحلل السياسي إبراهيم المدهون أن يكون هناك اقتتال فلسطيني داخلي رغم التدهور في الحالة الأمنية والسياسية. 

لكن الكاتب الفلسطيني وائل شديد يتوقع أن يدب الخلاف والصراع الداخلي بين المتنافسين على السلطة، وأن يندفع بعضهم نحو طلب الإسناد من المحتل لدعمه مقابل مزيد من الالتزامات الأمنية لصالح العدو.

ومن المتوقع أيضا أن يتبنى البعض الخطاب الوطني للمزايدة على منافسيه ولطلب التأييد الشعبي، وأن ينشب خلاف داخلي قوي تنتج عنه مواجهات مسلحة بين المتنافسين، وفق ما ذكره بمقال في 15 يونيو 2022.

وسيتعزز ذلك إذا انضمت كتائب الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح الذي حله عباس قبل سنوات إلى أحد تلك الأطراف، أو تفرقت فيما بينها وأصبح كل جزء يدعم أحد المتنافسين.

وحينها ستدب الفوضى في الضفة الغربية، ومن المتوقع في هذه الحالة إذا استمرت أن تتدخل قوات الاحتلال لترجح أحد المتنافسين على الآخرين، بحسب تقديره.

ويمكن لهذا السيناريو أن يكون مدمرا للفلسطينيين بشكل عام، إذ لا تستطيع السلطة تحمل وقوع أزمة قيادية حال ترك عباس منصبه.

فهي من الآن تجد نفسها منقسمة بين غزة والضفة الغربية، ومشلولة من جراء عملية السلام المحتضرة، ناهيك عن مواجهة الاستياء المتزايد في الشوارع وفي مخيمات اللاجئين، بحسب معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في دراسة نشرها عام 2015.

وفي خضم حالة التدهور القائمة، حذر مركز "حماية" لحقوق الإنسان، في يناير/كانون الثاني 2022 من أن سلوك الأجهزة الأمنية وممارساتها قد تجعل الضفة الغربية ساحة للتغول على الحقوق والحريات وموطنا للفلتان الأمني في ظل انعدام سيادة القانون.

وطالب "حماية" النائب العام بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة ونزيهة والعمل من أجل ملاحقة ومعاقبة عناصر الأمن الذين يخالفون واجباتهم المنوطة بهم بموجب أحكام القانون خلال عمليات الاعتقال.

بدوره، حذر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان من مخاطر الدخول في نفق اللجوء للسلاح لتصفية حسابات سياسية، منددا بشدة بإطلاق النار المباشر تجاه الأكاديمي والسياسي البارز ناصر الدين الشاعر.

وطالب المركز، في بيان له بعد الحادثة، النيابة العامة بالتحقيق في الاعتداء الآثم، وعبر عن قلقه من تنامي مظاهر الفلتان الأمني في الضفة الغربية وإطلاق النار من مسلحين ملثمين في حوادث متكررة.

وفي دراسة سابقة لها، قالت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، إن غض الطرف عن ظاهرة انتشار السلاح وسباقات التسلح الملاحظة بين العائلات والمسؤولين النافذين والمتصارعين داخل الحزب الحاكم (حركة فتح) والسلطة الفلسطينية، وعدم تصويب هذا الوضع، ينذران بخطر حقيقي على السلم الأهلي والاجتماعي.

وبينت في 31 مارس/آذار 2021 أن الوضع "قد ينحدر إلى حالة فلتان أمني خارجة عن السيطرة، وتشكل بذات الوقت تهديدا خطيرا لأمن الأفراد الشخصي، ولحقهم في الحياة وفي السلامة الجسدية".

وقالت الكاتبة الصحفية لمى خاطر إن الخلفية التاريخية للفلتان الأمني مرتبطة بوجود السلطة؛ فأول سلاح روع الناس كان يتبع لتنظيم فتح وأفراده العاملين في الأجهزة الأمنية، مبينة أنه كان يستخدم لاستعراض القوة وإطلاق النار في المناسبات المختلفة.

وتضيف خاطر في حديث لـ"المركز الفلسطيني للإعلام" في 10 فبراير/شباط، أن "السلاح أصبح فيما بعد نوعا من أنواع تعزيز مراكز القوة؛ وبدأ على المستوى الداخلي بين أقطاب فتح، وباتت كل مجموعة مسلحة محسوبة على أشخاص وأجهزة أمنية معينة".

وتعرب وسائل إعلام عبرية بين حين وآخر عن قلق إسرائيل الشديد من خلافة قيادة فتح لأن كل مسؤول كبير فيها "لديه مليشيا مسلحة" في الضفة الغربية وقد تتصاعد المعركة إلى اشتباكات عسكرية.

ويسود شعور في الشارع الفلسطيني أن محمود عباس يضعف ويفقد السيطرة، ويتزايد الخوف في السلطة من اندلاع انتفاضة شعبية ضد حكمه أو وفاته.

وإضافة إلى ذلك، فإن سيناريو سيطرة حماس على الضفة الغربية كما فعلت في قطاع غزة عام 2007 يتحول تدريجيا إلى خطر حقيقي على قيادات "فتح" وإسرائيل على حد سواء، رغم صعوبة حدوث ذلك.