يتصدر الوطن العربي.. ما الأسباب وراء ريادة المغرب في ظاهرة التسول؟

رغم الضجة التي أحدثها تقرير حكومي قبل نحو 3 سنوات عن تصدر المغرب قائمة الدول العربية في التسول، بواقع 195 ألف شخص، إلا أن الظاهرة لا تزال متفاقمة بصورة ملحوظة لا سيما في أعقاب جائحة كورونا.
ورغم أن القانون المغربي يحظر التسول، إلا أنه آخذ في الانتشار، حيث لا يخلو باب مسجد أو سوق أو شارع رئيس أو ساحة عامة أو محطة طرقية من متسول أو أكثر، في عموم البلاد.
هذا الوضع جعل بعض الباحثين ينظرون إلى التسول كتجارة مربحة ومدرة للدخل، فيما يرى ساسة ومحللون أنه دليل على فشل البرامج والسياسات الاقتصادية والاجتماعية الحكومية، فكيف نفهم الظاهرة؟ وما أسباب انتشارها ونموها؟ وما مداخل حلها ومعالجتها؟
أرقام صادمة
بالرغم من أن مجموعة القانون الجنائي المغربي تعاقب على ممارسة التسول في الشارع العام، بالحبس من شهر إلى ستة أشهر، وسنة بالنسبة لمستغلي الأطفال في هذه الظاهرة، إلا أن "الأيادي الدنيا" آخذة في الانتشار.
فتقرير وزارة الأسرة والتضامن الصادر منتصف عام 2019 بالتعاون مع رئاسة النيابة العامة، أكد وجود 195 ألف متسول في المملكة، الأمر الذي جعلها في صدارة الدول العربية في عدد المتسولين، متبوعة بمصر بـ41 ألف متسول، ثم الجزائر بمجموع 11 ألفا.
هذا الارتفاع، الذي نبه له وحذر منه العديد من المراقبين والفاعلين، جعلهم يدقون ناقوس الخطر، لأجل اتخاذ المتعين واللازم، من لدن الحكومة والمسؤولين.
وفي هذا الإطار، توجه رئيس فريق حزب التقدم والاشتراكية بمجلس النواب (معارضة) رشيد حموني، بسؤال كتابي لوزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة عواطف حيار، بغية تسليط الضوء على ظاهرة التسول بالفضاء العام.
وذكر حموني في مراسلته بتاريخ 10 مايو/أيار 2022، أن الفضاء العام يشهد استمرارا، وربما تزايدا وتفاقما لظاهرة التسول، خاصة بعد جائحة كورونا، سواء في القرى أو المدن. واصفا الوضع بالمسيء إلى المجهود الذي يبذله المغرب على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
ورأى القيادي بالحزب اليساري، أن هناك من تدفعه الحاجة إلى التسول، لكن استدرك بالقول: "يتخذ الموضوع أبعادا خطيرة، بل وإجرامية، حين يتعلق بامتهان التسول وتنظيم شبكات منظمة تتخصص باستغلال الأطفال في ذلك".
ويشكل استغلال الأطفال في التسول أحد أسوأ سلبيات هذه الظاهرة، لذلك أطلقت وزارة الأسرة والتضامن ورئاسة النيابة العامة، "خطة عمل حماية الأطفال من الاستغلال في التسول، وذلك بتاريخ 4 ديسمبر/ كانون الثاني 2019.
غير أن هذه الخطة لقيت انتقاد عدد من المتابعين، بسبب محدودية تأثيرها وتطبيقها، حيث رأى الخبير الاقتصادي عمر الكتاني، أن انتشار صور الأطفال المتسولين أو المرافقين للمتسولين، يدل على فراغ قانوني في المغرب.
وشدد الكتاني لـ"الاستقلال"، على أن الإشكال القانوني هنا مرتبط بالتنفيذ والزجر والتطبيق، لمنع التسول باستعمال الأطفال في الشوارع، وكراء الأطفال للتسول بهم.
ونبه إلى أن من الأطفال من هم في وضعية إعاقة، ممن لا حول لهم ولا قوة، وعد أن في هذا الأمر مسا مباشرا بكرامتهم، كما فيه تعذيب لهم، منتقدا غياب رؤية حكومية أو عمومية لحماية الطفل بالمغرب.
أسباب الظاهرة
من جانبه، يؤكد أستاذ علم الاجتماع بجامعة المولى إسماعيل بمكناس رشيد الجرموني، أن بعض التقارير تتجاوز الرقم الرسمي للمتسولين بالمغرب، وتتحدث عن حوالي 500 ألف متسول، مشددا على أن هذه الظاهرة هي مشينة في تاريخ المغرب وحاضره وصورته.
ويضيف لـ"الاستقلال"، أن أهم سبب يؤدي إلى الظاهرة، هو ضعف أو غياب المساواة الاجتماعية في توزيع الثروات داخل المغرب.
ويعد أن السياسات الاجتماعية في المغرب منذ الاستقلال، لم تعرف توزيعا متكافئا للثروات على المستوى السوسيومجالي، ولذلك نجد مناطق فقيرة جدا، كدرعة تافيلالت وأزيلال ومناطق في الجنوب، مقابل أخرى استفادت من ثمار التنمية بشكل أكبر وأفضل.
هذا التفاوت، وفق الجرموني، يؤدي إلى تشجيع الهجرة إلى المدن الكبرى، وبالتالي، المساهمة في دفع بعض المهاجرين إلى امتهان التسول.
ومن أسباب الظاهرة أيضا، بحسب الأستاذ الجامعي، أن المغرب يعرف في السنوات الأخيرة ظاهرة استقطاب المهاجرين الأجانب، ليس كدولة عبور فقط ولكن كدولة استقرار، خاصة من جنوب الصحراء ومناطق النزاع، كالسودان وسوريا واليمن ومالي وغيرها.
ويعد أن نسبة من هؤلاء المهاجرين تلجأ إلى التسول، بسبب غياب سياسات فعالة لإدماجهم في سوق الشغل بالمغرب.
ويتوقف الجرموني عند مخلفات أزمة كورونا وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، قائلا إنها تدفع بعدد من المواطنين إلى التسول.
وينفي الأستاذ الجامعي وجود ترابط دائم أو حتمي بين الحاجة والتسول، مؤكدا أنه "ليس كل متسول محتاجا وليس كل محتاج يصبح متسولا".
ويبرز أن المسألة مرتبطة بثقافة إظهار الفقر والحاجة، واستغلال عطف وأريحية الناس، من أجل جمع المال والثروة، وقد لاحظنا وعلمنا بحالات متسولين ممن له بيت وأسرة ومدخول لكنه يمارس التسول، وخاصة في المدن الكبرى.
بدوره، قال الخبير الاقتصادي الكتاني إن الوضع الذي وصله المغرب في مسألة التسول خطير، لأنها أصبحت ظاهرة مقبولة وعادية، في حين أنها غير صحية، وأصبحت مهنة، تتسم بالانتشار والنمو السريع، في عموم المغرب.
ورأى من أهم أسباب الظاهرة، غياب سياسة اجتماعية كرؤية في السياسة العامة للدولة، مشيرا إلى أن هناك برامج اجتماعية مجزأة إلى أكثر من 100 مبادرة، تفتقر إلى المنظور الشمولي.
وتابع، كما زاد نمو الظاهرة بسبب العراقيل التي تضعها الدولة أمام استثمار المجتمع المدني في المجال الاجتماعي، منبها إلى أن مشروع قانون 18.18 المتعلق بجمع التبرعات وتقديم الإحسان العمومي، والذي صادقت عليه لجنة الداخلية بمجلس النواب، يوم الأربعاء 06 يوليو/تموز 2022، سيزيد من هذه الصعوبات والعراقيل.
وذكر أن المشروع إن تمت المصادقة عليه من قبل البرلمان بصورته المقدمة من لدن وزارة الداخلية دون تعديل، فسيدفع جمعيات عديدة إلى الانسحاب من الميدان، ما يعمق أزمة الفئات الهشة والفقيرة، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية التي نعيشها.
ومن أسباب الظاهرة أيضا، يردف الخبير الاقتصادي، أن ثمار التنمية لا تنعكس على الجميع، بل إن المخططات التنموية تساهم في تشجيع الاحتكار.
وشدد على أن كل أو جل القطاعات الاقتصادية المنتجة تئن تحت وطأة الاحتكار، وأن هناك فئة محدودة تستفيد من الأرباح والعوائد، ما يعمق الأزمات الاجتماعية، ويساهم في ظهور وانتشار التسول.
وأكد الكتاني أن الفساد الاقتصادي والتضييق على المجتمع المدني يدفعان المغرب إلى قمة قائمة التسول عربيا
وقفة تقييم
في تقييمه لحصيلة الحكومة المغربية في مواجهة ظاهرة التسول، يرى الجرموني أن هذه المواجهة ما تزال محتشمة، وتفتقد لإجراءات زجرية فعالة، خاصة حين يتعلق الأمر باستغلال الأطفال وذوي الاحتياج في التسول.
وأشار الجرموني إلى أن المغرب به حوالي 3 ملايين شخص في وضعية إعاقة، لكن لم نر من سياسات واضحة لصالحهم، بما فيها التشغيل، حيث تظل الأرقام المسجلة ضعيفة جدا، ولا تتجاوز 200 منصب توظيف في القطاع العام سنويا.
فيما أكد الكتاني أن وجود أطفال ينامون على الرصيف، ويتسولون الهبة والمساعدات من المارة، يعني أن بلدنا ما تزال بعيدة عن الواجهة التي تصور المغرب على أنه تقدم، وإن هذا الأمر يتناقض وصورة المغرب المدشن للمشاريع الكبرى والعملاقة.
وانتقد حصيلة السلطات الحكومية والمحلية والبرلمانية في حماية مثل هؤلاء الأطفال، محملا هذه السلطات مسؤولية ما يقع.
ويقول أستاذ علم الاجتماع الجرموني إن المدخل الأولي والأساسي لمعالجة ظاهرة التسول بالمغرب، هو تنزيل مقتضيات النموذج التنموي الذي صودق عليه، كإجراءات ومبادرات وسياسيات عمومية تمس هذه الفئات التي تعيش الهشاشة والفقر، مع التركيز على الأنشطة المدرة للدخل.
كما يجب أيضا، يقول المتحدث ذاته، تحصين المجتمع وتمنيعه من الظاهرة ومن هذا السلوك المشين، عبر تملك النباهة والذكاء الاجتماعي، الذي يمكن المواطن من القدرة على التمييز بين المحتاجين فعلا للمساعدة وبين الذين يمتهنون التسول.
هذا الوعي، بحسب الجرموني، سيجعل المواطن يتجه مباشرة إلى دعم الجمعيات المشتغلة في الحقل الاجتماعي والخيري والتضامني، بالتبرع والتعاون.
ويرى الأستاذ الجامعي، أن هذه الجمعيات تعرف الحالات المستحقة للدعم، وقادرة، بحكم خبرتها، على تحويل تلك الأموال إلى وسائل لتعزيز دخل الأسر الفقيرة، عبر إدماجها في المنظومة الاقتصادية، سواء عبر التجارة البسيطة أو الإنتاج المنزلي أو غيره.
وعلى المستوى نفسه، قال الخبير الاقتصادي الكتاني، إن جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع الأسعار، حولت الأزمة الاقتصادية إلى أزمة اجتماعية، منبها إلى أن الدولة واجب عليها مساعدة وتشجيع المجتمع المدني للاستثمار في القطاعات الاجتماعية.
كما دعا الكتاني إلى تجميع المبادرات الاجتماعية في أربع مركزية، وهي: مبادرات لتمويل القطاع الصحي، ومبادرات لتمويل القطاع الاجتماعي، ومبادرات لتمويل السكن الاقتصادي، ومبادرات لتشجيع التشغيل.
وأوضح المتحدث ذاته أن تركيز هذه المبادرات، سيجعل أثرها كبيرا وظاهرا، وسيمكن المغرب من التوفر على سياسة اجتماعية واضحة.
وعد الكتاني أن السياسة الاجتماعية، يجب أن تكون على رأس أولوياتها حماية الطفل والأشخاص في وضعية إعاقة، كونهم الأكثر عرضة للاستغلال في التسول.
ووفق الكتاني، فإن منع الاستغلال ونشر ثقافة التضامن، مدعاة لإعادة النظر في المسألة الثقافية.
لذلك دعا الخبير الاقتصادي إلى إعداد برامج تعليمية موجهة للتلاميذ والطلاب، تذكي ثقافة التضامن الاجتماعي، وتغرس القيم الإنسانية في المجتمع، بما يمنع انتشار ظاهرة التسول، ويحمي فئات من المواطنين من أن يكونوا من أصحاب "اليد السفلى".