"صبي من الجنة".. صراع نظام السيسي والأزهر ينتقل لمهرجان كان السينمائي
.jpg)
"البرق في كان والرعد في مصر" عبارة تلخص ردود الأفعال على استقبال فيلم "صبي في الجنة" الذي عُرض في مهرجان "كان" السينمائي في فرنسا، بعدما اكتشفت القاهرة أن محتواه سياسي يدور حول الصراع بين مؤسسة الأزهر والنظام الحاكم.
فعقب البرق الذي خطف أعين مشاهدي الفيلم في "كان"، سُمع صوت الرعد جدلا في مصر، رغم أن الصحف التابعة للنظام نشرت عنه في البداية كأنه انتصار أن يعرض فيلم مصري في "كان" قبل أن ينتقده نقاد مصريون.
وكان لافتا أن الفيلم جاء عقب مسلسل "فاتن أمل حربي" الذي عرض في شهر رمضان، وتناول الصراع بين ممثلي نظام عبد الفتاح السيسي والأزهر، وتسبب في موجة كبيرة من الغضب لما احتواه من انتقادات.
انتقاد جديد
"صبي في الجنة" للمخرج المصري السويدي طارق صالح هو الفيلم الثاني له عن مصر الذي يثير جدلا كبيرا، بعد فيلم "حادثة هيلتون النيل"، الذي أغضب السلطات المصرية عام 2015 فقامت بطرد مخرجه حينئذ من البلاد.
وعقب صالح على هذه الواقعة في تصريحات على هامش فعاليات مهرجان كان في 20 مايو/ أيار 2022، قائلا: "لم أعد إلى مصر منذ تصوير حادث النيل هيلتون عام 2015".
وفي ذلك الفيلم ناقش صالح فساد الشرطة المصرية عبر واقعة قتل رجل الأعمال طلعت مصطفى، المقرب من السلطات، للمطربة اللبنانية سوزان تميم.
أما في فيلمه الجديد فيتحدث صالح عن تضييق السلطات على الأزهر والسعي للسيطرة عليه.
Follow the Red steps !
— Festival de Cannes (@Festival_Cannes) May 20, 2022
BOY FROM HEAVEN (WALAD MIN AL JANNA) by Tarik SALEH #Cannes2022 #Competition https://t.co/GXqvwNuIqr
ورسم الفيلم سيناريو ضمنيا مُتخيل لما قد تشهده مؤسسة الأزهر من محاولات للهيمنة الأمنية عليها من جانب السلطة حال وفاة شيخ الأزهر الحالي أحمد الطيب، الذي يخوض النظام صراعا معه لرفضه تطويع التراث الإسلامي، وفق رغبة السلطة.
وفي مواجهة الاستقبال الإيجابي في مهرجان "كان" للفيلم الذي ينافس على السعفة الذهبية وصعوده كسادس فيلم مصري في 7 أعوام، كان أغلبها أفلاما معارضة أو أنتجها معارضون في الخارج، لقي الفيلم انتقادات من جانب نقاد موالين للسلطة.
وبدأ الفيلم بتوجيه تحية مكتوبة باللغة العربية للأزهر الشريف طوال تاريخه "لأنه لم يكن أبدا صدى للحاكم".
وعن عمله الجديد، يقول صالح: أود أن أفتح صندوق باندورا (صندوق الأسرار والشرور وفق الأسطورة الإغريقية) وآخذ معي الجمهور في رحلة إلى عالم واسع لم يتم تصويره بالكاميرا من قبل".
ويضيف أن الفيلم الجديد "يدور حول حرب الأفكار والأيديولوجيات، وأنه سياسي وليس دينيا، وأن هذا سبب الجدل حوله".
ويتابع: "لا أقدم فيلما عن الدين، لكنني أطرح عملا يناقش صراع السلطة بين النخبتين السياسية والدينية في مصر، وأرصد قسوة هذا الصراع، والستار الذي يختفي وراءه، ليقدم للعامة صورة مغايرة لما يحدث في الكواليس".
صراع كبير
ويُظهر الفيلم أساليب جهاز الأمن الوطني في تجنيد طلاب أزهريين للتجسس على المؤسسة، والسيناريو الذي تعده السلطات لخلافة شيخ الأزهر حال وفاته، وصراعها مع كبار العلماء من أجل تعيين موال لها.
وتدور قصة الفيلم حول شاب ريفي يدعى آدم، يعمل والده كصياد سمك، ثم يتلقى منحة للدراسة في جامعة الأزهر، وحين يلتقي مع الطلاب الجدد بشيخ الأزهر في أول يوم دراسي له، يموت الإمام الأكبر فجأة أمام طلابه.
ويستعرض الفيلم "معركة" تدور بعد وفاة الإمام الأكبر بشأن من يخلفه، بين علماء الأزهر وأجهزة الأمن.
ويتخلل الأحداث دفاع بعض الشيوخ عن التراث الديني، وسعي الأجهزة الأمنية لتغيير ذلك ضمن رؤية النظام لـ"تطوير الخطاب الديني".
ويتدخل أمن الدولة طرفا مباشرا في الحكاية، عبر محاولة فرض اسم محدد لتولى المشيخة في المنصب الديني الرفيع (الإمام الأكبر)، خاصة أن شيخ الأزهر يظل في مقعده بنص الدستور مدى الحياة ولا يمكن عزله، وهو ما لا يظهر الفيلم نتائجه.
ويركز الفيلم على شخصية "العقيد إبراهيم" الذي يتولى التجسس على الأزهر عبر طلاب يجندهم، ويقول لهم إن "السلطات تفضل مرشحا معتدلا لا علاقة له بجماعة الإخوان المسلمين (لمشيخة الأزهر)".
كما يركز على شخصية الطالب "آدم"، في الأزهر، الذي جنده إبراهيم ليتولى مهمة نقل ما يحدث في الأزهر إليه، عن طلاب من الإخوان المسلمين يقول إنهم يأملون تولي شيخهم المفضل مشيخة الأزهر.
ووعد إبراهيم الطالب آدم بمساعدة والده في إجراء جراحة مقابل تعاونه معه ضد زملائه في الأزهر، وإبلاغه بآراء الأئمة السياسية، مهددا إياه ضمنا بمصير طالب آخر "متعاون" سقط قتيلا، وبين الفيلم أن الأمن هو من قتله رغم أنه كان عين الأمن في الأزهر.
وتكشف مجريات الفيلم أن "السلطة ستحقق مبتغاها وتنصب الشخصية التي تختارها على رأس الأزهر"، وعودة الشاب الأزهري لبلدته خاوي الوفاض بعد نكث ضابط الأمن بوعوده له.
والفيلم إنتاج سويدي وطاقم تمثيل عربي غير مشهور من فلسطين ومصر وسوريا ولبنان، وتم تصوير مشاهد الأزهر بمسجد السليمانية بإسطنبول في تركيا.
وحصل الفيلم على دعم إنتاجي بقيمة 300 ألف يورو من مؤسسة "مومنتو فيلم إنترناشيونال" و"أرت سينما فرانس".
جدل كبير
وتعليقا على الفيلم، زعمت صحيفة "الدستور" المصرية المملوكة لشركة المتحدة للإعلام التابعة للنظام في 19 مايو، أن الفيلم "يُهاجم الأزهر"، و"يقدم نقدا وصورة مسيئة للأزهر من خلال قصته"، كي تحرض الأزهر على إصدار بيان لنقده.
كما هاجم الناقد الفني المصري طارق الشناوي الفيلم ووصفه بأنه "مراهقة فكرية وسذاجة سياسية!"، بحسب مقاله في صحيفة "المصري اليوم" في 22 مايو.
واتفق معه في الرأي المخرج أمير رمسيس الذي يحضّر فعاليات المهرجان، وأكد في تصريحات صحفية، أن الفيلم "ضعيف فنيا، ولا يستحق هذا الجدل المُثار حوله، ولكن كل ما في الأمر أنه يتحدث عن الأزهر".
واعترف الشناوي أن الحضور في قاعة العرض وقفوا قبل العرض تحية للمخرج وصفقوا له بحرارة.
لكنه انتقد إدخال المخرج الأمن الوطني طرفا مباشرا في الحكاية، وسعيه لفرض اسم محدد لتولى منصب مشيخة الأزهر، وفتح النيران على جهاز الأمن الذي يريد فرض اسم محدد في المشيخة لينفذ التعليمات.
بينما لم يصدر الأزهر بيانا رسمياً للتعليق على هذا الجدل، وتوضيح موقفه منه، خصوصا بعد انتشار مطالبات بمنع عرض الفيلم ومحاكمة صناعه.
بالمقابل، أشاد المخرج المصري عمرو سلامة، عبر صفحته في فيسبوك، بترشيح الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان"، مؤكدا أنه في آخر سبع دورات في مهرجان كان، شاركت ستة أفلام مصرية، ما يعد احتفاء عالمي بالسينما المصرية
كما كانت ردود الفعل على الفيلم في الصحافة الأجنبية إيجابية، ونال الفيلم إشادات من مواقع عالمية وصحف، منها "غارديان" و"سكرين ديلي" البريطانيتين، و"إنديواير" و"فارايتي" الأميركيتين.
ولم يكتف الناقد الأميركي "بيتر ديبروج" بالإشادة بما أسماه "قيام المجازف طارق صالح بتقديم معالجة تقليدية لموضوع حساس"، لكنه أكد أن المخرج "دخل في دوامة ألعاب القوى و"مسرحيات تعيين الإمام الأكبر من خلال رصد دقيق للمؤامرة المتوقعة".
وكتب في موقع "فاريتي" الفني في 20 مايو، أن الفيلم "يتناول موضوعًا لم يجرؤ أحد على مناقشته من قبل، ولكن اعتبر أن السيناريو ليس به ما يكفي من الإثارة الدرامية لتدعم تقلبات الأحداث".
وأوضح أن المخرج تناول موضوع "تورط الحكومة المصرية في مؤامرة لملء فراغ أعلى منصب ديني في البلاد بمرشح يختاره الرئيس على غرار ما تردد عن تدخل وكالة المخابرات المركزية الأميركية لتحديد من تولي منصب بابا الفاتيكان الأخير".
أيضا وصف الناقد الأميركي جوردان مينتزر من موقع "هوليوود ريبوتر" في 20 مايو، طارق صالح بأنه بارع، وأشاد بـ"استخدم مواقع حقيقية وديكورات مصممة إظهار معالم المسجد الأزهر بشكل واقعي".
وكتبت الناقدة الأميركية إيمي سميث من موقع "نيكست بيست بيكتشررز في 20 مايو، أنه لن تكون مفاجأة لو فاز فيلم "صبي من الجنة" بجائزة مسابقة مهرجان كان بعد رد الفعل الهائل حوله، فهو بسيط ومؤثر".
معركة حقيقية
ما يستعرضه الفيلم كقصة خيالية هو رصد لمعركة حقيقية تدور بين نظام عبد الفتاح السيسي وشيخ الأزهر أحمد الطيب، وفق دوائر محلية ودولية.
ولخص تقرير أصدره معهد كارنيغي الدولي (مقره بيروت) في 12 ديسمبر/كانون أول 2018، أسباب الصراع بين السيسي والطيب بأنه نزاع وتنافس بينهما على "القيادة الروحية للمجتمع".
وأوضح أن التوتر الحالي بينهما يدور حول "سياسة القوة"، وليس "المبدأ"، وهو صراع ديني وسياسي، حيث يسعى السيسي للسيطرة علي الأزهر كآخر موقع له استقلال نسبي في الدولة بعدما طوع القضاء وباقي المؤسسات.
ويعود هجوم نظام السيسي وإعلامه على الأزهر والطيب بوتيرة دورية في السنوات الأخيرة، إلى معضلة "تجديد الخطاب الديني" التي يدافع عنها السيسي، ويراها الأزهر تفريطا في ثوابت العقيدة.
وهاجم شيخ الأزهر في 14 يناير/ كانون الثاني 2021، من أسماهم "دعاة هدم التراث" باسم "تجديد الخطاب الديني"، وقال إن التجديد "أصبح مفهوما غامضا وملتبسا".
وكانت معاتبة السيسي علنا لشيخ الأزهر يوم 24 يناير 2017 في احتفال عيد الشرطة، بقوله "تعبتني يا فضيلة الإمام"، وفي ديسمبر/كانون أول 2016 "أنا بقول لفضيلة الإمام كل ما أشوفه أنت بتعذبني"، أبرز مظاهر غضبه منه.
كما وصفت صحيفة "الوطن" التابعة للنظام في 27 يناير 2017، "هيئة كبار العلماء" بأنها "هيئة علماء الطيب"، للسخرية من تبعيتها له بعد رفضها طلب السيسي إلغاء الطلاق الشفوي.
وضمن هذه الحملة هاجم الإعلاميون إبراهيم عيسى وإسلام بحيري وعمرو أديب "الطيب" ونسبوا له زورا تصريحات بأنه يؤيد ضرب الزوجات، وجاء مسلسل "فاتن أمل حربي" في رمضان 2022 الذي رفضه الأزهر وعده "جريمة" لتشويه الدين والأئمة.
ولم يتمكن السيسي من التخلص من شيخ الأزهر كما فعل مع مؤسسات أخرى بسبب نصوص الدستور التي وضعها المجلس العسكري السابق برئاسة المشير حسين طنطاوي، بناء على رغبة الطيب خشية سيطرة الإخوان على المشيخة.
فجاء في تعديلات قانون تنظيم الأزهر التي صدرت في 19 يناير 2012، بمرسوم عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبعضوية السيسي، النص على عدم إمكانية عزل رئيس الجمهورية لشيخ الازهر.
وهي مادة كان مقصودا بها تحصين الشيخ كي لا يعزله الرئيس محمد مرسي أو البرلمان لو أرادوا، وقطع الطريق على أي محاولات لتغيير وضع الأزهر.
بيد أن هذه التعديلات التي وافق عليها السيسي حينئذ، باتت عقبة أمامه هو في مواجهة شيخ الازهر لأن تعديلات القانون ألغت سلطته في تعيين شيخ الأزهر، وجعلت عزل واختيار الشيخ بالانتخاب من جانب هيئة كبار العلماء.
وتنص المادة 7 من الدستور على أن "شيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء"، ما يعني أن أحمد الطيب شيخ الأزهر سيظل في منصبه حتى وفاته.
وكان شيخ الأزهر تحدى السيسي وأرسل إلى البرلمان طلبا في 23 أغسطس/آب 2020 برفض قانون فصل الإفتاء عن الأزهر لأن به "عوار دستوري"، و"يمس استقلالية الأزهر" ما اضطر البرلمان لتأجيل صدور القانون، لعدم الصدام العلني.
لكن السيسي رد في 14 أغسطس/آب 2021 بقرار جمهوري يخرج الإفتاء من عباءة الأزهر بالقوة، عبر إلغاء صلاحية هيئة كبار علماء الأزهر في اختيار المفتي وجعله تابعا للرئاسة، لخلق ازدواجية في المؤسسة الدينية.