"ثقب أسود".. كيف سقط مجلس المنافسة المغربي بفخ لوبي المحروقات؟
.jpg)
مع إبعاد رئيس مجلس المنافسة في المغرب إدريس الكراوي، من منصبه، بعد تحقيق طويل من قبل لجنة ملكية ضمت رؤساء أهم المؤسسات الدستورية، بشأن "مخالفات محتملة" في قطاع المحروقات، يرى متابعون في المملكة أن "الكراوي" سقط في "فخ" لوبي المحروقات.
فمنذ تحرير قطاع المحروقات في المغرب عام 2015، ارتفعت أرباح الشركات، وتصاعد الغضب الشعبي، ليطلب الملك محمد السادس تقارير بشأن ذلك، غير أن تضارب مضامينها، سيصل إلى "تفجير مجلس المنافسة من الداخل".
ومع إعفاء الكراوي في 22 مارس/آذار 2021، وتعيين رئيس جديد لمجلس المنافسة (دستوري مهمته مراقبة الأسعار ومحاربة الاحتكار) يكشف البيان الملكي أن هذا القرار "يأتي بعد رفع تقرير اللجنة الخاصة المكلفة من قبل الملك بإجراء التحريات اللازمة، لتوضيح القرارات المتضاربة للمجلس حول وجود توافقات محتملة في قطاع المحروقات".
وشغل الكراوي الرئيس المطاح به من مجلس المنافسة، عددا من المسؤوليات، فهو أستاذ جامعي، وقيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (يساري/مشارك في الائتلاف الحكومي)، وعمل مستشارا لرؤساء الوزراء منذ 1998 إلى 2011.
ثم عمل كاتبا عاما (سكرتيرا) للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (مؤسسة دستورية تقدم الاستشارات للحكومة) من عام 2011 إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2018 تاريخ تعيينه من طرف الملك على رأس مجلس المنافسة.
تضارب قاتل
وتعود بداية الأزمة إلى 26 يونيو/حزيران 2020، حين صدر بيان لمجلس المنافسة، حدد موعد مناقشة "احتمال وجود ممارسات منافية للمنافسة في سوق توزيع المحروقات"، في 21 تموز/يوليو 2020.
بعد ذلك انتشرت تسريبات، تفيد بقرب إصدار رأي "مجلس المنافسة" حول شركات المحروقات، وشددت التسريبات على أن هناك "تواطؤا" بين لوبي المحروقات حول الأسعار، كما توقعت أن يصدر المجلس عقوبات على الشركات.
كان من آثار التسريبات، تعرض "مجلس المنافسة" لضغط كبير، دفع رئيسه إلى إصدار بيان ينفي فيه مسؤولية مجلس المنافسة عن التسريبات في 7 يوليو/تموز 2020.
وجاء في البيان أن "مجلس المنافسة ينفي نفيا قاطعا أية مسؤولية له بشأن ما تداولته بعض المنابر الإعلامية بخصوص عناصر ملف الإحالة المتعلقة باحتمال وجود ممارسات منافية للمنافسة الحرة والنزيهة في السوق الوطنية للمحروقات"، مجددا تأكيده على أن "الموضوع سيناقش في جلسة 21 يوليو/تموز 2020".
في ظل هذه الأجواء المشحونة بالتسريبات ونفيها، سيعقد مجلس المنافسة اجتماعه في الموعد المقرر له، وسيعمد رئيس المجلس إلى مراسلة الملك عبر مذكرتين لإخباره بالمداولات والقرارات التي اتخذها بخصوص شركات المحروقات.
في 23 يوليو/تموز، توصل الملك بـ"قرار المجلس" حول "التواطؤات المحتملة لشركات المحروقات وتجمع النفطيين بالمغرب"، اعتمدته الجلسة العامة بموافقة 12 صوتا ومعارضة صوت واحد"، قضى بفرض غرامة مالية بمبلغ "9 بالمائة من رقم المعاملات السنوي المحقق بالمغرب بالنسبة للموزعين الثلاثة الرائدين، وبمبلغ أقل بالنسبة لباقي الشركات".
بعد ذلك، سيتوصل الملك في 28 يوليو/تموز 2020، بمذكرة ثانية من رئيس مجلس المنافسة أيضا تهم الموضوع ذاته، والتي يطلع من خلالها الملك بـ"قيمة الغرامات المفروضة" على الموزعين خلال الجلسة العامة ليوم 27 يوليو/ تموز.
لكن هذه المرة تم تحديد المبلغ في حدود 8 بالمائة من رقم المعاملات السنوي دون تمييز بين الشركات، ودون أية إشارة إلى توزيع أصوات أعضاء مجلس المنافسة.
اتهامات خطيرة
لم يتردد خصوم الرئيس داخل المجلس، في استغلال الفرصة التي أتاحها تضارب مراسلات الرئيس إلى الملك، حيث بعثوا برسالة إلى الملك في نفس اليوم (28 يوليو/ تموز 2020)، يبرزون من خلالها أن "تدبير هذا الملف اتسم بتجاوزات قانونية وممارسات من طرف الرئيس مست جودة ونزاهة القرار الذي اتخذه المجلس".
واتهمت الرسالة، التي لم يكشف بلاغ الديوان الملكي هوية أصحابها، "الكراوي" بتهم بينها، "التواصل الذي أضر ببحث القضية ومصداقية المجلس، وسلوك الرئيس الذي يوحي بأنه يتصرف بناء على تعليمات أو وفق أجندة شخصية".
الخلاف الحاد بين أعضاء مجلس المنافسة، والاتهامات الموجهة للرئيس من قبل عدد من الأعضاء، اعتبرته منظمة الشفافية الدولية – فرع المغرب (ترانسبارانسي) "زعزعة لمجلس المنافسة".
وشددت المنظمة (غير حكومية تحارب الفساد والرشوة) في بلاغ أصدرته في 14 أغسطس/آب 2020، على أن "التشكيك الذي عبر عنه أعضاء في مواجهة الرئيس، إضافة إلى اللجوء لحلول من خارج ما تتطلبه استقلالية المؤسسات أو نصوص القانون، كل ذلك ليس من شأنه ترسيخ دولة القانون وبناء الديمقراطية".
حجم التناقضات، وحساسية الملف، دفعت الملك إلى فتح تحقيق وتشكيل لجنة ضمت عددا من "المسؤولين السامين؛ كرئيسي مجلسي البرلمان (النواب، المستشارين)، ورئيسي المحكمة الدستورية، والمجلس الأعلى للحسابات، والي بنك المغرب، ورئيس "الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها"، كما تكلف الأمين العام للحكومة بمهمة التنسيق".
وبعد أشهر من العمل، أسدل بلاغ الديوان الملكي في 22 مارس/آذار 2021 الستار على نتائج التحقيق، قائلا "وقد خلصت إلى أن مسار معالجة هذه القضية شابته العديد من المخالفات القانونية، ووقفت على تدهور ملحوظ في مناخ المداولات بالمجلس".
كما قرر العاهل المغربي إحالة توصيات التقرير على رئيس الحكومة بحسب البلاغ، "بهدف إضفاء الدقة اللازمة على الإطار القانوني الحالي، وتعزيز حياد وقدرات هذه المؤسسة الدستورية، وترسيخ مكانتها كهيئة مستقلة، تساهم في تكريس الحكامة الجيدة، ودولة القانون في المجال الاقتصادي، وحماية المستهلك".
وفي تعليق على هذه الإشكالية، اعتبر الباحث في الشؤون المالية، والمعيد في جامعة الحسن الثاني بسطات (وسط)، عبد الغني التاغي، أن "الغريب في الحالة المغربية أن هذه المؤسسات، ومجلس المنافسة تحديدا، جرى تطويق حركته من الداخل، خاصة من خلال التعيينات التي تتم من داخل الحكومة، أو البرلمان، أو مؤسسات أخرى.
وشدد التاغي في حديث لـ"الاستقلال" على أن "هذه التعيينات تراعي الولاءات الحزبية على خدمة المصلحة العامة، وأصبحت خاضعة لكثير من الحسابات الضيقة على حساب المصالح العليا للمجتمع والدولة، مما يحتم إعادة النظر في المقاربة المعتمدة للتعيين في مؤسسات الحكامة".
ويتألف مجلس المنافسة، من رئيس و4 نواب للرئيس و8 أعضاء مستشارين، وتستمر مهامهم لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة.
لوبي المحروقات
عام 2018، كشف "تقرير اللجنة البرلمانية الاستطلاعية حول المحروقات" إلى أن 4 شركات للتوزيع تهيمن على سوق الوقود بالمغرب، ويتعلق الأمر بكل من "الشركة المغربية لتوزيع المحروقات" (أفريقيا)، و"فيفو إنرجي"، و"طوطال"، و"بتروم"، حيث تهيمن هذ الشركات مجتمعة على نسبة 74 بالمائة من حصة السوق المحلية.
وأفاد التقرير الذي أثار جدلا واسعا في المغرب بأن شركة "أفريقيا"، المملوكة لعزيز أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري والمياه والغابات، وأمين عام حزب التجمع الوطني للأحرار (مشارك في الائتلاف الحكومي)، تهيمن وحدها على نصف واردات البنزين، و30 بالمائة من واردات الغازوال/مازوت.
وأفاد نفس التقرير أن شركة "فيفو إنرجي" التابعة للعملاق العالمي في قطاع المحروقات "شل"، احتلت المرتبة الثانية، بحصة 17.3 بالمائة من الغازوال/مازوت و11.06 من البنزين.
وعادت المرتبة الثالثة لشركة "توتال" الفرنسية، بحصة 14.75 من الغازوال و9.75 في المائة من البنزين، فيما بلغت حصة "بتروم" (مغربية) التي جاءت في المرتبة الرابعة بحصة 12.10 من الغازوال و4.12 من البنزين.
ويذهب الباحث، التاغي إلى أن "ما جرى يعني عرقلة مؤسسة من مؤسسات الضبط والحكامة التي نص عليها دستور المغرب".
وتابع: "من المفروض أن مجلس المنافسة والمجلس الأعلى للحسابات مؤسسات دستورية للضبط، وبالتالي فهما فوق الضغط، وبعيدان عن محاولات التأثير، ولذلك شدد الدستور على مبدأ استقلالية هذه المؤسسات".
وأكد التاغي أن "على المغرب فرض مزيد من الإجراءات لحماية هذه المؤسسات من التلاعب، وتأمينها من ضغط اللوبيات، التي نجحت لحد الآن في تفجير مجلس المنافسة من الداخل".
وتشير أصابع الاتهام بعرقلة "مجلس المنافسة" إلى "لوبي النفطيين"، الذي يعد الوزير أخنوش أكبر المنخرطين فيه، لتنضاف إلى اتهامات سابقة بلغت ذروتها ما بعد 2016، حين اتهمه على التوالي أمين حزب الاستقلال السابق حميد شباط، بالاستفادة من دعم حكومي يصل إلى نحو 1.3 مليار دولار سنويا، فيما اتهمه وزير العدل الأسبق، محمد زيان، بالاغتناء من المحروقات.