بين معبري طابا ورفح.. التدليل والإذلال بقرار من المخابرات المصرية

حسن عبود | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

على بعد نحو 260 كيلو مترا من معبر رفح، الحاجز المنيع بين غزة ومصر، يتنفس الإسرائيليون هواء عربيا ويشعرون بسعادة غامرة من الترحيب الحار بهم، لدى دخولهم الأراضي المصرية عبر ميناء طابا البري جنوب سيناء.

هذه المسافة التي تفصل معبري رفح وطابا، تعززها سياسات واتفاقات، ترى فيها السلطات المصرية مبررا كافيا، لفتح الأبواب للإسرائيليين على مدار الساعة، والإطباق على رئة غزة الوحيدة متى شاءت.

ففي إحصائية لافتة، قالت سفارة تل أبيب لدى القاهرة: إن أكثر من 700 ألف إسرائيلي زاروا مصر خلال 2019، وأن "سيناء (شمال شرقي البلاد) بالأخص ضمن الوجهات المفضلة للإسرائيليين". وتركز السياحة الإسرائيلية بحسب تصريحات مصرية على مناطق دهب ونويبع وطابا وشرم الشيخ.

واعتبرت السفارة في بيانها يوم 6 يناير/كانون الثاني الجاري، أن هذا العدد من الزائرين "يدل على الإعجاب والإحساس بالأمن والأمان، وحسن المعاملة"، وسط رفض شعبي كبير في مصر لهذه العلاقات.

في المقابل، ولدى مراجعة صحيفة "الاستقلال" كشوفات وزارة الداخلية في غزة لعام 2019 والسنوات السابقة، فإن السلطات المصرية تسمح بسفر 35-40 ألف فلسطيني في كل عام، على الرغم من أن عشرات الآلاف ينتظرون على قوائم السفر.

وكان 2012 بمثابة الاستثناء الوحيد الذي لا يزال يذكره سكان غزة حتى اليوم، حيث مثّل وصول محمد مرسي لكرسي الحكم، الفترة الذهبية في عمل المعبر الذي فتح بشكل منتظم على مدار 310 أيام (باستثناء الإجازات والإغلاقات لظروف أمنية)، ما سجّل سفر نحو 210 آلاف فلسطيني.

وتبلغ أعداد المسجلين للسفر حاليا نحو 20 ألف مواطن، بحسب مدير الإعلام في معبر رفح البري وائل أبو عمر. ويقدر موقع وزارة الداخلية بغزة عدد أيام فتح المعبر خلال عام 2019 بـ 277 يوما.

وعن تقييمه لوتيرة السفر، قال أبو عمر لـ"الاستقلال": إنه "طالما أن المعبر مفتوح فالأمور جيدة جدا، يبقى موضوع زيادة عدد المسافرين". 

وسبق أن استنكرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الازدواجية في التعامل ليس بين طرفين متوازنين، بل مع الجار والمغتصب للأرض.

وقال الناطق باسم الحركة فوزي برهوم في تصريح سابق: إن الجانب المصري "يحول غزة إلى سجن كبير يذيقها فيه الويلات، ويفتح معبر طابا على مصراعيه للإسرائيليين والضباط الصهاينة ضمن تسهيلات غير مسبوقة ليدخلوا مصر معززين مكرمين".

معاناة الرفحين

تغلق السلطات المصرية معبر رفح أو توقف العمل به لعدة أسباب أبرزها التوتر في سيناء، أو التعذر بتعطل حواسيب المعبر، أو الإجازات الرسمية، كما ترفض دخول عشرات المسافرين بحجة "المنع الأمني" أو بسبب سفرهم إلى دول لا تحظى القاهرة بعلاقات جيدة معها.

ومعبر رفح هو المنفذ الوحيد لسكان قطاع غزة إلى العالم خارج سيطرة تل أبيب. ويبلغ عدد سكان القطاع الذي تعرض لـ3 حروب إسرائيلية نحو مليوني فلسطيني.

أما منطقة رفح التي سمي المعبر باسمها، فكانت مدينة واحدة كبيرة، وبعد معاهدة "كامب ديفيد" 1979، قسمها شريط حدودي إلى رفح مصرية مساحتها حوالي 5 كيلومترات وأخرى فلسطينية تبلغ حوالي 55 كيلومترا مربعا، والآن يربط "الرفحين" شريط حدودي وعلاقات نسب وتاريخ مشترك.

وبعد أكثر من 40 عاما على فصل "الرفحين" بات هناك وجه معاناة متشابه بعد أن دمر الجيش المصري المدينة بهدف إنشاء منطقة عازلة لـ"مكافحة الإرهاب في سيناء ومنع التهريب عبر الأنفاق" التي هُدمت لاحقا وكانت تربط قطاع غزة بمصر، حيث اضطر الفلسطينيون لحفرها حينما اشتد الحصار عليهم أثناء حكم حسني مبارك.

ومنذ استعادة سيناء من إسرائيل بشكل كامل في 1982، همشت الدولة المصرية سكانها التي تنظر إلى الكثير منهم كإرهابيين أو مهرّبين، حيث تتسم شبه الجزيرة منذ نحو 4 عقود بعلاقة صراع بين الشعب -معظمه من البدو- والسلطة المركزية.

وتصاعد القمع بحق سكان سيناء بعد هجمات طابا ونويبع في أكتوبر/تشرين الأول 2004 وشرم الشيخ في يوليو/تموز 2005، وأصبحت الرغبة في الانتقام من البدو في تلك المناطق، السمة السائدة لدى قوات الأمن.

رحلة عذاب

بعد سنة واحدة من هجمات شرم الشيخ، فازت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وبأغلبية ساحقة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وتبعها سيطرتها على قطاع غزة في 2007 نتيجة لرفض السلطة في رام الله تمكين الحركة، واعتراض المجتمع الدولي على حكمها.

منذ ذلك الحين، تعرض أهالي قطاع غزة إلى أشكال قاسية من الحصار، كان أبرزها تعمد السلطات المصرية إذلالهم على معبر رفح، وابتزاز بعض المسافرين من أجل العمل كمخبرين مقابل تسهيل سفرهم، وتطور الأمر في الوقت الحالي إلى الاضطرار لدفع مبالغ باهظة من أجل الحصول على تنسيق يسمح بالسفر.

يقول محمد محمود (اسم مستعار): إنه جرى إرجاعه بدون سبب في محاولته الأولى للسفر إلى تركيا. أما في المرة الثانية "فقد جرى تأجيل سفر الباص الذي يضم اسمي ليوم إضافي بسبب ما قالوا إنه تعطل للحواسيب". 

ويوضح في حديث لـ"الاستقلال" أن رحلة التنقل بين المعبرين الفلسطيني والمصري واستقبال المسافرين، تبدأ من الساعة الخامسة فجرا، وحتى الخامسة مساء من اليوم نفسه، وبعدها يأتي القرار من ضابط في المخابرات المصرية إذا كان سيسمح لك بالسفر من عدمه، "وكل هذا لا يشمل طريق العذاب من المعبر حتى المطار".

وفي الظروف العادية تستغرق رحلة السفر من غزة إلى القاهرة 6 ساعات، أما الآن فأصبحت أكثر من 24 ساعة، وفي بعض الأحيان حتى 48 ساعة، حيث يجري احتجاز مئات الفلسطينيين ليوم إضافي على الجانب المصري من معبر رفح وكأنهم سجناء، بسبب "منع التجول في سيناء".

وعلق في ذهن محمود موقفان من تلك التجربة، الأول عندما أخبرت إحدى المسافرات ضابطا مصريا في المعبر أنها متوجهة إلى مصر، فقال لها بكل سخرية وهي في حالة انهيار تام: "مصر مش عايزاكي"، والثاني عندما سُمح لأحد المرضى المبتورة أقدامهم بفعل الحرب بأنه سُمح له بالسفر، دون والدته التي كانت تُرافقه.

وأثناء السفر، يخضع المسافرون إلى عمليات تفتيش دقيقة على حواجز الجيش المصري المنتشرة في سيناء لاسيما حاجزي "الفردان" و"الريسة" والانتظار لساعات طويلة عليهما ما يؤخرهم في الوصول إلى مطار القاهرة أو إلى غزة وفقا لروايات المسافرين. ويصل ذلك إلى إفراغ الهواء في إطارات المركبات لفحص ما بداخلها.

صورة حصرية لانتظار المسافرين على حاجز الفردان

وتنتشر على طول الطريق بين غزة ومصر (نحو 450 كيلو مترا) حواجز عسكرية للجيش والشرطة. وقال مسافرون لـ"الاستقلال": إنهم سمعوا إطلاقا كثيفا للنار أثناء عبورهم من خلال سيناء، في الحرب التي تقول القاهرة إنها تستهدف "الإرهاب".

التنسيق الأمني

ولا يحتاج أهالي غزة تأشيرة دخول إلى مصر، لكنهم بحاجة إلى موافقة أمنية. أما غير الحاصلين على التنسيق الأمني فيجري إرجاعهم إلى غزة، باستثناء المسافرين إلى بلد غير مصر (عبور فقط)، وهؤلاء يتم ترحيلهم بمأمورية رسمية من المعبر حتى مطار القاهرة، ومن ثم يجري احتجازهم في غرفة الترحيل بالمطار حتى يحين موعد الطائرة.

وبحسب موقع "الجزيرة نت" الانجليزي، فإنه "يمكن لوكلاء وسماسرة السفر الذين يعملون بالتنسيق مع المخابرات المصرية، وترتيب السفر الفوري إلى مصر أو عبرها مقابل 1200 دولار للشخص الواحد".

وهو مبلغ يعادل حوالي ثلاثة أضعاف متوسط ​​الراتب الشهري للموظف المدني هناك. ويجب دفع تلك الأموال في مكتب المخابرات المصرية بالمعبر، وفقا لما ذكره مسافرون.

وتنسف السلطات المصرية كل ما سبق إذا كان المسافر "مدرج أمني"، حيث يُدرج آلاف الفلسطينيين على القائمة السوداء لعدة أسباب، أبرزها الانتماء للحركات السياسية والفصائل العسكرية، أو حتى العمل سابقا في حكومة حماس المنتخبة. ويعتبر الإدراج حتى لو كان بـ"تقرير كيدي" أمر نهائي لا نقاش فيه ولا رجعة عنه، وفق أحد المدرجين.

يقول "أ.خ" في حديث لـ"الاستقلال": إنه مُدرج على القائمة المصرية السوداء وممنوع من السفر، بسبب انضمامه سابقا لكلية الشرطة التي دشنتها حكومة حماس عام 2009، حيث نشرت وزارة الداخلية أسماء المقبولين في الدفعة الأولى على موقعها الإلكتروني أنذاك.

وتابع: "كنت أضطر للحصول على تنسيق أمني في زمن مبارك من أجل السفر، ليس لدخول مصر نفسها فهذا أمر مستحيل، ولكن من أجل العبور فقط من خلالها". أما في زمن عبدالفتاح السيسي فهو يخشى السفر تماما.

اعتقال المسافرين

تخوفات هذا الشاب من السفر، مردها حوادث اعتقال عدد من الفلسطينيين وحتى غير المُدرجين أمنيا منهم، وآخرهم اثنان اعتقلا منذ 4 شهور هما علاء عماد عودة الذي فُقد في مطار القاهرة، وسامح الجاروشة وهو خريج طب ذهب للقاهرة لإكمال إجراءات الحصول على الزمالة المصرية ليعتقل هناك.

ولم تتحدث حركة حماس عن حالات الاعتقال الجديدة في وسائل الإعلام حتى الآن، في ضوء العلاقات الإيجابية مع مصر، حيث يجري التنسيق بين الطرفين بشأن عدة ملفات أبرزها المصالحة الداخلية مع حركة فتح والانتخابات الفلسطينية الشاملة والتهدئة مع "إسرائيل".

وعمق هذه الأجواء الإيجابية، انتهاء الخلافات التي أنتجها الانقسام، بين "حماس" ومحمد دحلان مستشار ولي عهد أبوظبي والقيادي المفصول من "فتح" الذي يحظى بعلاقات قوية مع القاهرة.

وتوج تحسن العلاقات في فبراير/شباط بالإفراج عن أربعة شبان فلسطينيين (قيل إنهم يتبعون لحركة حماس) كانوا قد اختطفوا في شمال سيناء أثناء مغادرتهم قطاع غزة عام 2015، إضافة إلى إطلاق سراح أربعة مواطنين آخرين من القطاع وعودتهم سالمين، دون الكشف عن هوياتهم.

ولذلك، تتجنب حماس الحديث عن أي خلافات لوسائل الإعلام. وبسؤال "الاستقلال" لمدير الإعلام في معبر رفح وائل عمر عن العقبات التي تضعها مصر أمام المسافرين، قال: "لا إجابة على هذا السؤال".

وفي مقال له بموقع "ميدل إيست آي" في ديسمبر/كانون الأول 2019، قال الكاتب والصحفي البريطاني المعروف، ديفيد هيرست: إن "معبر رفح يشبه صنبور المياه، أغلقه فتمارس ضغطا سياسيا على حركة حماس من خلال حرمان المرضى من الوصول إلى حيث توجد الرعاية الطبية المناسبة، وافتحه فتخفف الضغط الذي تمارسه على نزلاء هذا السجن الضخم".