تقتل المتظاهرين.. ما سر قنابل الغاز المسيلة للدموع في العراق؟

على الرغم من توقف "القناصة المجهولين" الذين تسببوا بمقتل 150 متظاهرا في الشرارة الأولى لانطلاق الاحتجاجات في العراق مطلع أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، إلا أن أعداد القتلى أخذت بالتزايد منذ استئناف قمع المتظاهرين، في 25 من الشهر ذاته، حتى مع ضمانات الحكومة.
هذه المرة، المتهم علنا هي الأجهزة الأمنية العراقية، عبر إطلاق قنابل مسيلة للدموع لم يسبق استخدامهما من قبل، لقتل المحتجين بدلا من تفريقهم، وذلك بعد أن خلصت تحقيقاتها إلى أنها تسببت في وفاة أعداد كبيرة من المتظاهرين الذين وصلوا إلى ما يزيد عن 100 شخص، في حين وصل عدد الجرحى إلى أكثر من 5500، خلال أسبوع واحد فقط.
"تخترق الجماجم"
"المفوضية العليا لحقوق الإنسان" في العراق، أعلنت أن فرقها في بغداد: رصدت أن القوات الأمنية تستخدم بشكل مفرط قنابل الغاز المسيل للدموع وترميها في وسط المناطق المزدحمة، مما يؤدي لزيادة الاصابات.
وأشارت إلى: أنه جرى إطلاق قنبلة الغاز المسيل بشكل مباشر على المتظاهرين، حيث جرى ملاحظة استقرار العبوة في الرأس والصدر ومناطق أخرى حساسة أدت الى الوفاة حالا أو بعد ذلك بفترة.
وأكدت "المفوضية": إصابة المتظاهرين بحالات حرق في الجلد نتيجة تعرضهم للغاز، حيث أكدت المفارز الطبية التطوعية المنتشرة في ساحة التحرير ببغداد وجود 50 إلى 100 حالة يوميا، العديد منها تلتهب وتتضاعف، ويشك بأن هذه الأعراض ليست ضمن أعراض الغاز المسيل للدموع بكل أنواعها (CS, CN,OC,CX,CS2,Pepper).
وأعربت عن قلقها من القنابل المسيلة للدموع التي تستخدمها القوات الأمنية وطالبت بضرورة إجراء تحقيق عن طبيعة الغاز المستخدم من قبل المختصين من وزارة الصحة والبيئة وإعلان ذلك للرأي العام.
وطالبت "المفوضية": وزارة الصحة والبيئة ببيان أعداد الضحايا من القتلى والمصابين وأسباب الوفاة والإصابة، ونوعية الأسلحة، والغازات المستخدمة واعتماد الشفافية في حق الحصول على المعلومة.
وعلى نحو مماثل، حثت منظمة "العفو" الدولية السلطات العراقية على ضمان أن تتوقف شرطة مكافحة الشغب وقوات الأمن الأخرى في بغداد على الفور عن استخدام نوعين من القنابل المسيلة للدموع، لم يسبق استخدامهما من قبل، لقتل المحتجين بدلا من تفريقهم.
وحدد خبير المنظمة العسكري أنواع قنابل الغاز المسيل للدموع المستخدمة كنوعين مختلفين من بلغاريا وصربيا، والمصممة على غرار القنابل العسكرية، ويبلغ وزنها 10 أضعاف ثقل عبوات الغاز المسيل للدموع، مما أدى إلى إصابات مروعة، ووفاة عندما أطلقت مباشرة على المحتجين.
وقالت لين معلوف، مديرة البحوث للشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية: "تشير جميع الأدلة إلى قيام قوات الأمن العراقية باستخدام هذه القنابل العسكرية ضد المحتجين في بغداد، مستهدفة، على ما يبدو، رؤوسهم أو جسدهم من مسافة قريبة وبصورة مباشرة. وكان لهذا نتائج مدمرة، في حالات متعددة اخترقت جماجم الضحايا، ما أدى إلى جروح مروعة وموت بعد أن تنغرس القنابل داخل رؤوسهم".
وأشارت إلى: أن "غياب المساءلة عن عمليات القتل والإصابات غير المشروعة على أيدي قوات الأمن، المسؤولة عن الغالبية العظمى من الإصابات في الشهر الماضي، يبعث برسالة مفادها أنه يمكنهم القتل وإحداث الإصابات دون خوف من عقاب. فيجب على السلطات كبح جماح الشرطة، وضمان إجراء تحقيقات فورية ونزيهة وفعالة، ومحاكمة المسؤولين عن تلك الانتهاكات".
وقال صاحب عربة "توك توك" خصصها منذ 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لنقل المصابين في ساحة التحرير: إن "القوات الأمنية تطلق قنابل الغاز المسيلة للدموع بشكل كثيف دون مراعاة لوجود أطفال ونساء بين المتظاهرين".
وأكد هذا الشاهد في حديث لـ"الاستقلال": أن العديد من المتظاهرين وسائقي عربات "التوك توك" أخذوا يرتدون قبعات خاصة بمهندسي البناء، وأقنعة ضد الغازات الشديدة، للتمكن من نقل المتظاهرين الجرحى.
وأشار إلى: أن القوات الأمنية تتعمد ضرب سيارات الإسعاف وإدخال القنابل الغازية إلى غرفة السيارة المخصصة لحالات الطوارئ وإنقاذ المصابين، لذلك أصبحت عربات "التوك توك" تحل محلها في انتشال المصابين والقتلى من الساحات المكتظة بالمتظاهرين، وإيصالها إلى سيارات الإسعاف.
ولفت إلى: أن "قنابل الغاز تطلقها القوات الأمنية بشكل مباشر على المتظاهرين ما يؤدي إلى إصابات خطيرة يصعب إسعافها وإنقاذ حياة المصابين، ولا سيما إذا كانت في الرأس".
وأظهرت العديد من مقاطع الفيديو، واحدا منها وثّق لحظة إطلاق عناصر الأمن لنحو 5 قنابل على شاب أعزل يحمل راية بيده، لصده عن التقدم، وسط نداءات المتظاهرين له بالهروب من تلك القنابل.
وبينت أشرطة فيديو خمسة رجال تعرضوا لإصابة حادة في الرأس بسبب القنابل على ما يبدو. ففي مقطع فيديو، جرى تصويره في 25 أكتوبر/تشرين الأول، على الجانب الشمالي الشرقي لجسر الجمهورية، يمكن رؤية محتج فاقد الوعي أو توفي، مع جرح واضح في الجزء الخلفي من جمجمته ينبعث منه الدخان أو الغاز.
أنواع القنابل
نموذجان من القنابل هما المسؤولان عن إصابات المتظاهرين العراقيين: قنابل 40 ملم من طراز "إم 99 إس" (ٍ M99s) الصربي، وقنابل 40 ملم من نوع "إل في سي إس" (LV CS)، من المحتمل أن تكون من تصنيع بلغاري.
وعلى عكس معظم قنابل الغاز المسيل للدموع التي تستخدمها قوات الشرطة في جميع أنحاء العالم، يتم تصميم هذين النوعين على غرار القنابل العسكرية الهجومية المصممة للقتال، بحسب تقارير.
وتزن قنابل الغاز المسيل للدموع النموذجية المستخدمة من قبل الشرطة والتي يبلغ قطرها 37 ملم، ما بين 25 و50 غراما، وتتكون من عدة عبوات أصغر تنفصل وتنتشر على مساحة ما.
وفي المقابل، تتألف القنابل العسكرية الصربية والبلغارية المستخدمة من قبل العسكر والتي يبلغ قطرها 40 ملم، والموثق استخدامها في بغداد، من سبيكة ثقيلة واحدة، وهي أثقل وزنا ما بين 5 و10 أضعاف، وتزن 220 إلى 250 غراما.
ونقلت "العفو" الدولية عن برايان كاستنر، كبير مستشاري برنامج الأزمات بشأن الأسلحة والعمليات العسكرية في المنظمة قوله: "يتم إطلاق كل من قنابل الشرطة والقنابل العسكرية بسرعة اندفاع مماثلة، يعني أنها تسير في الهواء بنفس السرعة، فالقنابل التي تزن 10 أضعاف القنابل الأخرى تصل قوتها 10 أضعاف عندما ترتطم بأحد المحتجين، ولهذا تسببت في مثل هذه الإصابات المروعة".
"مكافحة القنابل"
بوسائل بداية شكل عدد من الشباب المتظاهر في ساحة التحرير وسط بغداد "فرقة مكافحة القنابل الدخانية"، في محاولة للسيطرة على تلك القنابل التي تنهمر عليهم بالعشرات، موقعة مزيدا من القتلى والمصابين.
ويحاول شبان يتخذون من نفق أسفل ساحة التحرير مقرا لهم، إطفاء قنابل الغاز بعد أن يلقي بها متظاهرون آخرون إليهم، حيث يرتدي الأوائل أقنعة واقية للغازات ويستخدمون "بطانية" لإخماد مفعول القنبلة الغازية، ليهتف الجميع بعدها بصوت واحد بكلمة "جووول" تعبيرا عن فرحتهم.
ويرابط الشبان الذين لا تزيد أعداهم عن عشرة أشخاص، داخل النفق الذي أصبح خاليا من حركة مرور السيارات منذ يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ويتناوبون على ساعات النوم والاستيقاظ فيما بينهم.
أما البعض الآخر، فقد وجدوا في قفازات البستنة حلا أمثل، إذ تسمح سماكتها بالتقاط القنابل الساخنة مجددا، ورميها مباشرة باتجاه القوات الأمنية، إلا إذا كانت الفرصة متاحة لركلها.
الأكثر استعدادا بين المتظاهرين كانوا أولئك الذين يرتدون أقنعة باللون الأزرق الداكن، التي عادة ما يستخدمها الرسامون، لحماية أنفسهم من استنشاق الغاز. أما الأقل حظا من رفاق الساحة، فابتكروا آليات بدائية، من خلال قص عبوة التنك من مشروب البيبسي، وتغطية أنوفهم وأفواههم.
وتتكون الغازات المسيلة للدموع من جزئيات صلبة متناهية الصغر تتحول عند إطلاقها في الجو إلى غازات، تتسبب في إصابة متنشقيها بأعراض مختلفة، تتراوح بين السعال وذرف الدمع، وتؤدي أحيانا للإصابة بحروق أو بالعمى المؤقت، وتقود في حالات نادرة إلى تقيؤ متواصل يفضي إلى الموت.
وبالتالي، فإن غسل الوجه بالمشروبات الغازية أو عصير الليمون، والحليب، يعتبر من أهم مواد تخفيف الأعراض، ويستخدم المتظاهرون هذه التقنية منذ سنوات حول العالم.
وبدأ الكثير من العراقيين بتحميل صناديق من المشروبات الغازية في سياراتهم وقادوها إلى أقرب نقطة من التظاهرات قبل أن توقفهم القوات الأمنية. وعند تلك النقطة، يبدأون بالتلويح لرفاقهم المتظاهرين الآخرين، الذين يحملون الصناديق ويسيرون بها إلى مكان المواجهات مع شرطة مكافحة الشغب.
الحكومة تحقق
وبعد جدل كبير أثارته القنابل المسيلة للدموع، خرج رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، 3 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وأعلن تشكيل لجنة تحقيقية لمعرفة نوع القنابل.
وقال عبدالمهدي في خطاب تلفزيوني: "كلفنا لجنة تحقيقية برئاسة وزير الصحة وجهات حكومية وغير حكومية للتحقيق في أنواع المعدات المستخدمة لدى القوات الأمنية عند دفاعها عن مواقعها، خصوصا القنابل المسيلة للدموع".
وأضاف: "ما زالت التعليمات مشددة بعدم استخدام الرصاص الحي أو أية أسلحة قاتلة، وأن القوات الامنية لا تقوم بأية أعمال تعرضية أو هجومية، بل تقف موقف الدفاع أمام هجمات الخارجين على القانون سواء لاقتحام حواجز القوات الأمنية في جسري الجمهورية والسنك وغيرهما، أو في الهجوم على المقرات والمصالح الحكومية والأهلية في بغداد والمحافظات".
وأشار إلى: أن القوات الأمنية دعت الكثير من المتظاهرين والنشطاء والمنظمات للمجيء إلى صفوف الصد الأمنية لرؤية حجم الهجمات وأساليبها وأعمال العنف التي ينفذها الخارجون على القانون، كما قال.
وأسفرت المظاهرات التي تعدت بمجملها شهرا كاملا في العراق احتجاجا على تردي الأوضاع المعيشية، عن مقتل أكثر من 250 شخصا، بينهم ضحايا قتلوا بإصابات مباشرة في الرأس بقنابل الغاز، بحسب تقارير هيئات حقوقية.
وأكدت التقارير الحقوقية: وقوع إصابات بالحروق وحالات شلل مؤقت لمتظاهرين تعرضوا لقنابل الغاز التي تطلقها القوات الأمنية، وأن "وجود هكذا حالات يثير الريبة حول المادة المستخدمة في هذه الأسلحة".
المصادر
- العراق: وقوع مجموعة من الإصابات الشنيعة المميتة بسبب اختراق قنابل غاز جديدة مسيلة للدموع جماجم المحتجين
- حقوق الإنسان تدعو للتحقيق بطبيعة الغازات المستخدمة ضد المتظاهرين والالتزام بقواعد الاشتباك الآمن
- المشروبات الغازية.. سلاح العراقيين في مواجهة الغاز المسيل للدموع
- العراق.. حالات شلل بين مصابي المظاهرات وحديث عن "غاز أعصاب"
- عبد المهدي: التظاهرات دفعت السلطات إلى مراجعة مواقفها