يهدد مصر بسنين عجاف.. كيف أحيا "سد النهضة" حلم إسرائيل؟

عاد الحديث مؤخرا بشكل كبير عن أزمة سد النهضة بعد إعلان نظام السيسي وصول المفاوضات مع الجانب الإثيوبي إلى طريق مسدود، وتنوعت اتجاهات المحللين والمراقبين بين منتقد للجهود الدبلوماسية وتراخي الجانب المصري في صياغة حل ناجع لا يضر فعليا بالأمن القومي للبلاد.
مراقبون اتهموا السيسي شخصيا بتعمد وصول الأمور إلى هذا الحد، ليتمكن من تنفيذ أحلام قديمة راودت إسرائيل في الحصول على نصيب من مياه النيل بغية إحياء صحراء النقب واستخدامها في استزراع محاصيل قومية مثل الأرز والقمح.
يأتي ذلك بعد أن نشر موقع "موقع ميدل إيست أوبزرفر" البريطاني" تقريرا في نوفمبر / تشرين الثاني 2016، كشف فيه بالصور كيف أن السلطات المصرية بقيادة السيسي تعمل على إنشاء 6 أنفاق في شبه جزيرة سيناء لإيصال مياه النيل إلى الاحتلال الإسرائيلي.
في المقابل، ارتفعت الأصوات بخطورة تنفيذ سد النهضة (بشروطه الحالية) على الأمن القومي المصري، ليس بسبب وصول المياه لتل أبيب عبر سحارات سرابيوم وترعة السلام فحسب بل من أجل إمكانية حدوث طوفان عظيم قد يغرق مصر والسودان.
زمزم الجديدة
خلال المفاوضات المصرية الإسرائيلية التالية لمبادرة السادات إلى القدس عام 1977، تقدم نائب مدير هيئة مياه إسرائيل، شاؤول أولوزوروف، بمشروع "يؤر" إلى الرئيس الراحل أنور السادات لنقل مياه النيل إلى إسرائيل، عبر شق 6 قنوات تحت قناة السويس.
وكان من المخطط أن ينقل عبر هذا المشروع مليار متر مكعب من المياه سنويا، لري صحراء النقب، تشمل 150 مليون متر مكعب لقطاع غزة، وفق عمر فضل الله، في كتابه "حرب المياه على ضفاف النيل، حلم يتحقق".
عرض السادات تنفيذ مشروع أورلوزوروف أثار حفيظة الرئيس الإثيوبي الأسبق منجستو هايلي مريم، الذي أصر على أحقية مناطق فقيرة في حوض النيل الأزرق أكثر من حاجة إسرائيل لمياه النيل، ولم يكن لإثيوبيا في ذلك الوقت أية خطط محددة لإنشاء أي سدود على النهر.
في 16 يناير / كانون الثاني 1979، نشرت مجلة أكتوبر الأسبوعية نص خطاب أرسله السادات إلى مناحم بيغن رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، قال فيه: "حيث أننا شرعنا في حل شامل للمشكلة الفلسطينية، فسوف نجعل مياه النيل مساهمة من الشعب المصري باسم ملايين المسلمين كرمز خالد وباق على اتفاق السلام، وسوف تصبح هذه المياه بمثابة مياه زمزم لكل المؤمنين أصحاب الرسالات السماوية في القدس ودليلا على أنّنا رعاة سلام ورخاء لكافة البشر".
خطة السادات واجهت ردود فعل عنيفة على المستويين المحلي والدولي، إذ رفضت الأحزاب السياسية في مصر هذا الأمر، ودفعت باتجاه إيقافه بأي شكل، إضافة إلى رفض الجانب السوداني هذا المخطط، ممثلا في رد فعل جعفر نميري رئيس السودان الأسبق، وفق مهيرة السباعي في كتابها "القضايا الإفريقية، المنظور الإعلامي.. الأزمات.. المعالجة".
مشروع ميت
بعد أن توقف مشروع السلام بعد اغتيال السادات في أكتوبر / تشرين الأول 1981، بقي المشروع طي الدفن إلى أن أحياه الرئيس المخلوع مبارك بعد محاولة اغتياله في إثيوبيا عام 1995، بعد عام واحد من فشل المحاولات الإسرائيلية في استيراد الماء من تركيا بسبب ارتفاع التكلفة.
تم إطلاق مشروع تنمية شمال سيناء تحت شعار التنمية والتوسع العمراني لاستصلاح واستزراع 620 ألف فدان على مياه ترعة السلام وامتدادها في ترعة الشيخ جابر الصباح، بنحو 4.45 مليار متر مكعب من المياه المخلوطة بين مياه النيل العذبة ومياه الصرف الزراعي، وفق موقع المعرفة.
استمر العمل في المشروع على 3 مراحل حتى توقف عند آخر مرحلة عام 2010، بدعوى الحاجة لتمويل كبير لمد المياه حتى منطقة "السر والقوارير" في وسط سيناء، إضافة إلى خروج المشروع عن هدفه الحقيقي، وامتداد آثاره نحو إحداث نهضة عمرانية كبيرة في سيناء.
سحارات القناة
في عام 1974 طرح المهندس الإسرائيلي اليشع كالي تخطيطا لمشروع يقضي بنقل مياه النيل إلى إسرائيل، تحت عنوان "مياه السلام" يتلخص في توسيع ترعة الإسماعيلية لزيادة تدفق المياه فيها، وتنقل هذه المياه عن طريق سحارة أسفل قناة السويس، وكتبت صحيفة معاريف الإسرائيلية في سبتمبر / أيلول 1978 تقريرا بأن هذا المشروع ليس طائشا، لأن الظروف أصبحت مهيأة بعد اتفاقيات السلام لتنفيذه، وفق موقع سودارس.
يبدو أن المشروع ينفذ بالفعل في عهد السيسي، حيث تم الانتهاء من أولى سحارات سرابيوم بالتزامن مع الانتهاء من مشروع تفريعة قناة السويس، بذات المواصفات التي حددها هرتزل في مشروعه الذي جمده الإنجليز عام 1903.
تقع سحارة سرابيوم تحت تفريعة قناة السويس على عمق 60 مترا تحت الأرض، بطول 425 مترا لنقل مياه النيل إلى سيناء، شمل العمل فيها تمرير عدد 4 مواسير بقطر 4 أمتار، تستهدف ري واستصلاح 100 ألف فدان شرق القناة.
أمر واقع
في فيديو منشور على صفحته، يؤكد الإعلامي مصطفى عاشور، أن الجهات السيادية في مصر كانت تعلم مدى خطورة سد النهضة على الأمن القومي المصري منذ فترة طويلة، خصوصا بعد أن نشرت اللجنة الوطنية التي شكلت لدارسة الموضوع، تقريرا يؤكد الآثار المدمرة لهذا السد.
ويشير عاشور إلى تقاعس الجهات السيادية والمسؤول عنها السيسي نفسه، حتى من قبل توليه الحكم، مؤكدا أن تصرفات الحكومة المصرية تنبئ عن تراخ متعمد لإنهاء السد ووضع المصريين أمام أمر واقع لا بد منه.
إضاعة الوقت دون الحديث عن الأهم والمرتبط بمصالح المصريين الذي تؤكده دراسات مصرية وأجنبية، يقود إلى فرضية وجود تفاهمات مصرية إثيوبية سودانية حول التسليم بالسد، وتهيئة الشعب المصري لقبول الأمر، مما يعيد إلى الأذهان ما نشر مسربا للسياسي الإسرائيلي شيمون بيريز، بشأن هذا الملف.
وأكد بيريز أنه طلب من الحكومة المصرية وقتها عدم خوض صراع عسكري مع إثيوبيا، على أن تقدم الأفكار الإسرائيلية المتخصصة في المياه والزراعة لمصر، والتي قال عنها إن تجعل من قطرة المياه 4 أضعاف.
نظرة شمولية
وفق خبراء، يواجه الشعب المصري تحديين اثنين لم يسبق لهما مثيل، يتمثل أحدهما في (سد النهضة) الذي يفرضه الإعلام المصري على الجماهير، لكن التحدي الآخر الذي يجب الالتفات إليه أيضا فهو تحدي (أشقاء سد النهضة).
أستاذ هندسة السدود بجامعة يونتين بماليزيا محمد حافظ، قال لـ "الاستقلال": التحدي الأول وهو السد، يمثل خرابا على المدى القصير القريب، حيث سيتم ملء بحيرة سد النهضة بقرابة 74 مليار متر مكعب على مدار 3 سنوات، يضاف إليها قرابة 30 مليار متر مكعب تمثل حجم الفواقد في الشقوق الجيولوجية والتبخر بمنطقة السد على مدار سنوات الملء.
وبناء عليه، يقول حافظ: إن إجمالي ما سيتم حجزه خلال تلك الفترة يعادل 104 مليار متر مكعب، وتلك هي المصيبة الأولى والتي سينتج عنها نقص حاد في حجم المياه الواردة لبحير ناصر في تلك الفترة.
ويضيف حافظ: "من الناحية النظرية البحتة فإن ما يصل لبحيرة ناصر سنويا يمثل قرابة 84 مليار متر مكعب، منها 48 مليار متر مكعب قادمة من النيل الأزرق، يضاف إليها 11 مليار متر مكعب من نهر السوباط، و12 مليار متر مكعب من نهر عطبرة، و13 مليار متر مكعب من النيل الأبيض".
تفيد لك الأرقام أن ما يصل لبحيرة ناصر من النيل الأزرق فقط يعادل 57 % من إجمالي تدفقات النيل الموحد ببحيرة ناصر، ويتبخر منها قرابة 10 مليار متر مكعب سنويا، تاركا قرابة 74 مليار مكعب تقسم بين مصر بواقع 55.5 مليار متر مكعب، وبين السودان بواقع 18.5 مليار متر مكعب، وفقا لاتفاقية 1959.
وبناء على ما سبق، يؤكد حافظ أيضا، أنه بمجرد الموافقة على التخزين خلال فترة لا تزيد عن 3 سنوات حسب المخطط الإثيوبي، فإن ذلك يعني انخفاض تدفقات النيل الأزرق من 48 مليار متر مكعب إلى 14 مليار متر مكعب فقط، وسوف تصرفهم توربينات سد النهضة على مدار العام لتصل إلى السودان.
تحديات مروعة
هنا تقع مصر في "المطب السوداني" وفق حافظ، إذ أن تدفق مياه النيل الأزرق بشكل منتظم قبل وبعد موقع سد الرصيرص سوف يساهم كثيرا في رفع كفاءة السد وإنتاج المزيد من الكهرباء، بالإضافة لإتاحة فرصة ذهبية للسودانيين بالاستفادة من المياه البسيطة المنتظمة التي تجري أمام أعينهم في استخدامها لري الأراضي الزراعية المستصلحة بشرق السودان والتي تنتظر تشغيل سد النهضة على أحر من الجمر، حسب تعبيره.
تلك الأراضي التي ستتحول من نظام الري الموسمي إلى نظام الري الدائم، الذي يمكن أصحابها من زراعة الأرض لثلاثة مواسم بدلا عن موسم واحد فقط كما هو الحال اليوم، وفي ظل ضعف سيطرة الحكومة الفيدرالية في السودان على مناطق شرق السودان، فإن احتمالية السماح بوصول قطرة مياه واحدة من النيل الأزرق لبحير ناصر، مشكوك فيها كثيرا في ظل إعلان وزير السوداني عن بدء النهضة الزراعية السودانية.
ويدلل حافظ على ذلك، باستحواذ بعض دول الخليج وتركيا والصين على أكثر من 4 مليون فدان بشرق السودان، إذ سيحمل كل ذلك مستقبلا رائعا للدولة في مجال جذب مستثمرين أجانب لزراعة تلك الأراضي مستخدمين حصة مصر المفقودة من نهر النيل الأزرق.
سيناريو حزين رسمه حافظ، بقوله: "من الصعب جدا القول بأن النيل الأزرق سوف يستمر في تدفقه للدولة المصرية أثناء فترة التخزين، ولن يصل منه لبحيرة ناصر أي قطرة دون إذن من المزارعين بولاية النيل الأزرق شرق السودان".
وعليه فلابد للحكومة المصرية والشعب نسيان ما يعرف باتفاقية 1959 التي تقسم المياه بين مصر والسودان، لانتهاء أسبابها الفنية، حيث كانت مبنية على فكرة عدم قدرة السدود السودانية على السيطرة على فيضان النيل الأزرق خلال فصل الصيف، ولذلك وافقت السودان وقتها على إيداع حصتها في حصالة (بحيرة ناصر)، لكنه وبعد انتظام النيل الأزرق وانتهاء ظاهرة (فيضان النيل) فلا معنى فنيا لتلك الاتفاقية.
آثار مدمرة
الباحث في الشؤون الأمنية أحمد مولانا قال لـ "الاستقلال": "الكتلة السكانية في مصر تتركز في 8 % من مساحتها منذ آلاف السنين، ومع النمو السكاني صار هناك ضغط وإجهاد على الأراضي الزراعية لتلبية احتياجات السكان. القطاع الزراعي في مصر يمثل 20 % من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر فرص عمل لـ 32 % من إجمالي قوى العمل".
ويضيف: "استهلاك مصر يقدر بحوالي 85 % من حصتها المائية في الزراعة، ومن ثم فإن تقليص حصة مصر من المياه، ستكون له آثار مروعة على الري والزراعة وفرص العمل، وهو ما قد يدمر الأمن الغذائي للمصريين".
ويعود أستاذ السدود بجامعة يونتين بماليزيا محمد حافظ، ليؤكد أنه في حال استكمال سد النهضة وتنفيذ الخطة الإثيوبية في توزيع المياه، فإن ذلك: "سيسبب آثارا مدمرة ، تتلخص في حرمان مصر من كامل تدفق النيل الأزرق، إضافة إلى تبوير ما يقرب من 5 مليون فدان، وارتفاع فاتورة استيراد الغذاء، وتمليح معظم أراضي شمال الدلتا بسبب غزو مياه البحر لها".
يضاف إلى ذلك ارتفاع الحموضة في مياه النيل وقتل الأسماك، وزيادة معدلات البطالة بشكل كبير جدا مع زيادة معدلات الإجرام، وزيادة معدلات الهجرة من الريف إلى المدن، وسوف تتحول بحيرة ناصر إلى بركة مياه لا تكفي لتوليد الكهرباء بالسد العالي، حسب حافظ.
ويضيف حافظ: "سيطرة إثيوبيا بشكل كامل على مياه النيل، يعد إفقارا متعمدا للدولة المصرية مقابل إثراء دولة السودان وإثيوبيا على حساب الحصة المصرية، كما يتوقع أن تعلن الأخيرة بالتعاون مع إسرائيل فكرة إنشاء بنك دولي لتصدير المياه لمصر. الخطر الأكبر يتمثل في عملية تفتيت الدولة المصرية على نسق الدولة السودانية التي تم تقسيمها إلى دولتين، بعد حروب طاحنة".