وفاة السبسي.. ما تأثيرها على المشهد السياسي في تونس؟

صبيحة الخميس 25 يوليو/ تموز 2019 أعلنت رئاسة الجمهورية التونسية خبر وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي عن عمر يناهز 93 عاما، قضّى الجزء الكبير منها في أروقة الحكم في البلاد.
وفاة الرئيس التونسي قبيل الانتخابات التشريعية المقررة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، والرئاسية المزمع تنظيمها يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، تفرض على التونسيين تعديلا في رزنامتها (أجندتها)، بعد ضمان الانتقال المؤقت في السلطة.
بعد ساعات قليلة من إعلان وفاة الرئيس السبسي رسميا، اجتمع رئيس الحكومة يوسف الشاهد برئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر للتباحث في ترتيبات الانتقال في السلطة.
وإثر هذا الاجتماع خرج الناصر بكلمة متلفزة توجّه فيها للشعب التونسي مترحما على الرئيس السبسي، ومشيدا بخصاله، وقال: "أريد أن أؤكّد أن الدولة ستستمر وحسب الدستور التونسي، فإن رئيس مجلس نواب الشعب سيتولى منصب رئيس الجمهورية"، داعيا الشعب التونسي إلى مزيد الوحدة والتكاتف.
الانتقال السريع
نص الفصل 85 من الدستور يقول: "إذا تجاوز الشغور الوقتي مدة الستين يوما، أو في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته كتابة إلى رئيس المحكمة الدستورية، أو في حالة الوفاة، أو العجز الدائم، أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي، تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتقر الشغور النهائي، وتبلغ ذلك إلى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه 45 يوما وأقصاه 90 يوما".
وأكّد مجلس نواب الشعب في اجتماع الخميس 25 يوليو/ تموز 2019 "تمسكه بتطبيق مبادئ الدستور وتكريس قيم الجمهورية والاستعداد التام للعمل على ضمان استمرارية الدولة ومواصلة مسار البناء الديمقراطي".
ونعى البرلمان في بيانه "بكل خشوع وإجلال رئيس الجمهورية محمد الباجي قائد السبسي"، مذكرا بأنّ "الرئيس سخّر كامل حياته لخدمة هذا الوطن بكل تفان وإخلاص وساهم في مسار البناء في كل المراحل التي مرّت بها البلاد".
دعوة البرلمان للانعقاد من أجل تأدية الرئيس المؤقت محمد الناصر لليمين الدستورية رئيسا للبلاد، سبقها لقاء جمع بين الناصر ورئيس الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين الطيب راشد، وعلى ضوئه يتم الإعلان عن موعد جديد للانتخابات الرئاسية.
وحسب مقتضيات الدستور التونسي الذي تم سنّه في 25 يناير/كانون الثاني 2014، فإن القائم بمهام رئيس الجمهورية، يمارس خلال الشغور الوقتي أو النهائي، المهام الرئاسية. ولا يحق له المبادرة باقتراح تعديل الدستور، أو اللجوء إلى الاستفتاء، أو حل مجلس نواب الشعب. وخلال المدة الرئاسية الوقتية يُنتخب رئيس جمهورية جديد لمدة رئاسية كاملة، كما لا يمكن تقديم لائحة لوم ضدّ الحكومة".
من جهته قال نائب رئيس مجلس النواب عبد الفتاح مورو في تصريح لإذاعة "الجوهرة إف إم": "مكتب المجلس يستعد لعقد اجتماع للنظر في ما ينص عليه الدستور والنظام الداخلي للنواب في صورة الشغور بعد وفاة رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي".
وأكد أن "ترسانة القوانين تضمن الانتقال السلمي والديمقراطي وتطبيقها"، مشيرا إلى الفصل 52 من النظام الداخلي حول الشغور الوقتي، مؤكدا أنه سيبقى نائب رئيس المجلس وسيقوم بمهام رئيس المجلس بالنيابة عنه .
مواعيد الانتخابات
في 5 يوليو/تموز وقّع الرئيس الراحل على دعوة الناخبين للانتخابات التشريعية والرئاسية، حسب ما أقرت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 لاختيار رئيس جديد للبلاد.
إلا أن الآجال الدستورية التي تنص على تولي رئيس مجلس النواب مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه 45 يوما وأقصاه 90 يوما، وخلال هذه المدة يُنتخب رئيس جمهورية جديد لمدة رئاسية كاملة، وهو ما يفرض على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تعديل مواعيد الانتخابات بما لا تتجاوز 24 أكتوبر المقبل.
وأكّد رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات نبيل بفون أنّ الهيئة ملزمة بتغيير موعد الإنتخابات الرئاسية وتعديل موعدها بعد وفاة السبسي احتراما لما جاء في نص الدستور بخصوص شغور منصب رئيس الجمهورية.
وأوضح بفون في تصريح لإذاعة "موزاييك" أنّ الدستور يفرض إنجاز الانتخابات الرئاسية في غضون 90 يوما على أقصى تقدير، مشيرا إلى أنّ مجلس هيئة الانتخابات سيجتمع للتداول في هذا الخصوص.
وأضاف: "نحن مطالبون أن نجري الانتخابات الرّئاسية في ظرف 90 يوما، وهذا يفرض تقديم موعدها".
وقال المقرر العام للدستور والنائب في مجلس نواب الشعب عن حركة النهضة الحبيب خضر في تصريح لإذاعة اكسبريس: إنّه "في صورة وقوع تزاحم بين إجراءات الانتخابات التشريعية والرئاسية يمكن تغيير موعد الانتخابات التشريعية، وإذا تعارض تنظيمها فالأولوية للانتخابات الرئاسية في إطار احترام الإجراءات الدستورية".
وأضاف خضر: "من أجل استكمال العملية الانتخابية في آجالها يمكن ضغط المواعيد لاختصار الآجال حيث ستكون الحملة الانتخابية 12 يوما فقط، وكذلك تختصر فترة تقديم الطعون".
السبسي الراحل
ولد السبسي في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1926 بضاحية سيدي بوسعيد شمالي العاصمة التونسية، وهو من أحفاد أحد المماليك الوافدين من جزيرة سردينيا (الإيطالية حاليا)، الذي كان مكلفا بتنظيم طقوس تدخين التبغ لباي تونس حينها، وحاز الرجل ثقة حاشية الباي، وتزوج إحدى قريباته، وصار من أعيان البلاد.
لم يكن السبسي، بعيدا عن الحركة الوطنية التونسية إبان الاستعمار الفرنسي (1881 ـ 1956)، حيث انخرط في الحزب "الحر الدستوري التونسي" حين كان في الـ 15 من عمره.
وللسبسي بنتان وولدان، أبرزهما حافظ، الذي يقود حزب "نداء تونس" الذي أسسه الأب في يونيو/ حزيران 2012.
ومنذ فجر الاستقلال، وتحديدا في أبريل/ نيسان 1956، أصبح السبسي موظفا ساميا مكلفا بالشؤون الاجتماعية، في ديوان الحبيب بورقيبة، الذي كان حينها يتقلد منصب رئيس وزراء أول حكومة تونسية.
وطوال العهد "البورقيبي"، تقلد السبسي عدة مهام سامية (1956 ـ 1987)، حيث عيّن مديرا للأمن في يناير/ كانون الثاني 1963، إثر محاولة انقلابية فاشلة حاول تنفيذها بعض معارضي بورقيبة في ديسمبر/ كانون الأول 1962.
وفي 1969، شغل مهام وزير الدفاع، فسفيرا لدى فرنسا عام 1970، ثم وزيرا للخارجية عام 1981.
ولم يبتعد السبسي، المحسوب على "البلْدية" (أرستقراطية العاصمة الذين تنحدر منهم وسيلة بن عمار زوجة بورقيبة)، عن المهام السامية لأكثر من 5 سنوات، حين طرده بورقيبة من الحزب عام 1974، بسبب "خلافات حول دمقرطة الحزب من الداخل"، ولم يعف عنه حتى عام 1979.
ومع صعود زين العابدين بن علي للسلطة، لم يشغل السبسي مناصب هامة سوى رئاسة مجلس النواب (البرلمان)، في الفترة من 1989 إلى 1991.
غير أن السبسي لم يغادر الحزب الذي أصبح مع وصول بن علي للسلطة، يسمى "التجمع الدستوري الديمقراطي"، بدلا من "الحزب الاشتراكي الدستوري"، حيث حافظ السبسي على عضويته، وكان في لجنته المركزية حتى 2003.
قبل 14 يناير/كانون الثاني 2011، تاريخ هروب بن علي من تونس وسقوط نظامه، لم يكن السبسي، الذي اقتصر نشاطه منذ 1991 على الاهتمام بشؤون مكتب محاماته الكبير بالعاصمة التونسية، يحلم بالعودة إلى أروقة قصر الحكومة، ومنها إلى قصر قرطاج.
ومع إصرار المعتصمين بمحيط قصر الحكومة، في فبراير/ شباط 2011، على استقالة رئيس الحكومة حينها، محمد الغنوشي، دعا الرئيس المؤقت الناطق الإعلامي في وزارة التربية والتعليم، وهو رفيق السبسي في الحكم منذ خمسينيات القرن، الباجي قايد السبسي، إلى ترؤس حكومة مؤقتة تمهيدا لانتخابات مجلس تأسيسي يكتب دستورا جديدا للبلاد.
في يونيو 2012، أسس السبسي حزب "نداء تونس" الذي جمع الرافضين لحكم "الترويكا" (نسبة للثلاثي الحاكم: حركة النهضة، وحزبي المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل).
وضم حزب السبسي، يساريين قدامى ونقابيين ومنتسبين إلى حزب التجمع المنحل، من أجل الدفاع عن "المشروع الحداثي"، حتى أن جزءا هاما من قيادة حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي، وريث الحزب الشيوعي التونسي، انسلخوا من حزبهم ليساهموا في تأسيس "نداء تونس".
وفي طريقه نحو الحكم، نسج السبسي، الخبير بالساحة السياسية التونسية وتناقضاتها، علاقات وتحالفات علنية وسرية، تمهيدا لمساره نحو قصر الرئاسة في 2014.
الرئيس الجديد
إثر الانتخابات التشريعية التي فازت بها حركة "نداء تونس" حزب الرئيس الراحل، انتخب محمد الناصر والبالغ من العمر 85 عاما، رئيسا للبرلمان التونسي في أول اجتماع للمجلس الجديد الذي يعتبر أول مجلس نواب منتخب ديمقراطيا في تاريخ تونس.
وشغل الناصر منذ تأسيس نداء تونس في العام 2012 منصب نائب رئيس الحزب، وذلك لما عرف عن قربه من السبسي، كما شغل عدة حقائب وزارية في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة إضافة إلى عمله في الأمم المتحدة، حيث تولى الناصر أيضا مهمة مندوب تونس الدائم لدى الأمم المتحدة أثناء حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي.
واضطلع الناصر بدور سياسي صلب في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، حزب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، بعد اضطلاعه بمهام قيادية في الحزب الدستوري منذ ستينات القرن الماضي.
وبعد ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 التي أطاحت بنظام بن علي، تم تعيينه وزيرا للشؤون الاجتماعية في حكومة السبسي التي قادت تونس من نهاية فبراير/شباط 2011 وحتى ديسمبر/كانون الأول 2011، مرورا بتنظيم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.