تشكيك من الداخل.. خطة البابا لإنهاء حروب جنوب السودان

محمد العربي | منذ ٦ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم يجد البابا فرنسيس بابا الفاتيكان حلا لإحراج قادة دولة جنوب السودان المتحاربين، سوى تقبيل أقدامهم من أجل عدم العودة مرة أخرى للحرب الأهلية التي تشهدها الدولة الحديثة منذ الانفصال عن الدولة الأم السودان، بعد الاستفتاء على حق تقرير المصير الذي جرى في  يناير/ كانون الثاني 2011.

بابا الفاتيكان الذي عقد خلوة غير مسبوقة لأطراف النزاع الجنوبي، استمر في وعظهم والصلاة من أجلهم لمدة 24 ساعة متصلة، لحثهم في النهاية على تشكيل حكومة موحدة تنهي سنوات من العنف والحرب الأهلية، التي خلفت 400 ألف قتيل، وأكثر من أربعة ملايين نازح، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات عن سبب هذا التحرك غير المسبوق من أعلى سلطة دينية للمسيحيين الكاثوليك على مستوى العالم، وهي نفس الطائفة التي ينتمي إليها مسيحيو جنوب السودان.

تقبيل البابا فجر تساؤلات أخرى عن الدور الذي لعبه الفاتيكان من خلال مجلس الكنائس العالمي، في انفصال الجنوب عن الدولة الأم، بهدف صناعة دولة مسيحية تتصدي للمد الإسلامي داخل القارة السمراء، كما أنه يثير تساؤلات أخرى عن تحرك البابا في هذا التوقيت تحديدا والذي ارتبط بسقوط نظام البشير في السودان، ولماذا لم يتخذ نفس الخطوة قبل ذلك بعدة سنوات في ظل اشتعال الحرب الأهلية بين شركاء سلاح الانفصال؟

أهمية البابا الروحية

حسب آخر إحصاء للأمم المتحدة عن التركيبة الدينية لسكان جنوب السودان أجرته عام 1983، فإن الجنوب يتكون من ثلاثة اتجاهات رئيسة، وهم المسيحيين الكاثوليك بنسبة 35 بالمئة والمسلمين بنسبة 27 بالمئة واللادينيين الذين يمثلون باقي النسبة، وفي كثير من الأحيان يتم استغلال نسبتهم لصالح نسبة المسيحيين؛ لإثبات أنهم الأغلبية بين عدد السكان.

وقد اعتمد هذا الإحصاء على تقارير لمجلس الكنائس العالمي، الذي لعب دورا كبيرا في جنوب السودان منذ عام 1898، عندما دفع الاحتلال البريطاني لإصدار قانون المناطق الأفريقية المغلقة، وهو القانون الذي منع دخول العرب والمسلمين لمناطق الجنوب، في إطار التمهيد لتخليق دولة خاصة بالمسيحيين بجنوب السودان.

وفي مقابل الإحصاء الأممي، فإن مجلس العلاقات الإسلامية بجنوب السودان شكك في هذه النسب، مؤكدا أن إحصاء الاحتلال البريطاني عام 1958 أكد أن المسلمين يمثلون 18 بالمئة، والمسيحيين يمثلون 17 بالمئة وباقي النسبة 65 بالمئة يمثلها اللادينيين، مؤكدين أنه مع تطور الحياة الدينية والاجتماعية، داخل الجنوب تحولت النسبة إلى 35 بالمئة مسلمين، و30 بالمئة مسيحيين، وباقي النسبة من اللادينيين.

وحسب الدراسات التي تناولت أسباب انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم، فإن "الحركة الشعبية لتحرير السودان" التي شكلها الزعيم الجنوبي المنشق جون قرنق، رفضت الاعتراف بهذا الإحصاء وأصرت على إحصاء 1983 الذي منح المسيحيين النسبة الأكبر من حيث عدد السكان.

وتشير دراسة وافية عن أسباب انفصال جنوب السودان، إلى أن مجلس الكنائس العالمي لعب دورا كبيرا في عمليات التبشير بالجنوب، مستغلا حالة الفقر والحاجة للسكان هناك، وقد استخدم المجلس من خلال كنائسه بالجنوب، والتي وصلت إلى 500 كنيسة وإرسالية، كل الأساليب من أجل جذب أهل الجنوب إليها، وقد وضعت في كثير من الأوقات شروطا لتوزيع معوناتها التي كان من أبرزها تقدمها لكل المسيحيين بمختلف أعمارهم، بينما تقدم إلى غيرهم من المسلمين والوثنيين للأطفال والنساء فقط، ما دفع المسلمين والوثنيين لتسمية أنفسهم وأبنائهم بأسماء مسيحية للحصول على معونات الكنائس التي كانت تتخذ من إثيوبيا قاعدة لانطلاقها في الجنوب.

كما لعب مجلس الكنائس العالمي، أدورا متعددة لتأجيج الخلافات بين الشمال والجنوب السوداني، ودعم حركات التمرد المستمرة هناك؛ حيث اتهم بعض الكتّاب والسياسيين السودانيين الكنيسة الكاثوليكية في محافظة الاستوائية بأنها كانت وراء بداية حركة التمرد عام 1955.

ولمجلس الكنائس تاريخ طويل لتقليب الرأي العام على السودان بحجة حماية الأقليات، وتحديدا منذ بدأ التنسيق بين مجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس في عموم أفريقيا 1971، وتحت رعاية الهيئتين تم اتفاق أديس أبابا في فبراير/شباط 1972، بين المتمردين وحكومة الخرطوم، والذي تم بمقتضاه منح الجنوب حق الحكم الذاتي.

هل ينجح تقبيل الأقدام؟

الإجابة عن السؤال السابق، وهو عن مدى نجاح خطوة بابا الفاتيكان في إنهاء النزاع بين الحكومة الجنوبية بقيادة سيلفا كير مارديت، وزعيم المعارضين رياك مشار، قدمها مشار نفسه والذي كان نائبا لكير في بداية الانفصال ورئيسا للحكومة وأمينا عاما للحزب الحاكم، حتى بدأ النزاع بين الطرفين عام 2014.

واللافت في إجابة مشار الصادمة التي خالفت نداءات البابا، أنها جاءت بعد ساعات من تقبيل أقدام قادة النزاع الجنوبي، حيث نقلت وكالة "رويترز" تأكيدات لمشار عن وجود صعوبة في التوصل لتشكيل حكومة موحدة تنهي الانفصال وفقا للمدة التي حددها اتفاق الخرطوم الذي جري قبل عدة أشهر برعاية الرئيس السوداني السابق عمر البشير، مؤكدا أنه لا يعتقد أنه من الممكن لزعماء البلاد المنقسمين، الوفاء بمهلة 12 مايو/ أيار المقبل لتشكيل حكومة وحدة وطنية.

وعاد مشار الذي من المقرر أن يعود لمنصبه السابق كنائب أول للرئيس في الحكومة المرتقبة، ليؤكد أن تشكيل الحكومة ربما يحتاج لمدة إضافية تصل إلى 6 أشهر أخرى من أجل توحيد قوات الدفاع ونشرها، ونزع السلاح في العاصمة جوبا ومراكز سكانية أخرى والاتفاق على تفويض السلطة والإفراج عن السجناء السياسيين، مؤكدا أنه ناقش التمديد مع الرئيس سلفا كير أثناء الخلوة الروحية في الفاتيكان.

وعبّر خلال تصريحاته لـ"رويترز" عن ثقته من أن تظل القيادة العسكرية الجديدة بالخرطوم، ضامنة لاتفاق السلام الذي تم توقيعه قبل عدة أشهر، والذي وصفه كذلك بالهش.

وأرجع مشار سبب مطالبته بتأجيل الاتفاق على تشكيل الحكومة الموحدة قائلا: "لدينا لاجئون لن يعودوا إذا لم يشعروا بالأمن، ولدينا نازحون في العاصمة ومدن كبيرة أخرى لن يعودوا إلى ديارهم التي تركوها قبل خمس سنوات ونصف بسبب المشكلات الأمنية، لذلك يتعين علينا أن نؤسس ما يكفي (من قوات الأمن) من القوتين لكي تتولد لدى شعبنا الثقة في أن هذا الاتفاق سيصمد. لذلك فإن من غير المرجح أن نشكل الحكومة بحلول 12 مايو/ أيار".

بين أديس أبابا والخرطوم

ووفق الاتفاق الذي رعته الخرطوم وأديس أبابا، في يونيو/ حزيران 2018، فإنه سوف يتم تقاسم السلطة، بتعيين خمسة نواب لرئيس الجمهورية الجنوبي، يكون في مقدمهم رياك مشار، الذي يتولى منصب النائب الأول، بينما يبقى تعبان دينق، وجيمس واني ايقا، في منصبيهما كنواب حاليين، يضاف إليهما نائبان آخران، واحدٌ من قائمة الأحزاب المعارضة، والنائب الخامس تمثله سيدة.

ونصّ الاتفاق على أن يكون عدد وزارات الحكومة 35 وزارة، تمنح منها 18 وزارة  للحركة الشعبية التي يتزعمها الرئيس سلفاكير، بينما تنال مجموعة مشار 10 وزارات، وتوزع بقية المقاعد الوزارية على الأحزاب الأخرى، على أن يتكون البرلمان القومي من 550 نائبا، يقسمون بنسبة 55 في المئة للحكومة، و25 في المئة لمجموعة مشار، و20 في المئة للأحزاب الأخرى.

وحسب تحليلات مختلفة فإن اتفاق الخرطوم لم يكن الأول بين الجانبين، ولن يكون الأخير أيضا، متوقعين ألا تدخل بنوده التي تم الاتفاق عليها حيز التنفيذ، وهو السبب الذي دفع بابا الفاتيكان لخطوته غير المسبوقة بتقبيل أقدام قادة الجنوب من أجل وقف الاقتتال لعدم القضاء على التجربة المسيحية الوليدة.

وتعتمد هذه التحليلات على أن الخلاف والاقتتال لم يكن بسبب الدين، وإنما بسبب الخلاف القبلي، حيث ينتمي سيلفا كير لقبيلة الدينكا المتحكمة في مفاصل الحركة الشعبية منذ بدأ الصدام بين الإقليم والحكومة المركزية، قبل سنوات من الانفصال، وهي نفسها القبيلة التي كان ينتمي إليها الزعيم الجنوبي الراحل جون قرنق، وهي القبيلة التي تسيطر على حقول النفط في منطقة أبيي الشمالية.

وفي المقابل تأتي قبيلة النوير التي تحتل المركز الثاني في القوة والنفوذ والسيطرة بعد الدينكا، إلا أن ما يميز القبيلتين، أن الدينكا يغلب على مكونها الديني المسيحيين، بينما تحتوي النوير عددا كبيرا من المسلمين، وهو ما يبرر نزوح ما لا يقل عن مليوني مسلم من إقليم بحر الغزال ذي الأغلبية المسلمة، والذي ينتمي معظمه لقبائل النوير، التي ينتمي إليها رياك مشار وعدد آخر من قادة المعارضة.

الضغوط الدولية

وتشير تحليلات متعددة إلى أن كلمة السر في وقف الاقتتال سيكون من خلال ورقة المنح والمساعدات الدولية التي تتلقاها دولة الجنوب وتعيش عليها، منذ الانفصال في 2011، وهي الورقة نفسها التي دفعتهم للتوصل إلى اتفاقي أديس أبابا والخرطوم في يونيو/ حزيران 2018.

وحسب تصريحات لـ"كليم ريان" المنسق السابق للجنة الخبراء المعنية بجنوب السودان التابعة لمجلس الأمن الدولي، نقلتها عنه وكالة "رويترز"، فإن السلام في جنوب السودان لن يتحقق إلا في ظل الضغط الدولي الخارجي على زعماء وقادة الجنوب السوداني. وما يدعم رؤية كليم ريان، أن الولايات المتحدة التي تعد أكبر الممولين لحكومة الجنوب، أعلنت بالفعل في سبتمر 2018 أنها سوف تتوقف عن تمويل اتفاقيات السلام طالما يتم انتهاكها مرارا وتكرارا من قبل الأطراف المتنازعة في جنوب السودان، وشدَّدت على ضرورة أن تظهر الأطراف التزاما حقيقيا بإنهاء العنف.

كما نقل راديو "صوت أمريكا" عن توماس حوتشيك السفير الأمريكي لدى جنوب السودان، قوله: إن واشنطن "لن تستمر في تمويل اتفاقيات السلام التي يتم انتهاكها من قبل أطراف الحرب الأهلية التي دخلت عامها الخامس في جنوب السودان".

وأضاف، أن الحكومة والمتمردين الذين وقعوا اتفاق تنشيط السلام في أديس أبابا وتم إعلانها من الخرطوم، عليهم أن يظهروا التزاما حقيقيا بإنهاء العنف، والسماح بوصول العاملين في المجال الإنساني دون قيود، والإفراج عن جميع السجناء السياسيين. وأكد السفير الأمريكي أن بلاده لا يمكنها أن تستمر في دعم الاتفاقيات المعطلة، قائلا: "إذا أثبتت هذه الاتفاقية أنها قابلة للتنفيذ - فأعتقد أننا سنتمكن من رؤية ذلك - وسيتعين على أطراف النزاع إثبات التزامها، والعالم سيلتزم معهم".